الصيرورة التاريخية لأزمة الذهنية السياسية السورية
تستدعي الأزمة التي تمر بها سوريا حاليا إعادة التأمل في تجربة الحكم والسياسة في هذا البلد، وذلك انطلاقا من فرضية تقول إن الأزمة الحالية بنيوية ومركبة، وهي نتاج طبيعي للسياقات التي تمت من خلالها إدارة الشؤون السياسة في سوريا، بل وإفراز طبيعي للذهنية السياسية التي تحكمت في البلد وسيرته.
" وصول العسكر إلى سدة الحكم في سوريا حرف السياسة إلى مجرد ممارسات أمنية همها الأساسي التغلب على الخصم أو العدو سواء كان شخصا أم حزبا أم حكومة، فتوقفت كل إمكانية للتنمية السياسية والاقتصادية " |
من المعروف أن سوريا كانت من أوائل الدول في العالم النامي التي تشكلت فيها طبقة سياسية وطنية واسعة، ذات طيف سياسي متعدد الألوان بتعدد تياراته واتجاهاته، فقد نشأ فيها منذ نهاية القرن الـ19 تيار قومي ناشط "علماني إلى حد ما" نتيجة التأثر بالتيارات الفكرية الوافدة على المنطقة تحت ستار البعثات التعليمية والتبشيرية التي كانت بيروت مركزها.
وقد كان لهذا التيار أثره المباشر في قيام ثورة 1916 أو ما يسمى بالثورة العربية للتخلص من الاحتلال التركي الذي دام قرونا في المنطقة.
كما شهدت سوريا في نفس الفترة بداية ظهور التيارات الماركسية والإسلامية والوطنية التي ستعبر عن نفسها بوضوح في المراحل المتقدمة من الاستعمار الفرنسي لسوريا، حين تبلورت هذه التيارات، خاصة الماركسية الوطنية على شكل أحزاب وكتل، وكان لها تأثير واضح في رسم سياسات سوريا وتوجهاتها.
ولم يكن هذا الواقع السياسي الناشئ سوى انعكاس حقيقي للواقع الاجتماعي المتطور واستجابة طبيعية لحراكه، ولواقع موازين القوى المرتسمة في إطاره.
فقد شهدت هذه المرحلة بروز البرجوازية الوطنية السورية التي تكونت في غالبيتها من التجار والإداريين، وكان هؤلاء في مجملهم من الذين اصطدموا بالحضارة الغربية، سواء بالسفر أم بالتعلم أو بالعمل في إدارات الدول المنتدبة.
ولقد تمت ترجمة هذا التطور السياسي والاجتماعي في وعي النخب الصاعدة وسلوكها السياسي، وظهر مدى تأثرها بالحضارة الغربية من خلال عملها على تطوير الهياكل السياسية والإدارية للدولة عبر محاولتها إصدار أول دستور سوري عام 1920، وتضمينه هذه المعاني كالمطالبة بالديمقراطية وبحكومة برلمانية، وبإعادة التأكيد على هذه القضايا في دستور 1930، وكذلك في مطالبتها بالاستقلال وبتشكيل الدولة الوطنية السورية.
غير أن هذا الحراك السياسي والاجتماعي لم يلبث أن تحول إلى وضع قائم (أستاتيكو) مرعب، فاكتشف السوريون أن جملة المشاريع التي طرحتها النخب السياسية والاجتماعية في تعبيراتها المختلفة ما هي في نهاية الأمر سوى نزعات ورغبات، وحتى ممارسات ذات طابع محافظ يراد منها الحفاظ على الوضع الذي آلت إليه الأمور، عبر تثبيت صيغة معينة في الحكم الاجتماعي والعلاقات بين مختلف الفئات والطبقات أو باختصار محاولة لشرعنة الفرز الاجتماعي المبني على أسس اقتصادية بالدرجة الأولى وتثبيت هذا الواقع.
ولا شك بأن هذه المسألة كانت تحمل في طياتها الكثير من الإشكاليات، كما كانت تحمل نذر مواجهة مقبلة، إذ دفعت رغبة النخب الحاكمة في المحافظة على هذا الواقع إلى محاولة تعطيل ونزع مفاعيل الحراك الاجتماعي والسياسي السوري.
وهذا الأمر أوصل البلاد إلى أزمة دستورية وسياسية تجلت في عدم قدرة البرلمان على إقرار مشاريع بعض القرارات نتيجة الصراع الحاد بين الحزبين الرئيسيين في ذلك الوقت "الحزب الوطني" و"حزب الشعب" وبعض الأحزاب الناشئة كحزب البعث والحزب الشيوعي وحزب الإسلاميين، واتخذت تلك المواجهة مشروع أنابيب نفط التابلاين واجهة لها، فتمخضت هذه الأزمة عن أول انقلاب عسكري قاده حسني الزعيم.
وكان وصول العسكر إلى السلطة يعني في أحد أهم معانيه رفض فكرة المحافظة على الأوضاع القائمة وثورة ضد شرعنتها، كما كان تعبيرا صادقا عن صعود بعض القوى الاجتماعية ورفض تهميشها، خاصة أبناء الريف والبرجوازية المدنية الصغيرة.
ومع وصول العسكر إلى سدة الحكم في سوريا بكل تلاوينهم وانتماءاتهم الحزبية والمناطقية ستنحرف أو تتحول السياسة في سوريا إلى مجرد ممارسات أمنية همها الأساسي التغلب على الخصم أو العدو سواء كان شخصا أم حزبا أم حكومةً.
وبذلك توقفت كل إمكانية لتنمية سياسية أي توقفت قضية "دولنة" سوريا، بمعنى تطوير أطر وهياكل الدولة ومأسستها بشكل عصري وعلمي يجعلها دولة مواطنين قادرة على بناء علاقاتها وتفاعلاتها مع بيئتها الإقليمية ومجتمعها الدولي.
" طبيعة الفكر السياسي وواقع الذهنية السياسية في سوريا هي أساس الأزمة التي تعيشها البلاد نتيجة عجزها عن إيجاد صيغة معينة للمعالجة السياسية التي قد تخرج سوريا من شرنقة أزمتها السياسية " |
ثم تتحول العملية السياسية إلى ما يمكن تسميته بجدارة سلوك إدارة الأزمات التي يمر بها النظام السياسي، وتطوير قدراته الأمنية بشكل خاص من خلال توظيف طاقات البلد وإمكانياته لخدمة هذا الهدف، وبالتالي فبدلا من أن يتم تراكم الخبرات والتراث السياسي المؤسسي تم تراكم الانحرافات والمعالجات الخاطئة.
وكان من الطبيعي أيضا أن يهيمن أسلوب المعالجة الأمنية المطلقة على السياسة الخارجية، وفي هذا الإطار كانت هناك محاولات دائمة لاختزال الأزمات مع البيئة الإقليمية والدولية في شكل أشخاص، فكانت الأزمات هي شارون وريغان وميتران وصدام وصولا إلى ميليتس.
والحروب غالبا ما تدور حول هذه الشخصيات بأدوات معينة كالتهكم، وتسقط الأخبار وانتظار انتهاء الولاية أو السقوط في الانتخابات، ليتوج الاحتفال على هؤلاء الأعداء الرمزيين ولكن مع بقاء قضايا الصراع الأساسية قائمة ومستفحلة.
وهكذا تتم مأسسة الأزمة وترسيخها في الواقعين السياسي والاجتماعي عبر الآليات التي تتحكم فيها السلطة وتسيطر عليها كالإعلام والبرلمان.
كما أن إمكانيات وطاقات البلد تعمل على تمويل هذه الآليات "هذا الانجراف" في السياسة، لتتفاقم الأزمة وتتحول إلى مشكلة خطيرة تهدد بالانفجار الدائم أمام أي محاولة لمعالجة هذه الأوضاع، وبالتالي تصبح الحالة السورية برمتها صادرة عن وضع مأزوم.
وفي كل الأحوال يتضح أن طبيعة الفكر السياسي وبالتبعية واقع الذهنية السياسية في سوريا، أيا تكن مشاربها وتوجهاتها هي أساس الأزمة التي تعيشها البلاد، وذلك نتيجة لعجزها عن إيجاد صيغة معينة للمعالجة السياسية التي قد تخرج سوريا من شرنقة أزمتها السياسية التي وضعتها في حال من الإحساس بالتوتر الدائم ونوع من القلق المصيري، سواء في أوساط النخب المسيسة أو في الأوساط الشعبية.
وبقيت سوريا تعيش هاجس الصراع، إن عليها أو معها، أو ضد المشاريع التي كانت ستجد لها مسميات كثيرة "المشروع الهاشمي" و"حلف بغداد" و"المشروع الإسرائيلي" و"المشروع الأميركي".
وكل ما ستفعله الذهنية السياسية السورية هو أنها تضخم من ذلك الإحساس بالتوتر والقلق، ليصار أيضا إلى تنمية انحراف السياسة، سواء بقصد أم بغير قصد، ويتم نتيجة ذلك تعبئة الموارد والطاقات، وتحويل الجهود إلى الطريق الخطأ، بحيث لن تتسنى الإفادة من الواقع الجغرافي والخبرة التاريخية وحال التنوع الثقافي.
بل ستتحول تلك المزايا إلى عناصر للأزمة السورية المديدة، فتصبح جغرافية سوريا سبب الصراع عليها ومعها، ويصبح تراث سوريا وتاريخها سيفا مصلتا على رقبتها يحرمها من مداولة السياسة بمعناها العصري، بحجة أن دمشق قلب العروبة النابض ونبراسها منذ أيام معاوية بن أبي سفيان، مرورا بصلاح الدين وحتى حافظ الأسد.
كما أن حالة التنوع الثقافي والعرقي ستصبح عبئا على الحكم الذي لن يجد أسلوبا للتعاطي معها، سوى وضعها ضمن قوالب وشعارات فارغة مصطنعة وقسرية.
وبالطبع فإن التأثير المباشر لحالة الانسداد التي أفرزتها الارتباكات المتتالية للذهنية السياسية السورية أو أقله أوقعت نفسها فيها ستلاقي ترجمتها المباشرة في اللبس التاريخي لقراءة المتغيرات الدولية والإستراتيجيات الحاكمة التي تقف وراءها، وفي عدم التمييز بين ما هو ثابت وما هو متحول.
" واقع ممارسة السياسة السورية أثبت على الدوام أن الأزمات التي كانت تتجاوزها سوريا كانت تؤسس لأزمات أخرى أعقد وأكثر مأزقية، لأن المعالجات لم تكن تركز على القضايا الإشكالية الأساسية، بل على هامش تلك القضايا " |
وقد بدا ذلك واضحا في سياسة سوريا الخارجية وإستراتيجياتها وأنماطها وتركيبتها وسلوكها السياسي الخارجي وأسلوب صوغ تحالفاتها وإدارة صراعاتها في البيئتين الإقليمية والدولية.
وأكثر ما تجلى ذلك اللبس في عدم التمييز بين راهنية توجهات السياسة الخارجية لبعض الدول تجاه سوريا وقراءة أبعادها ومضامينها المستقبلية، وطبيعة النسق الدولي الذي تصدر عنه هذه السياسات ومدى حجم التغير والثبات في قيمته وبنيانه.
من هنا فكثيرا ما اعتقد صانع القرار في سوريا أن بعض الأدوار والوظائف التي أنيطت ببلاده في لحظات سياسية معينة، إنما هي تعبير عن محورية وأهمية الدور السوري، وليست مجرد تفصيل سياسي في إطار إستراتيجية أبعد.
وحتى في هذا الإطار، لم تتم الإفادة من تلك الفرص ولا تطويرها بحيث يمكن تحويلها إلى ثابت في الواقع الإقليمي.
أما على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي فإن حالة الارتباك ستجد ترجمتها المباشرة أيضا في حالة التخبط الاقتصادي الذي سيلحق الضرر بالاقتصاد القومي عبر تبني أنماط اقتصادية غير واضحة المعالم، فضلا عن عدم جدواها في إحداث التنمية المطلوبة، وكذلك عدم فعاليتها في إحداث الحراك الاجتماعي المطلوب والمرغوب فيه لإحداث تنمية اقتصادية اجتماعية حقيقية.
وكل ما سيفعله هذا السلوك هو ترفيع أشخاص وليس فئات ولا شرائح أو طبقات بطريقة عشوائية، على حساب التنمية الشاملة للمجتمع السوري، غير الإفادة من علاقات الاستزلام والاسترزاق للبعض.
وربما يقول قائل إن الدبلوماسية السورية استطاعت على الدوام أن تعالج الأزمات التي مرت بها سوريا بحنكة وبراعة مشهودة، وقد يكون ذلك صحيحا بمنظور نسبي، بمعنى أن سوريا استطاعت تجاوز استحقاقات بعض الأزمات وإبطال مفاعيل بعضها الآخر.
غير أن واقع ممارسة السياسة السورية أثبت على الدوام أن الأزمات التي كانت تتجاوزها سوريا كانت تؤسس لأزمات أخرى أعقد وأكثر مأزقية.
والسبب في ذلك يعود إلى حقيقة أن المعالجات كما ذكرنا لم تكن تركز على القضايا الإشكالية الأساسية، بل على هامش تلك القضايا وفي محيط قشورها والاكتفاء بتحقيق انتصارات شكلية غالبا ما يتم توظيفها لتحسين صورة النظام السياسي الحاكم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.