الحصار المالي على الشعب الفلسطيني

الحصار المالي على الشعب الفلسطيني

 

فضل النقيب

الخلفية الاقتصادية
تأثير المقاطعة على الوضع المالي للسلطة
تأثير المقاطعة على الاقتصاد الفلسطيني
الاقتصاد السياسي للمقاطعة

بعد فوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي في يناير/ كانون الثاني لعام 2006 وتشكيلها الحكومة، قادت إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية حملة مقاطعة مالية للحكومة الفلسطينية دعمتها دول الاتحاد الأوروبي.

وقد نصت تلك المقاطعة على منع التعامل المالي مع كل مؤسسات الحكومة ومع أي مؤسسة أو شخص يتعامل مع الحكومة.

أما شروط رفع المقاطعة فهي اعتراف حماس بإسرائيل، ونبذ العنف وأسلوب الكفاح المسلح، والالتزام بكل الاتفاقات الدولية التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل.

الآن، وقد مضى قرابة عام كامل على تطبيق المقاطعة، يبدو من المفيد التوقف لتقييم نتائجها في المجالات الاقتصادية والسياسية، وتحديد العبر والدروس المستفادة منها.


الخلفية الاقتصادية
لا يمكن إجراء أي تقييم لموضوع المقاطعة إلا بعد الأخذ في الاعتبار البيئة الاقتصادية التي تمت فيها.

فمن المعروف أن الوضع الاقتصادي للسلطة الوطنية الفلسطينية التي قامت كحكم ذاتي محدود على بعض أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو عام 1993 قد اعتمد على ركيزتين.

الركيزة الأولى هي علاقة السلطة بإسرائيل التي حددها بروتوكول باريس الذي تم توقيعه في أبريل/ نيسان 1994، وبموجبه تقوم إسرائيل بجباية ضرائب الاستيراد الفلسطينية ثم تعيدها لوزارة المالية الفلسطينية وفي كل عام منذ 1994وحتى 2005.

وقد بلغ حجم هذه الضرائب أكثر من 60% من مجموع الضرائب. ولذلك فهي تشكل العمود الفقري لميزانية الحكومة الفلسطينية.

"
بعد قيام انتفاضة الأقصى توقفت إسرائيل عن دفع مستحقات السلطة من الضرائب وتقلص النشاط الاقتصادي وتراجع كثيرا من جراء ما أحدثته عمليات الجيش الإسرائيلي من قتل وتخريب ودمار واجتياحات وإغلاقات
"

أما الركيزة الثانية فهي علاقة السلطة بالدول المانحة (أهمها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبلدان العربية واليابان) التي التزمت بتمويل مشاريع إعادة الإعمار وبناء البنى التحتية التي أهملها الاحتلال الإسرائيلي سنوات طويلة.

منذ عام 1995 وحتى نهاية عام 2000 كانت إيرادات السلطة الذاتية (الضرائب المباشرة والضرائب التي تجمع عن طريق إسرائيل) كافية لتمويل المصاريف الجارية للحكومة، ولهذا فإن معظم مساعدات الدول المانحة (حوالي نصف مليار دولار في السنة) كان يخصص لتمويل مشاريع إعادة الإعمار.

بعد قيام انتفاضة الأقصى توقفت إسرائيل عن دفع مستحقات السلطة من الضرائب وتقلص النشاط الاقتصادي وتراجع كثيرا من جراء ما أحدثته عمليات الجيش الإسرائيلي من قتل وتخريب ودمار واجتياحات وإغلاقات.

ونتيجة لذلك فقدت السلطة الوطنية قدرتها على تمويل مصاريف الحكومة الجارية من مواردها الذاتية وأخذت تمولها من مساعدات الدول المانحة التي تضاعفت من حوالي نصف مليار إلى مليار دولار في السنة.

ثم استعاد الاقتصاد الفلسطيني بعض عافيته في سنوات 2004 و2005 وذلك بفضل الهدوء النسبي واستئناف إسرائيل دفع مستحقات السلطة من الضرائب.


تأثير المقاطعة على الوضع المالي للسلطة
كان أهم تأثير للمقاطعة هو توقف إسرائيل عن دفع مستحقات السلطة من الضرائب في نفس الوقت الذي توقفت فيه مساعدات الدول المانحة مما أدى إلى توقف السلطة عن دفع رواتب الموظفين وتقديم الخدمات العامة.

في النصف الأول من السنة لم يصل للحكومة الفلسطينية إلا بعض المساعدات العربية والإسلامية التي تم "تهريبها" كأموال نقدية في محافظ المسؤولين الفلسطينيين العائدين إلى غزة.

في يونيو/حزيران 2006 رأت المفوضية العليا للاتحاد الأوروبي أن المقاطعة لا تحقق أهدافها في إرغام حكومة حماس على القبول بشروط إنهاء المقاطعة، كما أنها لم تعمل على تحريك الشارع الفلسطيني ضد حماس، وأن كل ما فعلته هو تأجيج شعور العداء ضد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، كما أنها دفعت حماس إلى توطيد علاقاتها بإيران.

"
عند مقارنة حجم المساعدات في عام 2006 مع حجمها قبل المقاطعة في عام 2005 نرى أن المقاطعة قد قلصت المساعدات بحوالي 40%, وكان الاتحاد الأوروبي أهم مصدر للمساعدات لكن دوره في سنة المقاطعة تراجع لتصبح البلدان العربية أهم المصادر
"

ولهذا انتهجت سياسة جديدة تهدف إلى إيصال المساعدات للفلسطينيين مباشرة وبدون المرور بحكومة حماس ولتحقيق ذلك أسست الآلية الدولية المؤقتة (Temporary International Mechanism) التي أشرف عليها البنك البريطاني (HSBC) وقامت بتحويل حوالي 140 مليون دولار لتمويل الخدمات الصحية وتسديد ديون السلطة لإسرائيل من جراء مشتريات البترول وإيداع جزء من رواتب موظفي القطاع العام في البنوك.

عند مقارنة حجم المساعدات في عام 2006 مع حجمها قبل المقاطعة في عام 2005 نرى أن المقاطعة قد قلصت المساعدات بحوالي 40% كما يظهر في الجدول رقم (1).

ويمكن تسجيل ملاحظتين على الجدول: نلاحظ أنه قبل المقاطعة كان الاتحاد الأوروبي أهم مصدر للمساعدات وأن دوره في سنة المقاطعة تراجع لتصبح البلدان العربية أهم المصادر.

ومن ناحية أخرى نلاحظ أن أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) قد قلصت من حجم مساعداتها أكثر من أي طرف آخر. فبينما بلغت مساعداتها حوالي ربع مليار دولار عام 2005 لم تتجاوز 90 مليون دولار عام 2006.

جدول (1) مساعدات الدول المانحة قبل المقاطعة وبعدها

 الدول

2005

2006

المجموع

1.189.151.934

718.767.116

البلدان العربية

14%

36%

الاتحاد الأوروبي

46%

33%

أميركا الشمالية

20%

12%

بلدان الشرق الأقصى

7%

9%

البلدان الأخرى

13%

9%

المصدر: تم حساب هذه النسب باستعمال أرقام وزارة التخطيط الفلسطينية

تأثير المقاطعة على الاقتصاد الفلسطيني
في عام 2006 كان تأثير المقاطعة على النشاط الاقتصادي بالغ السوء، إذ خسر الاقتصاد الفلسطيني من جراء المقاطعة أكثر من مليار دولار (470 مليونا من المساعدات و600 من مستحقات الضرائب عند إسرائيل)، وهذا ما يعادل تقريبا ربع الناتج المحلي الإجمالي لعام 2005.

ومن الطبيعي أن تقود تلك الخسارة إلى تراجع النشاط الاقتصادي في كل المجالات. وتشير التقديرات إلى أن الناتج المحلي الإجمالي لعام 2006 كان أقل مما كان عليه في عام 2005 بمقدار 5%، وبذلك يكون متوسط خسارة دخل الفرد حوالي 8.5%.

"
الانتكاسة الاقتصادية تسببت في توسيع دائرة الفقر حتى أن التقديرات الأخيرة للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني تشير إلى أن أكثر من 60% من الأسر الفلسطينية في الضفة والقطاع أصبحت تعيش تحت خط الفقر
"

والأهم من ذلك هو أن هذه الانتكاسة الاقتصادية قد تسببت في توسيع دائرة الفقر حتى أن التقديرات الأخيرة للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني تشير إلى أن أكثر من 60% من الأسر الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة أصبحت تعيش تحت مستوى خط الفقر.

ويظهر أيضا في جدول (2) ازدياد معدل البطالة عن العمل. وهناك شعور عام عند المختصين بأن معدل البطالة هو في الواقع أعلى من التقدير الرسمي، وذلك لأن الكثير من العمال قد يئسوا من إيجاد عمل، فانسحبوا من سوق العمل كليا ولم يعودوا يحسبون من ضمن العاطلين عن العمل

 

جدول (2) المؤشرات الاقتصادية قبل المقاطعة وبعدها

المؤشر

2005

2006

ن.م.ج بالأسعار الحقيقية (مليون دولار)

4456

4221

نصيب الفرد من ن.م.ج

1268

1164

معدل البطالة عن العمل

23.4%

24.2%

*(ن.م.ج) هو الناتج المحلي الإجمالي
*المصدر: تم حساب هذا الجدول من المراقب الاقتصادي الاجتماعي/معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) أعداد 6 و7.

الاقتصاد السياسي للمقاطعة
بعد تحديد الآثار المالية والاقتصادية للمقاطعة، يبرز السؤال الطبيعي: ما هو مدى نجاح المقاطعة في تحقيق أهدافها وما هي فعالية التصدي الفلسطيني والعربي في مقاومتها؟

بداية، لا بد من تسجيل ملاحظة بالغة الأهمية وهي أن المنطق الاقتصادي يفرض أن يكون مدى تراجع النشاط الاقتصادي الفلسطيني في عام 2006 أكثر مما هو عليه بالفعل لو أن خسارة الاقتصاد كانت كما تشير الإحصاءات الرسمية (جدول/1).

فمن المفروض أن ينتج عن خسارة الاقتصاد لحوالي مليار دولار (مساعدات وضرائب مستحقة عند إسرائيل) تراجع في الناتج المحلي الإجمالي لمليار دولار أو أكثر، ولكننا رأينا (جدول/2) أن تقديرات تراجع الناتج المحلي الإجمالي هو حوالي ربع مليار فقط، وهذا يعني أن حجم المساعدات التي وصلت للشعب الفلسطيني عام 2006 كانت أكثر مما هي عليه في الإحصاءات الرسمية. ومن الممكن أن تكون هناك مساعدات شعبية قد وصلت بأساليب لم تتمكن آليات المقاطعة من إيقافها.

"
لم تنجح المقاطعة في تحقيق هدفها بشكل كامل وهو إسقاط حكومة حماس أو إرغامها على القبول بالشروط الإسرائيلية الأميركية, ولكنها في نفس الوقت خلقت إرباكا في الوضع الفلسطيني تطور إلى  اقتتال دام بين مسلحي حماس وفتح
"

هذه الملاحظة لا تعني أن المقاطعة قد فشلت، فالواقع أنها لم تنجح في تحقيق هدفها بشكل كامل وهو إسقاط حكومة حماس أو إرغامها على القبول بالشروط الإسرائيلية الأميركية، ولكنها في نفس الوقت خلقت إرباكا في الوضع الفلسطيني تطور إلى احتقان سياسي خطير نجم عنه اقتتال دام بين مسلحي حماس وفتح يهدد لأول مرة بنشوب حرب أهلية فلسطينية.

النجاح النسبي الذي حققته المقاطعة وما أحدثته من إرباك واضطراب في الوضع الفلسطيني كان سببه الأساسي أن المقاطعة لم تواجه بمقاومة فلسطينية عربية جادة.

فمما لا شك فيه أن هناك أطرافا فلسطينية وعربية كثيرة رأت في المقاطعة فرصة مواتية للضغط على حكومة حماس وإرغامها على تغيير نهجها السياسي.

ومن ناحية أخرى فإن الأطراف الفلسطينية والعربية والإسلامية المعارضة للمقاطعة وجدت نفسها مضطرة لأن تعبر عن معارضتها بأسلوب "التحايل" عليها وليس "التصدي" لها.

لقد لجأت الولايات المتحدة الأميركية، وتبعها الاتحاد الأوروبي، إلى تطبيق المقاطعة عن طريق تطبيق قوانين مكافحة الإرهاب. وبما أن حركة حماس مصنفة أميركيا (وأوروبيا) على أنها حركة إرهابية، فهذا يعني أن أي مؤسسة تتعامل معها ستوضع فورا في القائمة السوداء.

وبالتالي فإن أي بنك يقوم بتحويل مبلغ مالي من أي مصدر كان إلى حساب الحكومة الفلسطينية فإنه سيفقد فورا القدرة على التعامل بالدولار واليورو، أي يفقد القدرة على مزاولة النشاط المصرفي وعليه الإغلاق.

ومن هنا يتضح لنا أنه لم يكن في مقدور أي بنك في العالم أن يقاوم المقاطعة لوحده. ولكن الحال يكون مختلفا بشكل كامل لو أن كل البدان العربية اتفقت على تحدي المقاطعة ومقاومتها، فحينئذ تصبح المقاطعة ضارة بالمصالح الأميركية والأوروبية على أساس أن الاقتصاد الأميركي والأوروبي يعتمدان على العلاقات التجارية والمالية مع العالم العربي، وخصوصا البلدان المصدرة للنفط، بشكل رئيسي.

في هذا المجال توجد سابقة تاريخية هامة يبدو أنه من المفيد أن نتذكرها.

ففي أيار/ مايو 1960 تمكنت جماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة من التأثير على اتحاد الملاحين الدولي (SIU) واتحاد مفرغي وحمالي المراكب الدولي (ILA) في مدينة نيويورك فامتنع هذان الاتحادان عن تفريغ حمولة السفينة المصرية كليوباترا.

وكانت ذريعة ذلك أنهما يردان على المقاطعة العربية لأي سفينة أميركية تقوم بنقل البترول أو السلاح لإسرائيل.

"
عندما اتخذ اجتماع وزراء الخارجية العرب في أواخر 2006 قرارا بوقف العمل بأحكام المقاطعة فإن ذلك القرار بقي كلاما ولم ينتج عنه أي تغيير على أرض الواقع
"

بعد ساعات من رفض العمال الأميركيين تفريغ حمولة كليوباترا عقدت قيادة الاتحاد العام للعمال العرب في مقر الاتحاد بالقاهرة اجتماعا طارئا نتج عنه قرار بعدم التعامل مع كل السفن الأميركية في كل المرافئ العربية.

كان طبيعيا أن يقلب ذلك الموقف العربي الموحد الصارم الصورة رأسا على عقب مما دعا رئيس الولايات المتحدة في ذلك الوقت داويت أيزنهاور إلى التدخل الشخصي والضغط على الاتحادين للتراجع عن المقاطعة.

وهذا ما حصل إذ قاما بتفريغ حمولة كليوباترا دون أي تغيير في قوانين المقاطعة العربية الخاصة بالسفن الأميركية وتعاملها مع إسرائيل.

كان ذلك في زمن آخر. أما في وقتنا هذا فلم تواجه المقاطعة بأي موقف عربي موحد. وحتى عندما اتخذ اجتماع وزراء الخارجية العرب في أواخر 2006 قرارا بوقف العمل بأحكام المقاطعة فإن ذلك القرار بقي كلاما ولم ينتج عنه أي تغيير على أرض الواقع.

وفي الحقيقة وبعد أسبوع من صدور القرار قام بعض الصحفيين العرب بالاتصال بمجموعة من البنوك المركزية العربية لسؤالها عن الترتيبات الجديدة التي ستتخذها بخصوص التعامل مع التحويلات المالية للحكومة الفلسطينية بناء على قرار اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي أوقف الانصياع لقرار المقاطعة، فكان جواب الجميع بأنهم لم يبلغوا بأي تغيير في السياسة المتبعة بالانصياع لقرارات المقاطعة.
ـــــــــــــ
كاتب فلسطيني