معركة بغداد بدأت من شارع حيفا

معركة بغداد بدأت من شارع حيفا



تبدو العاصمة العراقية اليوم، وعشية تنفيذ الخطة الأمنية الجديدة المسماة "فأس الهندي الأحمر" وكأنها تندفع بقوة صوب عين الإعصار الذي يزمجر في سماء العراق كله.

ومما يضاعف من حدّة الإحساس بوجود مخاطر لا سابق لها قد تواجه المدينة التاريخية وسكانها التعساء، أن الحديث عن "حرب أهلية " ذات طابع طائفي صارخ سوف تنفجر في شوارعها، لم يعد مجرد تسريبات صحفية أو شائعات؛ بل أصبح موضوعاً للنقاش حول النتائج المتوقعة وطبيعة أدوار الأطراف المشاركة.

خلال الأشهر الأخيرة شهدت بغداد أكبر تغيّر في ديموغرافيتها المذهبية والدينية. لم تعد، كما يُلاحظ مراقبون صدمتهم التغيرّات، مدينة التعايش التاريخي بين سكان أكبر تجمعين بشريين –في الشرق الأوسط- أقاما بسلام وتوافق منذ قرون على ضفتي نهر (حيث يشق نهر دجلة العاصمة الجميلة إلى نصفين الكرخ والرصافة).

"
الإعصار الطائفي ضرب حتى الآن ودون رحمة معظم أحياء بغداد, وذلك مع انتشار أعمال تهجير مخيفة للشيعة والسنة على حد سواء قامت بها مليشيات مهووسة بالقتل
"

الإعصار الطائفي ضرب حتى الآن ودون رحمة، معظم أحياء بغداد؛ وذلك مع انتشار أعمال تهجير مخيفة للشيعة والسنة على حد سواء قامت بها مليشيات مهووسة بالقتل.

في منطقة الرصافة مثلاً، وحيث عاش سكان حي الصليخ الملاصق لحي القاهرة سوية طوال عقود دون أدنى احتكاك مذهبي، وقعت سلسلة من عمليات التهجير والقتل والاستيلاء على المساجد والمنازل.

لقد أصبح سكان هذا الجزء من العاصمة فجأة مادة لحرب طائفية، شنتها مليشيات يرتدي أفرادها الملابس الرسمية للجيش والشرطة واستهدفت تهجيرهم من منازلهم.

العائلات السعيدة التي حالفاها الحظ، وتمكنت ربما بقوة الغريزة وحدها من الحفاظ على منازلها وممتلكاتها، هي"العائلات المختلطة" التي عرفت علاقات مصاهرة تجاوزت البُعد المذهبي.

يقول خبير عراقي مرموق: إذا كنت شيعياً من سكان حي القاهرة وكانت ابنتك متزوجة من سنيّ يقيم في حي الصليخ فإنك بلا شك رجل محظوظ. سوف تطلب من صهرك المهجرّ أن ينتقل ليقيم في منزلك، بينما تنتقل أنت إلى منزل ابنتك. وهكذا تكون قد حافظت على منزلك ومنزل ابنتك.

وإذا كنت سنيّاً من سكان حي راغبة خاتون فإن عليك أن تكون أكثر حذراً منذ الآن، ولنقل أكثر احتراساً من "غرباء" يتدفقون من أحياء أخرى إلى حي الكريعات المجاور.

لقد أصبح الحي تحت رحمة المليشيات الشيعية بالكامل. غيرّوا تركيبته وأصبح حيّاً شيعياً. أما إذا كنت تعيش في الكرخ، في حي الجهاد مثلاً؛ فإن عليك أن تدرك مغزى التغيّر الذي حدث. لقد انقسم الحي إلى قسمين: من جهة حي الأطباء باتت المنطقة سنيّة، أما من جهة شقق صدام؛ فإن المنطقة أصبحت شيعية بعد أن استولت عليها المليشيات.

حين يمعن المرء في هذه الحقيقة الصادمة أخلاقياً ووجدانياً؛ فإن كل ما يمكن قوله هو التالي:

إن قوة الثقافة المجتمعية في العراق، يمكن أن تُمتحن اليوم في هذا الميدان وحده وكما لم يحدث من قبل؛ وأن الرغبة في التعايش وتخطي الحواجز المذهبية المصطنعة؛ بل والاستعداد الجماعي للدفاع عن المتراس الأخير لوحدة المجتمع، وعن "مادته الصمغية اللاصقة" التي جعلت منه شعباً موحدّاً على امتداد التاريخ القديم والحديث، إنما هي سلاح السكان العزل الذين سوف يواجهون ببسالة، لا خطر تفتيت وحدتهم المجتمعية والنتائج المأسوية لتهتك النسيج الاجتماعي في بلادهم وحسب؛ وإنما مخاطر انزلاقهم إلى اللحظة التي يرتدّ فيها مجتمعهم نحو وضعية ما قبل المجتمع، ودولتهم "التاريخية" إلى وضعية ما قبل الدولة.

على أن قوة الثقافة المجتمعية هذه، أي قوة سلاح المجتمع الأعزل، والذي غالباً ما يستخف بقيمته الطائفيون الجدد، يمكن أن تكون عُرضة للتخريب مع تورط الحكومة وانغماسها أكثر فأكثر في أعمال التهجير الطائفي؛ بل وتحوّلها إلى طرف في المواجهة.

"
تحولت الحكومة، كما لم يحدث في أي وقت من تاريخ العراق، إلى طرف في تدمير وحدة المجتمع, وذلك هو الخطر الذي بات العراقيون يستشعرون درجة تصاعده كما لو كان إعصاراً يزمجر في سماء بلادهم
"

لقد تحولت الحكومة، كما لم يحدث في أي وقت من تاريخ العراق، إلى طرف في تدمير وحدة المجتمع. وذلك هو الخطر الذي بات العراقيون يستشعرون درجة تصاعده كما لو كان إعصاراً يزمجر في سماء بلادهم.

ومن بين أكثر الدلائل على تحوّل الحكومة إلى طرف في حرب طائفة ضد أخرى، أن الخريطة المذهبية للعاصمة العراقية قد شهدت تغيّرات مخيفة وغير مشهودة من قبل.

إن خريطة التوزيع المذهبي للسكان في سائر مناطق بغداد، توضح على أكمل وجه، وخصوصاً بعد وقوع سلسلة من عمليات التهجير المنظمّة والمتبادلة التي رسمتها أسلحة المليشيات بالدم؛ أن الطابع التاريخي للتركيبة الديموغرافية المذهبية والدينية، شهد خلال العامين المنصرمين تغيّراً مطرّداً؛ فالعاصمة تكاد تنشطر إلى قسمين مذهبيين لا إلى قسمين إداريين.

فمن بين 10 أحياء في الرصافة مثلاً (وهي منطقة تمتد من الراشدية حتى ضفتي قناة الجيش فالأعظمية والوزيرية مروراً بمنطقة الفضل وقنبر علي وأبو سيفين حتى الزعفرانية) لم يتبق سوى بضع أحياء سنية قد لا تتجاوز أربعة تجمعات سكنية كبيرة يعيش سكانها في رعب متواصل.

وفي هذه الحالة؛ فإن النسبة لصالح الشيعة هي 6 إلى 4 مع وجود بعض الأحياء المختلطة التي صمدت حتى الآن أمام التهجير.

أما في الكرخ (وهي منطقة تمتد من المشاهدة حتى بوابة بغداد) فإن نحو 4 تجمعات كبرى من مجموع 11 منطقة، هي المشاهدة والطارمية ونفق الشرطة والخضراء والربيع والعامرية والغزالية والدورة والمهدية والسيدية وحي الجامعة؛ تمكنت من الصمود أمام موجة التهجير وحافظت على هويتها السنية أمام بطش المليشيات.

يعني هذا أن الكرخ (السني) قد يصبح منطقة شيعية (أو يكاد يصبح كذلك لولا وجود بعض الأحياء السنية) بينما تتوطد صورة منطقة الرصافة أكثر فأكثر كمنطقة شيعية خالصة (لولا وجود بعض الأحياء السنية والجيوب المختلطة التي صمدت حتى الآن أمام التهجير).

هذه الصورة الكئيبة ترسم بدقة بالغة، دلالات ومسار معركة بغداد الحاسمة.

إنها معركة كبرى وفاصلة بالفعل، لا من أجل السيطرة على العاصمة؛ بل لفتح الطريق أمام الاستيلاء على العراق نفسه، فبغداد هي المفتاح الذهبي للعراق ومن يضع يده عليها سوف يقرر مستقبل العراق برمته. وذلك ما وضحته تصريحات بعض المسؤولين العراقيين، تماماً كما وضحته طبيعة المعارك الدائرة في شارع حيفا.

في شارع حيفا شنت المليشيات مؤخراً، وبدعم مكشوف من القوات الحكومية، سلسلة هجمات مباغتة على سكان الحي، بينما كان الطيران الحربي الأميركي يسارع إلى تنفيذ سلسلة غارات مدمرة على الأحياء السكنية.

"
النصر المنشود في معركة بغداد لا يعني أي شئ آخر سوى تغيير التركيبة المذهبية التاريخية للعاصمة، لتصبح بغداد، كما تمناها عباس شاه الصفوي عام 1513 (عندما أعلن ضمّ العراق إلى العرش الصفوي) عاصمة شيعية
"

ويبدو أن واحدا من أهم أهداف الهجوم إلى جانب أهداف أخرى، فتح الطريق أمام الطائفيين الجدد للوصول إلى منطقة الجعيفر التي أصبحت منطقة شيعية ولكن شبه معزولة في محيط سني، وبما يمكّن هؤلاء من ربط سلسلة من الأحياء المجاورة التي تمّ تغيير طابعها المذهبي بحزام حديدي.

في هذا الوقت قال عادل عبد المهدي العضو القيادي في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية ونائب رئيس الجمهورية أمام المشاركين في منتدى دافوس، وهو يقدم تفسيراً لأسباب الهجوم على شارع حيفا(إن مجرى الأحداث في العراق سيوف يتغيّر إذا ما ربحنا معركة السيطرة على بغداد).

هذا التصريح وفي السياق الذي صدر فيه، يمثل أول إشارة رسمية وصريحة إلى الطابع الحقيقي لما بات يُعرف بـ(خطة أمن بغداد) التي أعلنها رئيس الوزراء نوري المالكي، فالنصر المنشود لا يعني أي شئ آخر سوى تغييّر التركيبة المذهبية التاريخية للعاصمة، ولتصبح بغداد، كما تمناها عباس شاه الصفوي عام 1513 (عندما أعلن ضمّ العراق إلى العرش الصفوي) عاصمة شيعية.

المسألة إذن، لا تتعلق بمجرد خطة أمنية حكومية جديدة، ولا بإستراتيجية أميركية لفرض الأمن والاستقرار في العاصمة كما أشيع في وسائل الإعلام، وبعدما فشلت خمس خطط كبرى وعشرات العمليات الفرعية التي لعبت فيها المليشيات الطائفية والقوات الأميركية دوراً محورياً، بل تتعلق بأمر آخر أكثر خطورة.

لقد تمّ تحديد النقطة الأخيرة في الخط البياني لتطور الغزو الأميركي هنا، في شارع حيفا، ستبدأ آخر المعارك.

وهنا سوف يتحدّد مصير العراق ومستقبله؛ فإذا ما (ربحنا الحرب في بغداد) فسوف نربح العراق كله. وهذا يعني ببساطة، أن معركة شارع حيفا هي معركة تغيير التركيبة المذهبية للعاصمة تمهيداً للتقسيم. أما القصف الأميركي الوحشي للأحياء في هذا الشارع فليس أكثر من الرّجات الأولى للزلزال. إنه زلزال المحاولة اليائسة والأخيرة للسيطرة على العراق من خلال إعادة احتلال بغداد.

وإلى هذا كله؛ فإن التوقعات والمعلومات القادمة من العاصمة العراقية، تشير إلى أن الهجوم سوف يستغرق نحو ستة أشهر متواصلة، وأن محافظة ديالى والرمادي ستكونان الهدف التالي بعد بغداد.

كما تشير معلومات أخرى موثقة إلى أن الأميركيين يخططون لخوض أعنف المعارك في منطقة الغزالية. إن هذه المنطقة العصيّة على الاقتحام، كما برهنت سلسلة من المحاولات الفاشلة، تشكل أهم شريان في غرب بغداد السني؛ فعبرها تتدفق كل المساعدات المتوقعة لفك الحصار عن المناطق التي سوف تتعرض للهجوم الطائفي.

ويبدو أن تركيز القوات الحكومية والأميركية والمليشيات على منطقة الغزالية، سوف يتخذ أشكالاً مروعة من العنف ضد المدنيين هناك، وذلك من أجل قطع طريق الإمدادات وحرمان الصامدين في شوارع بغداد من العتاد والطعام.

"
هوس الطائفيين الجدد بتغيير سريع لتركيبة بغداد المذهبية وبنسف أسس التعايش بين السكان سيقود العراق إلى أتعس لحظاته في التاريخ؛ وذلك حين يجد العراقيون أنفسهم وقد أصبحوا هدفاً مباشراً لحرب قذرة أصبح فيها الأميركيون طرفا طائفيا
"

ولكن ثمة مشكلة عويصة غير قابلة للحل تتعلق بمسألة توزيع الماء والكهرباء في حال حدثت معارك ذات طابع طائفي. ويوضح تقرير خطير تسرّب مؤخراً وكتبه خبير عراقي بارز طبيعة هذه المشكلة: فإذا ما تمّ تنفيذ الهجوم الوحشي؛ فإن الأحياء السكنية شرق بغداد(الرصافة) مثلاً، ستكون محرومة نهائياً من المياه الصالحة للشرب لأنها تحت سيطرة الطرف الآخر، بينما ستحرم الأحياء السكنية في الكرخ نهائياً من الكهرباء لأن محطات التوليد تمر في مناطق الخصم.

وهذا يعني أن حجم المشكلات الإنسانية التي سوف تسفر عنها خطة الهجوم يمكن أن يحوّل بغداد إلى مدينة منكوبة. هنا، في شوارع بغداد سوف يتعفّن الطائفيون حين لا يجدون مياهاً للشرب أو الاغتسال.

إن هوس الطائفيين الجدد بتغيير سريع ونهائي لتركيبة بغداد المذهبية، وبنسف أسس التعايش بين السكان، هو الذي سيقود العراق إلى أتعس لحظاته في التاريخ؛ وذلك حين يجد العراقيون أنفسهم وقد أصبحوا هدفاً مباشراً لحرب قذرة أصبح فيها الأميركيون "طرفاً طائفياً".

الآن وقد اقتربنا من ساعة بدء معركة السيطرة على بغداد؛ فإن لمن الهام للغاية التأمل في مغزى هذه اللحظة التاريخية التي قرر فيها الأميركيون أن يطلقوا آخر طلقة في جعبتهم، ولتتحوّل بعدها ونهائياً، أكبر قوة إمبراطورية في التاريخ إلى "طرف طائفي في حرب طائفية" وفي هذا المكان القصي من العالم المضطرب؟ أليس أمراً مأسوياً أن يتحوّل المحررون إلى طرف طائفي؟

لسوف يكتب التاريخ ذات يوم، أن فأس الهندي الأحمر الذي قدّمه جورج بوش للمالكي، وهذا لوّح به في وجه العراقيين، قد وقع على رأسه في نهاية المعركة حين تزاحم سكان بغداد بالمناكب دفاعاً عن وحدة مجتمعهم وبلادهم. فماذا سيفعل بوش لو وقع الفأس على الرأس؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان