الهجرة والإسلام والهوية الوطنية في الانتخابات الفرنسية
موقف اليمين الجمهوري وخلفياته
إقصاء الآخر وبناء الهوية الوطنية
موضوع الهجرة والمهاجرين ليس ضيف اللحظة الأخيرة في الخطاب السياسي الفرنسي، فهو مجال قائم الذات في الحياة السياسية الأوروبية عموما منذ أزمة الثمانينات الاقتصادية، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
لكن السياق الفرنسي الحالي طرح المشكل في خضم حدثين مهمين، يتمثل أولهما في الاضطرابات التي عاشتها ضواحي الهجرة بالمدن الفرنسية أواخر عام 2005 والتي استغلتها أطراف من اليمين لتعيد طرح القضية من منظور عنصري.
أما الثاني فهو إعلان المرشح اليميني الأوفر حظا في الفوز بالانتخابات الرئاسية الحالية نيكولا ساركوزي، عن نيته إحداث وزارة للهجرة وللهوية الوطنية في حال توليه مهام رئاسة الجمهورية.
أحدث هذا التصريح ضجة لدى المراقبين وخاصة لدى المهتمين بحقوق الإنسان، لما فيه من أبعاد قد تشجع الخطاب العنصري ضد المهاجرين وخاصة المسلمين منهم، كما أنه أعطى دفعا جديدا للحملة الانتخابية وللنقاش السياسي في بلد تعد فيه المناظرة والسجال تقليدا عريقا.
ما هي خلفيات هذا السجال؟ وما سر هذا الربط بين الهجرة والإسلام وبين الهوية الوطنية الفرنسية؟
" ساركوزي وفريقه المحيط به يرون أنه من الضروري إحداث جهاز يعنى بمراقبة الهجرة، لأن فرنسا ليست مجبرة على قبول هجرة مفروضة، بل من حقها اختيار من تريد من المهاجرين إليها " |
موقف اليمين الجمهوري وخلفياته
قدم ساركوزي هذا المقترح كتتويج لمسيرته على رأس وزارة الداخلية الفرنسية، حيث أقر قانونا جديدا للهجرة تميز بتشدده، كما أرسى علاقة جديدة بين جهاز الأمن والضواحي المهمشة في المدن الكبرى، حضر فيها مفهوم الصرامة والقانون وغاب عنها كل مجهود للحوار والتواصل.
يرى ساركوزي وفريقه المحيط به أنه من الضروري إحداث جهاز يعنى بمراقبة الهجرة، لأن فرنسا ليست مجبرة على قبول هجرة مفروضة، بل من حقها اختيار من تريد من المهاجرين إليها.
كما يرون أن الهجرة أصبحت تمثل تهديدا للهوية الوطنية الفرنسية، وهو ما يبرر اقتراح إحداث وزارة تعنى بالهجرة والهوية.
ويستند هذا الموقف حسب رأيهم إلى التفسخ الحالي لعناصر الهوية الوطنية الفرنسية. ويسوقون كمثل على ذلك وضع اللغة الفرنسية في الضواحي، حيث يتكلم الشبان حسب رأيهم فرنسية هجينة وبذيئة تلاحظ بسهولة من خلال كلمات موسيقى الراب.
إضافة إلى اللغة، يرى اليمين الفرنسي أن حب فرنسا عنصر أساسي في الهوية الفرنسية ولكل من يريد أن يكون فرنسيا. وهو يطرح هذه المسألة على خلفية أن مظاهر العداء لفرنسا تعددت وأن الهجرة هي السبب في ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، وما التهديد الإرهابي ونمو الخلايا الإسلامية إلا نتيجة للهجرة.
كما أن أحداث الضواحي في أكتوبر/ تشرين الأول 2006 وما صاحبها من مواجهات مع السلطات الأمنية ومن حرق للمؤسسات، تخفي حقدا دفينا لدى المهاجرين -المسلمين بالخصوص- ضد فرنسا.
ولا يتورع بعض الساسة اليمينيين وبعض الصحفيين من الاستشهاد بمقابلة كرة القدم الودية بين الفريق الفرنسي والفريق الجزائري، حيث هتف الجمهور الجزائري ضد النشيد الرسمي الفرنسي قبل أن يقتحم الميدان وينهي المقابلة قبل أوانها عندما كان المنتخب الفرنسي متقدما.
لم ير هؤلاء في هذا الحادث سلوكا عاديا ألفته ساحات كرة القدم في كل أنحاء العالم، بل تم الارتقاء به إلى مرتبة الحقد على بلد بكامله والتلميح إلى ما يشبه الخيانة العظمى من طرف الفرنسيين من أصل جزائري.
حتى أن الكاتب ألان فنكلكروت المحسوب جزافا على النخبة المثقفة الفرنسية والمعروف بدفاعه غير المشروط عن السياسة الإسرائيلية، رأى في تصرف مشجعي الفريق الجزائري وكذلك في أحداث الضواحي الباريسية عنصرية ضد العنصر الأبيض في المجتمع الفرنسي.
ووصل به الأمر إلى تمرير عريضة تندد بعنصرية المهاجرين المغاربة والأفارقة ضد البيض. إنها إستراتيجية "تحويل الجلاد إلى ضحية" المألوفة لدى هذا الكاتب ولدى الدوائر المحيطة به.
وبحسب اليمين الفرنسي فإن العلمانية -هذه القيمة التي تعتز بها النخبة الفرنسية- مهددة بدورها من جراء الحضور المكثف للإسلام السياسي ولبعض التقاليد المنحدرة من الهجرة.
ويسوق دعاة هذا الموقف أمثلة عديدة من بينها محاولة فرض الحجاب في المدارس الحكومية الفرنسية، أو اعتداء أحد المهاجرين المغاربة على طبيب كان يقوم بعلاج زوجته بدعوى أنه يحبذ طبيبة للقيام بذلك.
كما وجد رأي اليمين من الهجرة وضعية ملائمة للبروز في سياق النقاش الذي صاحب إعادة نشر رسوم الكاريكاتير الدانماركية في إحدى الصحف الفرنسية.
وأعيد طرح موضوع موقع الإسلام من التقاليد العلمانية الفرنسية على طاولة الحوار، للخروج في النهاية بمحاكمة للهجرة وللمهاجرين.
يمكننا أن نضيف هنا عناصر اجتماعية للهوية الفرنسية يؤكد عليها الخطاب اليميني باعتبارها نقطة تمايز عن المهاجرين.. منها مسألة تعدد الزوجات.
فرغم قلة حالات تعدد الزوجات لدى الجالية المسلمة في فرنسا، وهذا راجع إلى ضبابية السياسيين في التعامل مع هذه المسألة الممنوعة قانونا وخاصة لدى الاشتراكيين لأسباب انتخابية، نرى بعض الكتاب والصحفيين والسياسيين يلحون على خطر هذا السلوك الاجتماعي على التقاليد الفرنسية.
" المتتبع للخطاب السياسي الفرنسي المؤكد على مفاهيم الجمهورية والعلمانية وحب فرنسا، ينتهي في كل مرة إلى الحديث عن الإسلام والمسلمين وصعوبة اندماجهم مع مبادئ الحداثة، لينتهي إلى المطالبة بضرورة تغيير الإسلام وكأن تغيير أي دين متوقف على قرار سياسي " |
وقد وصل الأمر ببعضهم إلى اعتبار تعدد الزوجات من بين العوامل التي تفسر المواجهات التي شاهدتها ضواحي باريس نهاية عام 2005.
لقد أصبحت مسألة العلاقة بين الهجرة والهوية الوطنية الفرنسية مختزلة في السؤال التالي: ماذا يعني أن تكون فرنسيا؟ والجواب عن هذا السؤال حسب اليمين السياسي يكمن في تبني رموز الهوية الفرنسية مثل اللغة والعلَََم والنشيد الرسمي (المسمى لامرسيياز La marseillaise)، ثم العلمانية والنظام الجمهوري.. كل هذا في إطار حب ظاهر للوطن فرنسا.
الغريب في الأمر هنا أن رد المرشحة الاشتراكية سيغولين رويال لم يكن في حجم خطورة مقترحات منافسها، بل إنها ردت على ذلك بالالتفات هي الأخرى إلى رموز الهوية الفرنسية بتعلة كسر احتكار اليمين لها، وكأنها توافق ضمنا على محتوى الهوية كما قدمه منافسها، إذ هي تؤكد بدورها على حب فرنسا وعلى العلَم وغيره من العناصر المذكورة.
ورغم تعاطفها مع المهاجرين والفرنسيين من ذوي الأصول المهاجرة فإنها موافقة ضمنا على طرح مسألة الهوية في سياق انتخابي مع ما يحمله ذلك من خطر تبسيط هذا الموضوع الشائك.
إقصاء الآخر وبناء الهوية الوطنية
كي نفهم أكثر طبيعة النقاش الانتخابي الفرنسي حول مسألة الهجرة والهوية الوطنية ونستوعب خطورته، لا بد من تجاوز المستوى السياسي الظرفي ومن تلمس امتداداته على المستوى الثقافي العام حتى خارج حدود فرنسا الجغرافية.
المشكل الأول الذي يطرحه اقتراح المرشح ساركوزي هو هذا الربط غير البريء بين الهجرة والهوية الوطنية، ذلك أنه مبني من ناحية على خلفية تهديد الهجرة للهوية الوطنية الفرنسية، ثم من ناحية ثانية على خلفية اختلاق تعارض بين الأنا (الهوية الوطنية) والآخر (الهجرة).
يذكرني هذا التعارض المشبوه بين معطى الوطن المهدد والهجرة المتربصة به، بسياق كنت قد عايشته في أحد بلدان الخليج.
في ذلك السياق الخليجي كان الخطاب أكثر وضوحا لأنه كان يعبر عن موقف رسمي متفق حوله في ظل وضع تغيب فيه مؤسسات الدفاع عن المجتمع المدني.
فالحديث عن تهديد الهجرة للغة الفرنسية من جراء الهجرة في حالة فرنسا، يقابله تهديد الوافدين الآسيويين للغة العربية وللتقاليد العربية والإسلامية في السياق الخليجي.
كما أن اعتبار الهجرة أحد أسباب البطالة في فرنسا يقابله خطاب رسمي في بلدان الخليج حول التوطين، في حين أن الربط بين الهجرة والمشاكل الاجتماعية يبرز في كلتا الحالتين ولو بشكل أكثر مباشرة في الحالة الخليجية.
وأنا أتذكر أنني كنت في كل مرة أريد تجديد إقامتي في ذلك البلد الخليجي أتصل بقسم لوزارة الصحة يسمي "قسم الأمراض الوافدة" وكأن غاية التسمية هي إعطاء صورة سلبية إن لم نقل كارثية عن الوافدين.
لكن، إن تفهمنا خصوصية السياق الخليجي باعتبار غياب تقاليد حقوق الإنسان وباعتبار حداثة عهد مؤسسة الدولة، يبقى السؤال مطروحا حول انزلاق الساحة السياسية الفرنسية نحو خطاب عنصري معلن.
قد نجد جزءا من الإجابة عن هذا السؤال في وضع عام تمر به أوروبا في ظل الفتور الاقتصادي وتنامي خطر الإسلام السياسي، فهذه الإشكالية مطروحة بحدة في إسبانيا وهولندا وبدأت تطرح حتى في الدول الإسكندنافية التي ظلت بمنأى عن مشاكل الهجرة.
القضية مطروحة كذلك في الولايات المتحدة، ولكن التهديد لا يأتي من العرب ومن الأفارقة في هذه المرة بل من مهاجري أميركا اللاتينية (Latinos).
ليس من الغريب أن يضع صامويل هانتنغتن كعنوان لكتابه الأخير سؤال "من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأميركية"، فهو يعيد نفس الملاحظات الواردة في الحالة الفرنسية وكذلك الخليجية، باعتبار المهاجرين اللاتينيين غير قابلين للاندماج مع الثقافة الأنغلوساكسونية، كما أن ولاءهم الدائم لدولهم يهدد الأمن الوطني الأميركي.
في إطار استعراض الظروف العامة لانتشار هذا الخطاب لا بد من استحضار نقطتين هامتين: تتمثل الأولى في نهاية الحرب الباردة التي ساهمت في تراجع النقاش الأيدولوجي والفلسفي النظري الذي كان يركز على إشكالية العدالة الاجتماعية ومفهوم الحقوق والحرية، باستبداله بنقاش حول الهوية الثقافية والخصوصية الوطنية.
وقد أدى هذا في النهاية إلى تحييد جانب كبير من المفكرين النوعيين المبدعين في مجال الثقافة العالمية الكونية لصالح فئة جديدة من المفكرين التابعين للأجهزة الإعلامية وللسياسيين، وهم في الغالب مفكرون آنيون يولون أهمية أكبر للبرغماتية السياسية على حساب التفكير المتأني والإنساني.
" التاريخ أثبت أن المزايدة السياسية حول الهوية الوطنية ومحاولة بنائها المتشنجة تنتهي حتما إلى خطاب لإقصاء الآخر لأسباب ثقافية أو عنصرية " |
أما الثانية فمرتبطة بالنتيجة العكسية للعولمة، إذ بقدر ما ساهم توسع الاستفادة من وسائل النقل ومن انتشار المعلومات وبالتالي من تراجع دور الحدود الجغرافية والسياسية، نلاحظ في نفس الوقت تصاعدا لنوع من الانكفاء حول الهويات الثقافية وحول القوميات.
ربما يمكننا ذلك من فهم الخطاب حول الهوية الوطنية في فرنسا وفي غيرها من البلدان على أنه مجرد رد فعل على عولمة آتية لا محالة على خصوصية الكيانات الوطنية.
بغض النظر عن الأبعاد السياسية لمبادرة ساركوزي حول الهوية يبقى الإشكال تقنيا بالأساس، لأن الوزارة مؤسسة لإدارة جانب من جوانب اختصاص الدولة، أي جوانب واضحة وقابلة للتقييم العددي، مثل التعليم والشغل والخارجية وغيرها من مجالات الدولة.
فهل الهوية الوطنية قابلة للإدارة العقلانية عن طريق وزارة حديثة؟ الجواب بالتأكيد لا، لأن الهوية الوطنية نتاج لتراكم التجربة التاريخية، فهي كمعطى تاريخي منفتحة بالضرورة على الآخر، ومن المستحيل أن تنطبق هذه الهوية بشكل مطلق على الحدود الجغرافية والسياسية للوطن.
للخروج من هذا المأزق يجيب أنصار التشدد ضد المهاجرين بأن الهوية الوطنية الفرنسية تعني أولا تبني رموزها التاريخية التي أشرنا إليها في البداية.
لكن بالعودة إلى هذه الرموز نرى أنها قبل أن تكون عناصر مكونة للهوية الوطنية، هي وسيلة لتشكيل صورة الآخر من خلال تمايزه الطبيعي عن الذات الفرنسية.. ذلك الآخر بامتياز هو الإسلام.
فالمتتبع للخطاب السياسي الفرنسي المؤكد على مفاهيم الجمهورية والعلمانية وحب فرنسا، ينتهي في كل مرة إلى الحديث عن الإسلام والمسلمين وعن صعوبة اندماجهم مع مبادئ الحداثة. ومن هنا جاءت بعض المطالب الموغلة في الغباء لتطالب بضرورة تغيير الإسلام، وكأن تغيير أي دين متوقف على قرار سياسي يتم اتخاذه في لحظة ما.
مثل هذا الموقف يحجب حقيقة بادية للعيان في فرنسا -كما هي في المجتمعات الغربية الأخرى- تتمثل في التفاعل الإيجابي لجانب كبير من المهاجرين ذوي الأصول الثقافية الإسلامية مع محيطهم، وذلك باعتبارهم فاعلين اجتماعيين أكثر من كونهم مؤمنين بمبادئ عقائدية معينة.
فالتفاعل العفوي والإيجابي لقسم كبير من المسلمين مع الوضع العلماني يمر في صمت، لأن إبرازه يلغي صورة الإسلام كآخر نقيض للأنا الأوروبي.
نضيف إلى ذلك أن تحديد الهوية الوطنية الفرنسية في بعض العناصر يلغي تنوع المجتمع الفرنسي نفسه، إذ إن مبدأ الجمهورية يعد لدى أقصى اليسار الفرنسي مجرد مفهوم برجوازي أمام العالمية الاشتراكية. كما أن نفس هذا اليسار يفضل ترديد نشيد الأممية على النشيد الوطني الفرنسي.
أما اعتبار الثورة الفرنسية جزءا من التراث المكون للهوية الوطنية الفرنسية، فينتهي حتما إلى إقصاء سكان الأراضي الفرنسية في كاليدونيا الجديدة وفي جزر المحيط الهندي والأطلسي التي ليست لها علاقة مباشرة بهذه الثورة.
لقد أثبت التاريخ أن المزايدة السياسية حول الهوية الوطنية ومحاولة بنائها المتشنجة، تنتهي حتما إلى خطاب لإقصاء الآخر لأسباب ثقافية أو عنصرية. فالخطاب حول الهوية الوطنية يبقى في النهاية شكلا من أشكال الكليانية (الزبونية) الثقافية.
__________________
كاتب تونسي
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.