نحو مفهوم مشترك أفضل للديمقراطية في البلدان العربية

– توصيف نظم الحكم العربية الراهنة
– مقومات نُظم الحكم الديمقراطي
– أهمية وإمكانية مقاربة إشكاليات الديمقراطية
– الديمقراطية وقيم العدل
نقطة البداية في دعوتنا هذه إلى بناء مفهوم مشترك للديمقراطية تنطلق من الحاجة الماسة إلى القيام بمقاربات مسؤولة تسمح بإزالة التعارض بين العقيدة الإسلامية ونظم الحكم الديمقراطية.
كما ترتكز على ضرورة تأسيس نظم حكم ديمقراطية في الدول العربية على مبدأ الوطنية وقيم العدل والإنصاف وضرورة مراعاة الوظيفة الاجتماعية للملكية.
وهذه المقاربات المطلوبة -لحسن الحظ- ممكنة اليوم بفضل تطورات حدثت في مفهوم الديمقراطية المعاصرة بعد أن انتشرت الممارسة خارج دائرة الحضارة الغربية, وتم التمييز بين الليبرالية باعتبارها عقيدة والديمقراطية باعتبارها منهجاً ونظام حكم, قادر على مراعاة عقائد المجتمعات دون أن تحتكره أي عقيدة وتحوله إلى مجرد آلية من آليات الخضوع لها.
لذلك فإنه إذا كانت للمجتمعات تفضلاتها, فإن نظام الحكم الديمقراطي له بالضرورة مقوماته أيضاً, ولابد لكل شعب يريد تفكيك الاستبداد ويدرك مفاسد استمرار حكم الغلبة, من أن يقوم مفكروه وقياداته السياسية بإجراء مقاربات جوهرية تزيل التعارض بين ثوابت مجتمعهم ومقومات نظام الحكم الديمقراطي، بالتركيز على جوهر كل منهما.
من هنا تبرز بشكل ملح ضرورة القيام بمقاربات فكرية وسياسية مسؤولة, بين ثوابت المجتمعات العربية ومقومات نظم الحكم الديمقراطية.
" معظم أنظمة الحكم في الدول العربية إن لم تكن كلها, لم تنتقل إلى نُظم حكم ديمقراطية بعد، بالرغم من أن هناك فروقاً جوهرية بينها من حيث الانفتاح السياسي ومستوى حرية التعبير وحكم القانون ونمو المجتمع السياسي والمجتمع المدني " |
توصيف نظم الحكم العربية الراهنة
إذا نظرنا بعمق إلى أنظمة الحكم العربية المعاصرة, نجد الكثير منها لما ينتقل مبدئيا -من حيث النص الدستوري- إلى نظم حكم ديمقراطية.
بل هي توصف علمياً بأنها من أنظمة حكم الفرد المطلق حيث تكون إرادة الحاكم الفرد ملكا أو سلطانا أو أميرا أو رئيس جمهورية، هي مصدر السلطات.
والدستور أو النظام الأساسي في هذه الدول, إما أنه يحتفظ للحاكم بالسلطة المطلقة بشكل صريح, أو أنه يلتف على المواد الدستورية -التي تقول إن الشعب مصدر السلطات- بمواد دستورية أخرى تجهض هذا المبدأ الديمقراطي الجوهري وتتيح للحاكم الفرد أن يحتفظ بالسلطة والثروة والنفوذ ويوزعها كيفما شاء في شكل "مكرمات" حينما يشاء, سواء احتاج ذلك منه إلى تعديل الدستور وتزوير إرادة المواطنين, أو دون حاجة لتعديل دستور المنحة أو عقد الإذعان, طالما أنه يتمتع بالحماية الخارجية.
أما الدول العربية الأخرى التي تنص دساتيرها على أن الشعب هو مصدر السلطات فإن معظمها إن لم تكن كلها تقوم بتعطيل ذلك المبدأ بقوانين الطوارئ المزمنة وأخواتها من القوانين.
كما أنها تتحايل على مبدأ "الشعب مصدر السلطات", بتوفير شكل الممارسة الديمقراطية دون الالتزام بموضوعها, عن طريق تسخير السلطة التشريعية والقضائية إلى جانب السلطة التنفيذية والإدارة العامة وأجهزة الأمن, لإرادة الحاكم الفرد المطلق من خلال "حزب الحاكم" الذي يسمى ظلما في عدد من الدول العربية "الحزب الحاكم" وهو ليس له من الحُكم شيء.
من هنا فإن معظم أنظمة الحكم في الدول العربية إن لم تكن كلها, لم تنتقل إلى نُظم حكم ديمقراطية بعد، بالرغم من ضرورة التأكيد بأن هناك فروقاً جوهرية بين أنظمة الحكم العربية من حيث الانفتاح السياسي ومستوى حرية التعبير وحكم القانون ونمو المجتمع السياسي والمجتمع المدني.
وهذه الفروق بالرغم من أهميتها في عملية الانتقال إلى نُظم حكم ديمقراطية, مازالت قاصرة عن تأهيل معظم نُظم الحكم العربية المعاصرة لاكتساب صفة نظام الحكم الديمقراطي.
مقومات نُظم الحكم الديمقراطي
الديمقراطية المعاصرة اليوم ليست عقيدة كما أنها لا تنافس الأديان, وإنما هي منهج ونظام حكم يتأثر مضمونه بالضرورة, باختيارات المجتمعات التي يطبق فيها.
وكذلك فإن نُظم الحكم الديمقراطية نظم مُحْكَمَة لها مقومات مشتركة من مبادئ ومؤسسات وآليات وضوابط وضمانات, لا تقوم لنظام الحكم الديمقراطي قائمة إذا انتقص منها شيء.
ويمكننا إذا دققنا في قراءة نُظم الحكم الديمقراطي عبر القارات والحضارات, أن نجد مقومات عامة مشتركة بين أنظمة الحكم التي تكتسب اليوم صفة الديمقراطية. وتتمثل هذه المقومات في خمس مقومات عامة مشتركة.
أولاها: مبدأ "الشعب مصدر السلطات" نصاً وروحاً وعلى أرض الواقع، لأن نظام الحكم الديمقراطي يعبر عن حق تقرير المصير وهو بالضرورة يتطلب أن يكون الشعب مصدر السلطات وأن لا تكون هناك بشكل ظاهر أو مبطن سيادة أو وصاية لفرد أو لقلة على الشعب أو احتكار للسلطة أو الثروة العامة أو النفوذ.
وجديرٌ بالتأكيد أن ممارسة السلطة مسألة عملية وإما أن يكون مصدرها فرد أو قلة أو يكون مصدرهَا هو الشعب أو الكثرة منه على الأقل.
ثانيتها: مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية الفاعلة, واعتبار المواطنة -ولا شيء غيرها- مصدر الحقوق ومناط الواجبات دون تمييز.
وأبرز مظاهر المواطنة الكاملة هي تساوي الفرص من حيث المنافسة على تولي السلطة وتفويض من يتولاها، وكذلك الحق المتساوي في الثروة العامة التي لا يجوز لأي أحد أن يدعي فيها حقا خاصا.
ثالثتها: مبدأ التعاقد المجتمعي المتجدد الذي يتم تجسيده في دستور ديمقراطي ملزم لكل مواطن, حاكما كان أو محكوما، ويتجلى ذلك في المشاركة الفاعلة لأفراد المواطنين وجماعاتهم في وضع الدستور وتعديله عبر الأجيال.
وفي العادة يوضع الدستور الديمقراطي من قبل جمعية تأسيسية منتخبة تملك إرادتها وتعبر عنها بحرية.
" الديمقراطية المعاصرة اليوم ليست عقيدة كما أنها لا تنافس الأديان, وإنما هي منهج ونظام حكم يتأثر مضمونه بالضرورة باختيارات المجتمعات التي يطبق فيها " |
رابعتها: الاحتكام إلى شرعية دستور ديمقراطي, والدستور الديمقراطي يجب أن يؤسس على ستة مبادئ عامة مشتركة لازمة لاكتساب أي دستور صفة "الديمقراطي".
وهذه المبادئ الستة الهامة المشتركة في كل دستور ديمقراطي هي:
– أن لا سيادة لفرد أو لقلة على الشعب، مع اعتبار الشعب مصدر السلطات, يفوضها دورياً عبر انتخابات دورية فاعلة وحرة ونزيهة.
– إقرار مبدأ المواطنة باعتبارها مصدر الحقوق ومناط الواجبات.
– سيطرة أحكام القانون والمساواة أمامه، وسيادة حكم القانون لا مجرد الحكم بالقانون.
-عدم الجمع بين أي من السلطات التنفيذية أو التشريعية أو القضائية في يد شخص أو مؤسسة واحدة.
– ضمان الحقوق والحريات العامة دستورياً وقانونياً وقضائياً, من خلال ضمان فاعلية الأحزاب ونمو المجتمع المدني المستقل عن السلطة ورفع يد السلطة وربما المال, عن وسائل الإعلام وكافة وسائل التعبير، وتأكيد حق الدفاع عن الحريات العامة وعلى الأخص حرية التعبير وحرية التنظيم.
– تداول السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية سلمياً وفق آلية انتخابات حرة ونزيهة وفعالة تحت إشراف قضائي كامل ومستقل، بوجود شفافية تحد من الفساد والإفساد والتضليل واستغلال النفوذ العام في العملية الانتخابية.
خامستها: ممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب وفي منظمات المجتمع المدني وفيما بينها، وهذه هي الديمقراطية في المجتمع وهي الأساس للديمقراطية في الدولة، وهي ضمان لممارسة الأحزاب -المحتمل وصولها إلى السلطة- للديمقراطية عندما يؤول إليها الحكم, لأن فاقد الشيء لا يعطيه كما يقال.
أهمية وإمكانية مقاربة إشكاليات الديمقراطية
يجب على كل شعب يتوق للخروج من حكم الفرد أو القلة إلى نظام حكم ديمقراطي, أن يقوم بقراءة مدققة لكل من ثوابت المجتمع من ناحية، ومقومات الحكم الديمقراطي من ناحية أخرى، من أجل التمييز بين ثلاثة أنواع من العقبات والعمل على تذليلها.
أولاها: المشكلات، وثانيتها التشوهات، وثالثتها الإشكاليات، والإشكاليات ليس لها حل واحد, وإنما تحتاج إلى مقاربة وجهات النظر وإزالة سوء الفهم من خلال قراءة مدققة هادئة للإشكالية وفرز ما علق بها من حمولة عاطفية وإسقاطات, بهدف إزالة اعتراضات وتحفظات الأطراف المختلفة حول مدلول المبادئ المتعارضة التي أدت إلى بروز الإشكاليات.
ومن قراءة أدبيات الديمقراطية باللغة العربية, نجد أن هناك عدداً من الإشكاليات:
أول هذه الإشكاليات ما يسمى إشكالية الإسلام والديمقراطية، وتنبثق من احتمالات تعارض مبدأ "الشعب مصدر السلطات" وما يتضمنه هذا المبدأ من حق الشعب في التشريع, مع الأحكام القطعية للشريعة الإسلامية.
ويدور الجدل بين المتمسكين بمدلول مبدأ "الشعب مصدر السلطات" والذين يُصرون على إطلاق صلاحية التشريع دون قيود, باعتبار أن إيمان المسلمين بعقيدتهم وحرصهم على تجنب الحرام هو القيد الحقيقي على المشرع لأن مضمون الديمقراطية في أي حضارة لا يخرج عن قيم تلك الحضارة إذ هو في المقام الأول نابع من خياراتها، هذه من ناحية.
ومن ناحية أخرى، بين الذين يصرون على أن تكون الشريعة الإسلامية قيداً على المشرع, ويختلفون بين أن يكون النص الدستوري هو الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسا أو الرئيس للتشريع.
كما يختلفون في تعريفهم للشريعة الإسلامية هل هي المبادئ والمقاصد التي جاء بها الوحي أم إنها الفقه والفكر الإسلامي أيضا؟
وفي بعض الأحيان يبدو أن بعض المقيدين للمُشرع بالشريعة الإسلامية, يدعون إلى وضع هذا القيد في يد "رجال الدين"، الأمر الذي سيجعل القول الفصل في التشريع في يد قلة, كما هو الحال في إيران، مما يثير شبهة الدعوة إلى حكومة دينية.
وحسب اعتقادي فإن الإسلام لا يفرض حكومة دينية, وإنما الحكومة مدنية مرجعها الأحكام القطعية المنزلة، كما أن جوهر الديمقراطية يرفض حكم القلة ووضع سلطانها فوق سلطة الشعب.
ويبدو من متابعتي للمقاربات التي قدمت في العقود الأخيرة أن هناك توافقاً بين طيف ديمقراطي في كل من التيارات الإسلامية والتيارات الوطنية على مقاربة هذه الإشكالية المركزية.
فقد تزايد القبول لنظام الحكم الديمقراطي داخل التيارات الإسلامية، كما تزايد اعتراف التيارات الوطنية بمكانة مبادئ ومقاصد الشريعة الإسلامية ووجوب مراعاتها في التشريع.
هذه الإشكالية لا يمكن مقاربتها في جو المواجهة والسجال، وإنما يجب الخروج من الجدل إلى قراءة متأنية لما لا يقوم نظام الحكم الديمقراطي بدونه من مقومات، وإلى قراءة سمحة للشريعة الإسلامية.
وحسب وجهة نظري فإن الديمقراطية تقبل القيود الدستورية على التشريع, والحد دستوريا من سلطة المشرع. وهذه القيود ما دامت لا تخل بالمقومات الجوهرية لنظام الحكم الديمقراطي يمكن النص عليها في الدساتير, كما يمكن للقضاء الدستوري الحكم بها دون نص باعتبار أن نظام الحكم الديمقراطي لا يعمل في فراغ وإنما تضبطه إلى جانب مبادئ وأحكام الدستور, مرجعيات وقيم ومنها مواثيق حقوق الإنسان بالنسبة للدول الليبرالية على سبيل المثال.
" الإسلام لا يفرض حكومة دينية, وإنما الحكومة مدنية مرجعها الأحكام القطعية المنزلة، كما أن جوهر الديمقراطية يرفض حكم القلة ووضع سلطانها فوق سلطة الشعب " |
ولعل تعديلات المحكمة الدستورية في الولايات المتحدة، ومنها إلغاء الرق لتعارضه مع القانون الطبيعي, تشير إلى وجود قيود على حرية المشرع في الديمقراطية الليبرالية أيضاً.
كما أن حكم المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان بمنع الضرب في المدارس البريطانية قد قيد برلمان وستمنستر وهو أكثر البرلمانات حرية في التشريع, بضرورة مراعاة حقوق الطفل.
لذلك فإن مراعاة التشريع في الدول التي يكون معظم سكانها من المسلمين للشريعة الإسلامية لا يتعارض في حد ذاته من حيث المبدأ مع الديمقراطية, ما دام ذلك لا يقيم حكومة ثيوقراطية ولا يعطي لعلماء الدين سلطة معطلة لمبدأ "الشعب مصدر السلطات" ولا يقيم سيادة أو وصاية لفرد أو لقلة مهما كانت صفتها الدينية على الشعب.
وإذا كان لي أن أحدد أهم بعدين يتطلب مقاربتهما حتي تكون الشريعة الإسلامية قيداً ديمقراطياً على الممارسة الديمقراطية دون أن تمس مبدأ "الشعب مصدر السلطات"، فإنني أذكر التالي:
أولا: لابد من تحديد ما هو المقصود بالشريعة المقيدة للمُشرّع، هل هي ما جاء به الوحي ومقاصده والأحكام القطعية العامة في القرآن والسنة، أم إنها الفقه والفكر الإسلامي؟
وفي تقديري أن قبول مقاصد الوحي قيداً دستورياً على المُشرّع لا يخل بمبدأ "الشعب مصدر السلطات" فهو إحالة إلى مرجعية تُؤمِنْ بها الأغلبية العظمي من الشعب ولا تقبل الخروج عليها.
ثانياً: لابد من تحديد الجهة التي تفصل في أمر مدى مراعاة الشريعة الإسلامية من عدمه في التشريع. وفي تقديري أن هذه الجهة يجب أن تكون المحكمة الدستورية التي تنظر في دستورية القوانين وليس أية جهة أخرى.
وهذا التحديد جوهري لما يؤدي إليه من إبعاد الممارسة الديمقراطية عن وصاية بشر أو قلة من البشر، كما يؤكد على مبدأ "الشعب مصدر السلطات" ولا سيادة لفرد أو قلة عليه, الذي لا تقوم للديمقراطية قائمة إذا تم تعطيلهما.
وفي ندوة حوار عقدت في الإسماعيلة عام 2006 أكد الدكتور عصام العريان أن الإخوان المسلمين يقبلون أن تكون المحكمة الدستورية هي الجهة التي يناط بها الحكم في مراعاة مبادئ الشريعة الإسلامية في التشريع.
كما اتفق أيضاً مع المستشارة تهاني الجبالي على أن ما جاء في الدستور المصري حول كون مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع أمر كاف ولا حاجة لتغييره.
وقد كان مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية أيضاً, يثير إشكالية لدى التيارات الإسلامية لما يفرضه من المساواة السياسية بين المواطنين دون تمييز ديني, ولما يتيحه من حق تولي المناصب العامة في نظام الحكم الديمقراطي دون اعتبار للجنس أو الدين أو المذهب.
ولحسن الحظ فقد برز عدد من المقاربات المسؤولة أزالت اللبس عن هذه الإشكالية وتوصلت إلى أن مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية من حيث المبدأ لا يتعارض مع جوهر العقيدة الإسلامية، وأن الولاية جائزة لكل مواطن في نظام الحكم الديمقراطي حيث يكون كل مسؤول منفذا للدستور والقانون.
ولعل ما يحضرني من مقاربات أحمد كمال أبو المجد وطارق البشري وفهمي هويدي وغيرهم كثيرين, لإشكاليات مبدأ المواطنة مع الإسلام, تضع أساساً صلباً لاستكمال هذه المقاربات بما لا يتعارض مع جوهر نظام الحكم الديمقراطي الذي أصبحت التيارات الإسلامية والوطنية تجتمع على ضرورة قيامه من أجل تفكيك الاستبداد.
الديمقراطية وقيم العدل
ثاني الإشكاليات يتمثل في احتمال تعارض نظام الحكم الديمقراطي مع قيم العدل والإنصاف والوظيفة الاجتماعية للملكية الخاصة والثروة العامة, وكذلك إخضاع الحريات الفردية المتطرفة لمتطلبات الحريات الجماعية.
وهذه إشكالية ثقافية حيث أن هذه القيم تتعلق بالوجدان الجمعي والنظرة المجتمعية لوظيفة الحكم.
ومن هنا نجد أن الاستبداد في الحياة السياسية العربية, يتم تحسينه وتجميله بالعدل، لما للعدل من مكانة في مقولة "العادل المستبد" حتى يتم تسويقه للجماهير.
بل إن الجماهير في كثير من الأحيان قد تقبل الاستبداد وتتنازل عن حق تحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة مقابل حصولها على العدل الذي هو أساس لكل حكم مرغوب في البلاد العربية والإسلامية.
من هنا فإن تأسيس نظم الحكم المنشودة في الدول العربية وتضمين دساتيرها مبادئ العدل والإنصاف والوظيفة الاجتماعية, أمر لا يتعارض مع مقومات الديمقراطية.
كما أنه مطلوب حتى يتم ربط الديمقراطية بالأهداف والتفضيلات المجتمعية, ويحمي نظام الحكم الديمقراطي من الانحراف، خاصة في المراحل الأولى للممارسة الديمقراطية، عن قيمة العدل والإنصاف ومبدأ الوظيفة الاجتماعية للملكية التي يجلها الوجدان العربي والإسلامي وتعتبرها الجماهير مصدراً من مصادر الشرعية الحقيقية لنظام الحكم.
ثالث الإشكاليات يتمثل في الفصل المصطنع بين الديمقراطية والوطنية واتخاذ الديمقراطية سبيلا لتفكيك الهويات الجامعة واختراق الأمن القومي للدول العربية.
وهذه ليست إشكالية حقيقية وإنما برزت نتيجة التشويه الذي تتعرض له الديمقراطية في الدول العربية عندما يتم تصديرها واستيرادها ضمن مفاهيم الهيمنة الخارجية ومشاريع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد.
من هنا فإن على القوى التي تنشد التغيير أن تميز نفسها وأن تطرح نظام الحكم الديمقراطي باعتباره نظام حكم وطني يسد ثغرات الاختراق الخارجي ويفوّت الفرص على الراغبين في تفكيك الدول العربية وإضعاف مجتمعاتها من خلال الديمقراطية.
" على القوى التي تنشد التغيير أن تميز نفسها وأن تطرح نظام الحكم الديمقراطي باعتباره نظام حكم وطني يسد ثغرات الاختراق الخارجي ويفوّت الفرص على الراغبين في تفكيك الدول العربية " |
ورابع الإشكاليات هو ضمان حق مشاركة الأقليات العرقية والاعتراف بثقافتها دون أن يؤدي ذلك إلى تفكيك الدولة الوطنية الديمقراطية أو فتح المجال للتدخل الخارجي.
ومقاربة هذه الإشكالية تكتسب أهميتها من الظلم الذي وقع على الأقليات العرقية والدينية والمذهبية أحيانا، كما تستمد أهميتها من ضرورة توفير مكانة لائقة للأقليات في أنظمة الحكم الديمقراطية, تحقق من خلالها ذاتها وتمارس ثقافتها في إطار اندماج وطني حقيقي ينطلق من التأكيد على القواسم المشتركة للعيش المشترك ويجنب الأقلية استبداد الأغلبية.
من هنا فإن الديمقراطية الوفاقية غير الجامدة وغير الطائفية, في المرحلة الأولى للتحول الديمقراطي مهمة, حتى تطمئن الأقليات وتأمن استبداد الأغلبية، وفي ذلك أيضاً سد لثغرة التدخل الخارجي واللعب بالنسيج الوطني لكل دولة عربية.
المهم أن تؤسس الديمقراطية الوفاقية على مبادئ دستور ديمقراطي، لأن الديمقراطية الوفاقية هي ديمقراطية في المقام الأول قبل أن تكون وفاقية، وأن يؤسس للعودة إلى الديمقراطية التنافسية تدريجاً من خلال تحقيق الاندماج الوطني, باعتبار الديمقراطية الحقة هي تعاقد مجتمعي متجدد لا يجمُد عند ضرورات مرحلة من مراحل التعاقد.
وإلى جانب الدور الذي يمكن أن تقوم به الديمقراطية الوفاقية من حيث إدماج الأقليات وحمايتهم من احتمالات استبداد القانون الذي تتحكم في إصداره الأغلبية, فإن الديمقراطية الوفاقية غير المؤسسة على المحاصة الطائفية وغير الجامدة يمكن أيضاً أن تُقدم مدخلاً مناسباً للانتقال إلى نظم حكم ديمقراطية.
ولكن ذلك يكون في حالتين:
أولاهما: حالة وجود حاكم مستنير يرغب في الانتقال إلى الديمقراطية تدريجيا، ومثال ذلك الحاكم هو عبد الله السالم في الكويت الذي اتفق على دستور الكويت لعام 1963 مع جمعية تأسيسة منتخبة، فكان التعاقد بين الأسرة الحاكمة ممثلة في الحاكم، وشعب الكويت ممثلاً في الجمعية التأسيسة المنتخبة.
ثانيتهما: حالة ضعف ثقة كل من القوى الفاعلة في الأخرى وشعور كل منهما بتربص القوة الأخرى ضدها حال استلامها للسلطة.
وفي هذه ربما تكون الديمقراطية الوفاقية المرحلية غير المؤسسة على المحاصة الطائفية أو العرقية, هي المدخل المناسب للانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي.
وجديرٌ بالتأكيد في الختام أن الديمقراطية الوفاقية هي ديمقراطية كاملة تتوفر فيها كافة مقومات نظام الحكم والدستور الديمقراطي التي سبقت الإشارة إليها.
وأي توافق لا يخل بتلك المقومات والمبادئ يجب أن يكون قيداً دستوريا تنظر فيه محكمة دستورية, ولا يكون أمر الحكم به عائداً لفرد أو قلة مهما كانت صفتها أو مكانتها.
__________________
كاتب قطري