الرباعية وعقدة الاعتراف

الرباعية وعقدة الاعتراف



– القرار: لا قرار
– نماذج تاريخية
– الشعب مصدر القرار

رغم التجاوب النسبي في بعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، وحتى ألمانيا جزئيا، مع اتفاق مكة وتشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة، لم يتجاوز الموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي بعد قمته الأخيرة كثيرا الموقف الغامض الصادر عما يسمى اللجنة الرباعية الدولية.

فهو إلى جانب الحديث عن بعض التعاون أو التواصل، كان تكرارا لتأكيد المطالبة بتلبية مطالب المجتمع الدولي، والمقصود شروط اللجنة الرباعية، وفي مقدمتها "الاعتراف"، ليبقى هو العقدة الرئيسية في التعامل مع قضية فلسطين من جانب القوى الدولية.


"
إشكالية الاعتراف المطلوب بأسلوب إملائي مقترن بضغوط الحصار ليست مسألة موقف سياسي من جانب حماس أو مسألة خلاف قانوني دولي بقدر ما هي حلقة من حلقات المساعي المبذولة للمضي خطوة أخرى بالمشروع الصهيوني في المنطقة
"

القرار: لا قرار
الأميركيون أوضح من سواهم في ربط أي قرار للتعامل مع الحكومة الفلسطينية بمواصلة ضغوط التطويع والتجويع، لإكراه منظمة المقاومة الإسلامية حماس على موقف سابق لأي مفاوضات، تكون إذا أقدمت عليه فعلا فقدت مسوغ وجودها، كما حدث مع منظمة التحرير الفلسطينية قديما، عندما تحولت تدريجيا إلى طرف في "نزاع" تحكمه القوة المجردة بين أطراف غير متكافئة.

وأراد الروس الإفادة من معالم الهزائم الأميركية على امتداد المنطقة الإسلامية والتراجع الملموس على مستوى الانفراد في صناعة القرار الدولي، وأن يجعلوا من قضية فلسطين أحد مداخل نفوذ سبق أن فقدته موسكو بسقوط الشيوعية.

لذلك طرحوا فكرة عقد مؤتمر دولي شامل جديد على أمل أن يقوم على أرضية المعطيات الجديدة، مع إظهار الاستعداد لإنهاء الحصار الجائر، بينما أظهر الاتحاد الأوروبي شيئا من المرونة بما يوازي -وفق المقاييس الغربية- حجم المرونة الذي أظهرته حماس بين كلمتي "احترام.. والتزام"، وكلمتي "اعتراف واقعي.. واعتراف دولي".

وخلص الجميع إلى "اتخاذ قرار بتأجيل اتخاذ قرار" إلى أن يكتمل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، مع قابلية أن ينعقد اللقاء التالي للرباعية بمشاركة أطراف عربية.

ولم يمنع الاختلاف أن يكرر الجميع مطالبة حماس بالاعتراف.. فعلام هذا التركيز الكبير والمشترك على "الاعتراف" في هذه المرحلة من مجرى أحداث القضية؟

الواقع أن إشكالية الاعتراف المطلوب بأسلوب إملائي مقترن بضغوط الحصار ليست مسألة موقف سياسي من جانب حماس أو مسألة خلاف قانوني دولي، بقدر ما هي حلقة من حلقات المساعي المبذولة للمضي خطوة أخرى بالمشروع الصهيوني في المنطقة، مع مواصلة استخدام منطق القوة أولا وأخيرا.

إنما لم يعد يكفي لبيان ذلك مجرد الإعلان عنه مرة بعد أخرى، ناهيك عن وضعه في قالب تأييد حماس أو عدم تأييدها، والحديث عن صحة ثوابتها أو عبثيتها، وكأن قضية فلسطين هي قضية حماس أو فتح أو منظمة التحرير الفلسطينية، أو أي منظمة من المنظمات والفصائل الفلسطينية، وليست قضية شعب وأرض ومصير وعروبة وإسلام.


نماذج تاريخية
الصين الوطنية دولة كانت تحتل مقعدا دائما في مجلس الأمن الدولي، فبقيت زهاء ثلاثة عقود بعد الحرب العالمية الثانية تحظى بأعلى درجة من درجات ما يوصف بالاعتراف القانوني الدولي.

وعندما أصبح التعامل مع الصين الشعبية هو الذي يحقق مصالح الدول الغربية، تحول الاعتراف "القانوني الدولي" إلى الصين الشعبية، ومع ذلك فإن إقدام واشنطن على سحب اعترافها من الصين الوطنية لم يمنعها، ولا يمنعها حتى الآن من التعامل معها، حتى أصبح استمرار وجودها مرتبطا باستمرار وجود المظلة العسكرية الأميركية الوقائية فوقها.

ولم يعترض أحد من الدول الغربية ولا من داخل الولايات المتحدة الأميركية على هذا التعامل الشامل لمختلف الميادين، دون وجود اعتراف قانوني دولي.

الجمهورية الألمانية الاتحادية التي عرفت بألمانيا الغربية دخلت في مفاوضات مباشرة وعلاقات اقتصادية وغير اقتصادية مع الجمهورية الألمانية الديمقراطية، التي عرفت بألمانيا الشرقية، واستمرت المفاوضات سنوات عديدة، دون أن تقترن باعتراف "قانوني دولي"، رغم أنها كانت تحظى باعتراف العدد الأكبر من دول العالم.

"
الاعتراف لا يكتسب هذه الصفة بمقاييسها المعتبرة إلا بشروط عديدة، في مقدمتها أن تكون الجهة التي تعلن الاعتراف جهة تعبر فعلا عن الشعب الذي تتحدث باسمه، ومن ذلك أن تعبر عنه بمجموعه، وبتفويض واضح الدلالة يعطى لها بوسيلة مشروعة
"

ثم أسفرت المفاوضات عن نشوء ألمانيا الموحدة بضم الشرقية إلى الغربية، وليس عن صلح أو اتفاق أو تعايش، ولم يطرح أحد آنذاك إشكالية الاعتراف أو عدم الاعتراف في صيغة اعتباره شرطا للتعامل مع الحكومة الألمانية الغربية أثناء المفاوضات، ناهيك عن المقاطعة والحصار وما شابه ذلك.

المعسكر الغربي تعامل مع الاتحاد السوفياتي قبل انهياره زهاء 50 عاما، دون أن يعترف اعترافا قانونيا دوليا بأن دول البلطيق الثلاث تتبع له ولحدوده الرسمية، بل اعتبرها مناطق محتلة، وكانت أولى الدول التي حصلت على الاستقلال مع سقوط الشيوعية.

والأمثلة كثيرة، وجميعها مما يسمى القانون الدولي التطبيقي، أي ما يشمل الاتفاقات والمعاهدات وتبادل السفارات وغير ذلك، وجميعها يؤكد وجود فسحة كبيرة للتعامل مع طرف قائم على أرض الواقع -كحماس- دون أن يشترط عليه الاعتراف القانوني الدولي بطرف آخر.

وبالعودة إلى القانون الدولي العام، أي نصوص المبادئ العامة في المواثيق الدولية الأساسية، لن نجد إشكاليةً مماثلة، بل نجد إشكالية أهم وأبعد مغزى، وهي أن الاعتراف -وإن وصف تجاوزا بالقانوني الدولي- لا يكتسب هذه الصفة بمقاييسها المعتبرة إلا بشروط عديدة، في مقدمتها أن تكون الجهة التي تعلن الاعتراف جهة تعبر فعلا لا شكلا، وتفويضا لا استبدادا عن "الشعب" الذي تتحدث باسمه، ومن ذلك أن تعبر عنه بمجموعه، وبتفويض واضح الدلالة يعطى لها بوسيلة مشروعة.

مثال آخر على ذلك ما رافق إعادة توحيد ألمانيا، فقد سبق أن عقدت حكومة ألمانيا الشرقية سلسلة اتفاقات مع دول شرقية أخرى تعترف بموجبها اعترافا "قانونيا دوليا" -كما وصف في حينه- بالحدود القائمة نتيجة الحرب العالمية الثانية، أي بأن جزءا من أراضي ألمانيا التاريخية أصبح يتبع لدول أخرى لا سيما بولندا.

وعندما جرت مفاوضات الانفراج مع ألمانيا الغربية أعطت حكومتها اعترافا مشابها، ولكن بولندا رفضت الاكتفاء بهذا وذاك، بل طالبت باتفاقية جديدة، تنعقد مع حكومة ألمانيا الموحدة، أي تلك التي أنتخبت بعد وحدة ألمانيا وبعد طرح مسألة الحدود والأراضي المعنية علنا قبل التصويت لتتوفر شروط التفويض "على بينة للناخبين" من "مجموع" شعب ألمانيا الموحدة.

وقد كان تعليل رفض الاتفاقات القديمة أن التوقيع عليها كان من جانب حكومات ألمانية لم تمثل الشعب بكامله، فهو يتناقض مع مبدأ حق تقرير المصير الذي لا يقبل التجزئة في القانون الدولي العام، ولم يكن انتخابها ينطوي على تفويضها بالتنازل عن حق الشعب الألماني في جزء من أرضه التاريخية، فكان يتناقض مع مبدأ عدم اغتصاب الأراضي بالقوة الثابت أيضا في القانون الدولي العام، وهذه المبادئ وأمثالها هي مرجعية الشرعية الدولية من فوق أي قرارات ومعاهدات أخرى يجري عقدها وتطبيقها.

الشعب مصدر القرار
الحصيلة بإيجاز:
1- لا ترتبط المشروعية القانونية الدولية للاعتراف بقرار صادر عن مجلس الأمن الدولي (الصين الوطنية) ولا العضوية في الأمم المتحدة (ألمانيا الشرقية) ولا الاعتراف والتعامل من جانب غالبية دول العالم (دول البلطيق والاتحاد السوفياتي).

2- لا يكفي عقد اتفاق لتثبيت مشروعية اعتراف قانوني دولي، ما دام لا ينطوي على شروط تلك المشروعية وفق القانون الدولي العام ومبادئه الثابتة.

3- لا تتوفر تلك الشروط دون استناد الاعتراف على التعبير عن إرادة الشعب وعبر تفويض من جانبه، بكامل فئاته وأفراده، وبشرط أن يكون أي تصويت يجري لهذه الغاية، خاليا من عناصر التزييف والإكراه والضغوط، كما هو ثابت في نصوص المعاهدات الدولية الأساسية.

جميع ذلك لا يتحقق على كل حال في حالات الاغتصاب والاحتلال والعدوان، أما التعابير الأخرى "المطاطة" من قبيل اعتراف سياسي أو واقعي أو ضمني فلا وجود لها في نصوص القانون الدولي، وإن شاع استخدامها، ولا تمثل "اعترافا قانونيا دوليا".

ولا يغير من ذلك تحميل عبارات صياغة اتفاق ما -كاتفاق مكة- ما لا تحتمل، سواء كان ذلك بقصد تسهيل المفاوضات كما يقال، فالمفاوضات تسهل عندما تجتمع كلمة المسؤولين السياسيين فلسطينيا وإقليميا على نهج قويم واضح، أو كان ذلك بقصد انتزاع قرار من القوى الدولية برفع الحصار عن شعب فلسطين في الداخل.

"
إشكالية الاعتراف القانوني الدولي المطلوب بصيغة الإملاء والضغوط العدوانية القصوى على شعب فلسطين أبعد ما تكون عن إمكانية وصفها بخلاف قانوني دولي، إذ الحكم بعدم مشروعية مثل ذلك الاعتراف واضح وضوح الشمس في رابعة النهار
"

ولن يحصل ذلك ما دامت الدول العربية، لاسيما المجاورة، لا تنتزع نفسها من طوق الحصار المفروض على صناعة قرارها هي، بما في ذلك قرار عدم المشاركة في ذلك الحصار على شعب فلسطين، الباطل بنص القانون الدولي، المنتهِك للحقوق الإنسانية الثابتة على أوسع نطاق، فضلا عن أنه يمثل شكلا من أشكال المشاركة في العدوان على شعب فلسطين بأفجر وسيلة.

إن إشكالية الاعتراف القانوني الدولي المطلوب بصيغة الإملاء والضغوط العدوانية القصوى على شعب فلسطين، وعلى حكومة جزء منه، موجود في أرضه، أبعد ما تكون عن إمكانية وصفها بخلاف قانوني دولي، إذ الحكم بعدم مشروعية مثل ذلك الاعتراف، وإن حصل جدلا، واضح وضوح الشمس في رابعة النهار كما يقال.

ولا قيمة بعد ذلك لاتفاقات سابقة مع جهة فلسطينية ما، لم تكتمل لها الشروط القانونية الدولية، لاسيما أن كل اتفاقية لا تنص على انتهاء مفعولها بعد فترة زمنية محددة، أو تنص على حق أحد أطرافها بالانسحاب منها، هي اتفاقية باطلة مسبقا بحكم القانون الدولي العام، وإن وجدت تطبيقا لفترة من الزمن تحت عنوان القانون الدولي التطبيقي.

ويسري شبيه ذلك على قرارات قمم عربية أو دولية أو مختلطة، وقرارات مجلس الأمن الدولي وسواه من الأجهزة "التنفيذية" للشرعية الدولية، وجميعها يتقلب ويتبدل حسب موازين القوة، ناهيك عن "قرارات" صادرة عن لجنة من قبيل ما يسمى اللجنة الرباعية، أو عن أحد أطرافها.

الشعب.. والشعب الفلسطيني وحده، وبكامله، في أرضه وفي الشتات، هو المخول بمفهوم القانون الدولي، بأن يعترف أو لا يعترف بوجود كيان ما على تلك الأرض، فهو اعتراف ينطوي في حقيقة مغزاه ومقصده على التخلي عن جزء من حقوقه المشروعة الثابتة وفق أشد النصوص القانونية الدولية إلزاما، وفي مقدمتها حق تقرير المصير وبطلان اغتصاب الأراضي بالقوة.. وأي اعتراف آخر ينتزع هو للتمويه والتزييف.

والشعب.. والشعب الفلسطيني وحده بكامله، في أرضه وفي الشتات، هو المخول بمفهوم القانون الدولي، بأن يفوض جهة ما يختارها اختيارا حرا نزيها، دون ضغوط ولا إكراه ولا تزييف (ودون تقتيل واعتقال وتشريد وحصار) لتوقع باسمه على نص ما ينطوي على شكل من أشكال الاعتراف القانوني الدولي المطروح حاليا.. وأي جهة دون ذلك فهي تتصرف فقط في حدود موقعها وحدود حجم تفويضها لا أكثر.

وحماس نفسها لم يكن انتخابها -وإن كان حرا نزيها- من جانب الشعب بل من جانب جزء من الشعب، وفي ظل ضغوط قصوى وليس بعد تغييب مفعولها.

الإشكالية إذن مطروحة على أرضية واحدة لا علاقة لها بالقانون الدولي، بل هي أرضية ما يمكن فرضه بالقوة، أي وفق شرعة الغاب.

ولهذا كانت المواقف السياسية وغير السياسية في المنطقة تستخدم في الماضي تعبير "فرض الأمر الواقع" عبر السياسات والممارسات والحروب الإسرائيلية رافضة نتائجها، قبل أن تحل مكان هذه اللغة السياسية "الواقعية" لغة التنازلات، مع تجنيد هذا الطرف العربي أو ذاك لانتزاعها من طرف فلسطيني بعد طرف بمختلف السبل غير المشروعة، لا بمفهوم القانون الدولي، ولا بأي مفهوم مشروع من مفاهيم "القوانين الوضعية"، ناهيك عن مفهوم المشروعية الإسلامية، التي لم تتناولها الفقرات السابقة، دون إغفال أنه لا يمكن القبول بتجاهلها في أي "تصرف" من التصرفات التي تتناول مصائر الشعوب والبلاد والقضايا العربية والإسلامية.