الأكراد غاضبون على بيكر

الأكراد غاضبون من بيكر



في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، ومع نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشيوعي بسقوط الاتحاد السوفياتي (السابق)، سألت سياسياً كردياً عاد لتوه من زيارة شمال العراق، عن زعيم كردي بارز، فقال لي بلهجة الواثق: إنه رجل طيب ومناضل.

قلت: حسناً. فأضاف: لكنه قليل المعرفة بتعقيدات السياسة الدولية؟ ثم نظر إليّ مبتسماً وعاد ليقول: "بصعوبة بالغة يمكن إقناعه بأن العلاقات الدولية هي التي تتحكم في الموضوع الكردي برمته". إنه، بخلاف ما تعتقد، يؤمن "بأن في أيدي الأكراد كل المفاتيح ما داموا يحاربون".

قلت: حسناً، فأضاف مرة أخرى: سأروي له نكتة واقعية حدثت أثناء وجودي بصحبته.

كنا نعقد مؤتمراً صحفياً حضرته مجموعة من الصحفيين الغربيين. أحد الصحفيين سأل الزعيم الكردي: هل تعتقدون أن نهاية الحرب الباردة سوف تؤثر على القضية الكردية؟ تلفت الزعيم يميناً وشمالاً، ثم قال بصوت جهوري لا يخلو من الغضب الممزوج بالتهكم: كاكه (أي أيها الأخ) شنو باردة؟.. الأكراد يحاربون وسط الثلوج ولا يخافون من البرد؟

"
كل أو معظم التجارب الثورية في التاريخ عرفت نوعاً من "ثقافة الافتتان" بالقوة، بحيث تقاس قوة الجماعة المسلحة وفقاً لكمية السلاح الذي تستطيع خزنه وتكديسه, والأكراد ليسوا وحدهم من يقيم مثل هذا الوزن للسلاح
"

نظر السياسي الكردي نحوي مبتسماً وقال: "والآن؟ لابد أنك فهمت ما أعني عندما قلت لك إن زعيمنا قليل الخبرة بتعقيدات السياسة الدولية"؟

فقلت: حسناً… حسناً، إنه لا يخشى الحرب الباردة ولا حتى الثلوج ما دام ممسكاً بالسلاح.

ليس الأكراد وحدهم من يقيم مثل هذا الوزن للسلاح. كل أو معظم التجارب الثورية في التاريخ عرفت نوعاً من "ثقافة الافتتان" بالقوة، بحيث تقاس قوة الجماعة المسلحة وفقاً لكمية السلاح الذي تستطيع خزنه وتكديسه.

اليوم وأنا أصغي إلى الطريقة الصاخبة التي يصوغ فيها الزعماء الأكراد في العراق، رهاناتهم وأحلامهم وأفكارهم وتصوراتهم للسياسة الدولية، استناداً إلى منطق السلاح نفسه.

وأعيد المرة تلو المرّة التأمل في رد الفعل المشترك للبارزاني والطالباني حيال تقرير بيكر/هاميلتون، بكل ما يتضمنه هذا الرد من غضب؛ فإنني ودون أدنى قصد أستذكر نكتة الحرب الباردة هذه.

ثم لأجد نفسي وأنا أتساءل: إذا كانت الطريقة التي فهم بها الزعيم الكردي الطيب والمناضل، مسألة "نهاية الحرب الباردة" مماثلة للطريقة التي يفهم بها اليوم سائر الزعماء الأكراد تقرير بيكر/هاملتون (وبحيث تصبح الحرب الباردة مجرد شيء مماثل للقتال في البرد ووسط الثلوج والعلاقات الدولية مجرد علاقات عامة ما دام الأكراد يحملون السلاح) فهذا يعني أن ثمة مشكلة عويصة في الفكر السياسي القومي, بل وفي الحركة القومية الكردية منذ عام 1916 حين ُأطلقت أول رصاصة في السليمانية إيذاناً بالثورة.

ويبدو أن الوقت حان لمكاشفة الإخوة الأكراد بطبيعة هذه المشكلة ومصارحتهم للمرة الأخيرة دون أي تضليل وخداع؛ بأن لب المشكلة الكردية قد يكون كامناً في طريقة فهم زعماء الحركة الكردية للعلاقات الدولية وليس في أي مكان آخر.

يمكن تحديد جوهر المشكلة انطلاقاً من الحدث الراهن، نعني صدور تقرير بيكر/هاميلتون. فكيف فهم الأكراد التقرير؟ ولماذا هم غاضبون على صديقهم العجوز بيكر؟ سوف ألخص لكم النقد الكردي للتقرير في نقطتين:

الأولى، أنه سيئ "وغامض بعض الشيء" لأنه شطب تقريباً حلمنا الفيدرالي (وبالتالي حرم الطالباني من ممارسة متعته في ترديد عبارة: نناضل من أجل عراق ديمقراطي فيدرالي)، وذلك عندما شدد واضعو التقرير على وحدة العراق ومنع تقسيمه إلى فيدراليات. أي العودة إلى فكرة الاهتمام بالمركز مرة أخرى.

والثانية، أنه الأكثر سوءاً بين كل التقارير والمواقف الأميركية التقليدية من القضية الكردية، لأنه شطب وإلى الأبد حلمنا في القدس الكردية (كركوك).

إن التقرير يلغي من الذاكرة السياسية لدعاة ومنظرّي الفيدرالية الجدد في العراق أي عنصر محتمل من عناصر التطلع إلى إقليم ثري ينافس المركز؛ وذلك حين دعا إلى حماية كركوك كنموذج للتعايش التاريخي بين القوميات، وبالتالي حرمان الحزبين الكرديين من الاقتراب من الكنز النفطي (أي حرمان بيشمركتنا من حق امتلاك المال والسلاح).

من الواضح أن القيادة الكردية لم تتعلم الكثير بعد، عن معنى وحدود التشابك في المصالح الدولية؛ وأكثر من هذا أنها لم تتعظ من دروس الماضي القريب.

"
انصب غضب الأكراد على تقرير بيكر/هاملتون لاعتبارين الأول: أنه "سيئ وغامض بعض الشئ" لأنه شطب تقريباً الحلم الفيدرالي, والثاني: أنه الأكثر سوءاً بين كل التقارير والمواقف الأميركية من القضية الكردية وشطب إلى الأبد الحلم في القدس الكردية (كركوك)
"

لقد انصبّ كل غضبها على بيكر في الفكرتين الآنفتين. وهذا دليل قاطع على أنها لم تفهم أو تستوعب ما بين السطور.

لكن الأمر لا يتعلق بمجرد وجود نوايا أميركية "بحرمان الأكراد" من حلم الفيدرالية؛ بل بما هو أخطر بكثير من ذلك، وحري بالأكراد بعد درس بيكر/هاميلتون أن يتأهبوا منذ الآن لدفع ثمن فهمهم الخاطئ وسوء تقديراتهم الفظيعة لطبيعة التشابك في العلاقات والمصالح الدولية.

كما أن عليهم التأهب لملاقاة النتائج المترتبة على التحول المثير في الإستراتيجية الأميركية. بكلام آخر؛ عليهم القبول بنتائج سوء فهم طبيعة المتغيّرات في هذه اللحظة العصيبة من التاريخ العسكري للولايات المتحدة، ومواجهة عواقب القراءة المغلوطة التي ُبني عليها رد الفعل الغاضب برمته.

ما لم يفهمه الزعماء الأكراد من تقرير بيكر/هاميلتون، ولنقل ما رغبوا في عدم فهمه وتصديقه في الآن ذاته، هو أن الولايات المتحدة الأميركية تدعوهم اليوم (وضمناً تطلب منهم) إدراك حقيقة أن الوظيفة التاريخية لسلاحهم وقضيتهم قد انتهت وإلى الأبد، وأن عصر الحروب الباردة التي لطالما تفاخروا بمآثرها، وبأبطالها الذين ينزفون وسط الثلوج وفي البرد القارص؛ لم تعد ذات قيمة إلا في نطاق التاريخ الكردي المحلي وليس في نطاق المصالح الكبرى للأميركيين.

وهذا يعني أن عليهم أن يعودوا "إلى البيت لاستراحة طويلة ومن دون مكافأة مجزية" لأن المحاربين "من أجل الحرية" لا يتلقون عادة مكافآت من أي نوع.

وبالفعل، فبعد ثلاث سنوات ونصف من الاحتلال لم تعد هناك من مهمة أو وظيفة للقضية الكردية في العراق؛ بل لم يعد للأكراد أنفسهم وفي إطار اللعبة نفسها أي دور جديد. فماذا يصنع الأميركيون بهم وبقضيتهم اليوم، بعدما فرغوا من إسقاط صدام حسين؟

ليس ثمة بعد الآن صدام حسين يمكن أن يشكل وجوده حافزاً لدعم الأكراد؟ فهل أصبح الأصدقاء بعد "التحرير" عبئاً ثقيلاً؟ وهل بات من المناسب تسريحهم بإحسان؟

مشكلة الأكراد أنهم مازالوا يعتقدون -بخلاف الواقع- أن قضيتهم مقدّسة وأزلية، وأن سلاحهم مقدس وأزلي وأن لديهم مهمة لم تنته بعد (على غرار مهمة بوش المستحيلة في العراق).

"
مشكلة الأكراد أنهم ما زالوا يعتقدون -بخلاف الواقع- أن قضيتهم مقدّسة وأزلية، وأن سلاحهم مقدس وأزلي وأن لديهم مهمة لم تنته بعد (على غرار مهمة بوش المستحيلة في العراق)
"

ولنقل إنهم يؤمنون بأنها لاتزال جذابة ومغرية للغرب حتى مع زوال الأسباب الموجبة. وأكثر من ذلك يظنون أن هذه المهمة لاتزال تحظى بتأييد الأصدقاء القدامى حتى مع تغيّر الظروف وتبدّل الأدوار؟ ولأن الكردي الغاضب لم يقرأ تقرير بيكر/هاميلتون من هذه الزاوية كما ينبغي، ثم مضى قدماً في التعبير عن سخطه على "خيانة الأصدقاء".

فقد جاء حادث اعتقال ضيفي الطالباني القادمين من إيران بدعوة منه بوصفه رئيساً للجمهورية، ليقول وبوضوح كافٍ، أن الأصدقاء قد لا يحتملون وجود الضيوف الثقلاء، وربما يضيقون ذرعاً بأي قدر مهما كان بسيطاً من الغضب على تغييرهم للإستراتيجيات المتبعة في العراق سياسياً وأمنياً وعسكرياً.

المثير في حادث اعتقال الضيفين الإيرانيين (وهما من الاستخبارات العسكرية وقدما إلى المنطقة الخضراء في إطار بروتوكول أمني وقعه الطالباني في طهران في آخر زيارة له) أن عملية إلقاء القبض تمت في الجادرية -ضمن المنطقة المحصنّة أميركياً- وداخل المجمّع الحصين لعبد العزيز الحكيم الحليف الكبير لواشنطن؟ الرسالة واضحة وبليغة وموجهة للحليفين الشيعي والكردي: أيها الأصدقاء. ليس لدينا الكثير لنفعله لأجلكم. هناك متغيّرات عليكم أن تدركوا حدودها.

ولو أن الزعماء الأكراد أدركوا بعمق، أن الحرب الباردة لا تعني القتال وسط الثلوج وفي البرد القارص، وعرفوا مغزى الاعتراف الأميركي المتزايد بوصول الغزو إلى مأزقه القاتل، ولو أنهم فهموا تقرير بيكر بشكل صحيح، لفهموا وأدركوا عندئذٍ أنهم وشركاءهم الشيعة على حد سواء، لن يحصلوا على أكثر مما حصلوا عليه حتى الآن.

أي أنهم لن يحصلوا أبداً على "دولة" ُتقتطع من جسد بلد جريح لم يعد فيه أي موضع يصلح لجراحة قاسية. وبهذا المعنى؛ فإن التقرير وعلى العكس من التوقعات والآمال، يدعو الأكراد والشيعة إلى نسيان الحلم الفيدرالي بوصفه حلم ليلة صيف.

ما يقوله التقرير للأكراد هو التالي: لن تحصلوا على "أكثر من فيدرالية" ولا على "أقل من دولة". كل ما لدينا لنقدمه لكم هو "أقل من فيدرالية" وربما أقل "من الحكم الذاتي السابق".

وكل ما ستحصلون عليه في النهاية وبفعل تغيّر الظروف، إنما هو في الحقيقة أقل بكثير مما كان لديكم في عهد صدام حسين. هذه هي السياسة أيها الأصدقاء.

"
على الأكراد أن يدركوا أن لا وظيفة فعلية لسلاحهم بعدما اختفى العدو من المسرح, وحين تنعدم قيمة السلاح كما تقول التجارب الثورية, فإن القضية نفسها سوف تصبح عديمة القيمة.. فعلام كل هذا الغضب؟
"

إنها مثل التجارة لا يملك فيها المرء سوى التسليم بالأقدار والظروف، والظروف كما تلاحظون تغيّرت واللعبة أضحت أكثر تعقيداً. عليكم أن تتكيفوا مع الوظيفة الجديدة المرسومة لكم "كأصدقاء لنا"، وهي أن تتقبلوا فكرة العيش داخل حكم ذاتي قديم قابل للتقسيم إلى إدارتين صغيرتين في السليمانية وأربيل.

إنه حكم ذاتي جديد من اختراعنا نحن حلفائكم وهو يصلح للقسمة بين السورينانيين والبهدنانيين (أي الذين يتكلمون لهجتين مختلفتين في كردستان الحالية). ها قد صنعنا عراقاً محرراً بالدم والفوضى، ولكننا قد لا نتمكن أبداً من إعادة تركيبه بحيث يتسع لفيدراليتكم.

بينما يقول التقرير للشيعة ما يلي: ها قد ساعدناكم في تدمير "دولة الأقلية السنيّة". ولكن ما سوف تحصلون عليه في النهاية من حطام هذه الدولة التعيسة، ليس بكل تأكيد "دولة الأكثرية الشيعية" وليس "فيدرالية آل البيت"؛ بل امتياز "الأكثرية" وحسب، أي رمزية الحق في تأليف الحكومة عبر صناديق الاقتراع. أما الفيدرالية فمن الأفضل نسيان أمرها لصالح العيش مع الآخرين.

وفي هذه اللحظة العصيبة من التاريخ العسكري الأميركي، وحيث ينشغل الجميع بمسألة إخراج المارد العالق داخل عنق الزجاجة؛ فإن كل ما يعد به تقرير بيكر/هاملتون، هو وضع القضية الكردية الآن على الرّف بانتظار تدابير شاملة تخصّ الوضع في العراق، وفي الوقت ذاته الطلب من إدارة بوش العمل بسرعة على محو الآثار المترتبة على وجود "ثقافة فيدرالية" مريعة، أصبح أبطالها أكثر شبهاً بحلقة دراويش يرقصون الليل كله، وهم يرددون من حول حطام الدولة ودون كلل ولا ملل "فيدرالية، فيدرالية، فيدرالية".

اليوم، وبينما العالم بأسره يدخل في ما يشبه حرباً باردة جديدة، يحسن بالأكراد أن يدركوا قبل فوات الأوان، أن هذه الحرب لا تعني القتال وسط الثلوج وفي البرد.

وأكثر من ذلك عليهم أن يدركوا أن لا وظيفة فعلية لسلاحهم بعدما اختفى العدو من المسرح. وحين تنعدم قيمة السلاح كما تقول التجارب الثورية؛ فإن القضية نفسها سوف تصبح عديمة القيمة. فعلام كل هذا الغضب؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان