رد على الريسوني بشأن السلام مع إسرائيل

-


علي محيي الدين القره داغي

عرض الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني في الجزيرة نت تحت عنوان "القضية الفلسطينية اليوم.. رؤية فقهية سياسية" رأيه إزاء جواز الصلح مع إسرائيل والاعتراف بها.

لمناقشة هذا الرأي والرد عليه بعد تأكيدنا على حسن ظننا بأخينا الدكتور الريسوني إذ لا نشك في حسن نيته، وأن رأيه هذا نابع مما يحس به من آلام تجاه إخوانه في فلسطين الذين أوذوا أشد الإيذاء، وأن العالم اليوم بعد اختيار الشعب الفلسطيني حركة المقاومة الإسلامية (حماس) يرميهم من قوس واحدة، نقول في الرد عليه ما يأتي:

"
على حماس شرعا وأدبا والتزاما أن تترك السلطة إذا تعارضت مع المقاومة أو لم يبق لها إلا خيار الصلح والاعتراف بإسرائيل، وإلاّ فنهايتها السياسية والشرعية تتم بهذا الاعتراف
"

أولا
الضرورة التي بنى عليها رأيه يعود تقديرها إلى الشعب الفلسطيني، وأن الضرورة كما لا يخفى عليه تقدر بقدرها، وأنه لا يمكن أن تتحقق عناصرها وأركانها في أن تذهب حماس وتعقد الصلح والسلام مع إسرائيل وتعترف لها بالتنازل عن أكثر من نصف فلسطين لما يأتي:

– إسرائيل غير مستعدة لهذا التنازل، وإذا كان الدكتور الريسوني يقول "فلنجرب ولنقم الحجة عليها"، فنقول ما تقوله حماس في شعاراتها وفي خطب قادتها: إن منظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات رحمه الله مع كل ما فعل لم تستطع أن تأخذ ما أقرته الأمم المتحدة، ثم تعللت إسرائيل بياسر عرفات رحمه الله فذهب، وجاء محمود عباس ومع ذلك لم يتحقق على أرض الواقع شيء، بل وقع بناء الجدار العنصري الفاصل، وقتل معظم ناشطي المقاومة، ومزيد من التدمير والتقتيل، فهل نقول لحماس افعلي مثل ما فعلته المنظمة أو فتح لتسقطي أمام شعبك؟

– لو قبلنا بذلك لأصبحنا نحن العلماء في ازدواجية كبيرة، حيث لم نجز لفتح وياسر عرفات، ثم نأتي ونجيز لحماس، لماذا؟ هل تغيرت الأوضاع؟ أبداً الحالة هي هي.

– أين الضرورة في ذهاب حماس لتوقيع اتفاقية الاستسلام مع إسرائيل دون حصولها على شيء، هل الضرورة بقاؤها في السلطة؟ وبالتالي فهل هذا البقاء ضروري؟ لا يقول أحد من العقلاء -لا من حماس ولا من غيرها- بأن على الحركة أن تضحي بمبادئها وشعاراتها ومصداقيتها في سبيل الحكم، بل عليها شرعا وأدبا والتزاما أن تترك السلطة إذا تعارضت مع المقاومة، وعليها أن تتركها إذا لم يبق لها إلاّ خيار الصلح والاعتراف بإسرائيل، وإلاّ فإن نهايتها السياسية والشرعية تتم بهذا الاعتراف. ثم أين الضرورة في أن تسلم حماس رقبتها طوعاً إلى إسرائيل التي لم ترحم أحداً ولن ترحم أحداً؟

ثانيا
قياس الصلح الدائم والاعتراف بإسرائيل على صلح الحديبية قياس مع الفوارق، بل قياس فاسد، فصلح الحديبية لم يترتب عليه اعتراف بشرعية أهل الشرك، بل كان هدنة تضمنت بعض الشروط، كما كان اعترافاً من أهل الشرك (قريش ومن معهم) بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه واعتبارهم قوة يمكن التعاقد معها.

ومن جانب آخر، مكة كانت بأيدي قريش وهم أهلها، ولم تفتح ولم تصبح عند الصلح أرضاً إسلامية تنازل عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصلح الحديبية لم يترتب عليه أي تنازل من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن هذا الصلح كان هدنة مؤقتة لعشر سنوات فقط.

أما أرض فلسطين فهي أرض إسلامية بل من أشرفها وأبركها وفيها القبلة الأولى للمسلمين، وإن اليهود جاؤوا غاصبين، وإن الصلح معهم ليس على بنود تخص القتال والهدنة، وإنما تتركز على الاعتراف الكامل بهم والتنازل لأكثرها لهم، ويوثق ذلك من خلال الأمم المتحدة.

وأما قياس هذه الحالة على ما اقترحه الرسول صلى الله عليه وسلم من إعطاء جزء من الثمار إلى غطفان، فهذا يخص الجانب المالي فقط ولم يكن فيه اعتراف ولا تنازل عن حق ولا عن أرض، بل كان دفعاً آنيّاً لجزء من المال لدرء مفسدة. أما الصلح الدائم مع إسرائيل والاعتراف بها يترتب عليه التنازل عن أكثر من نصف أرض فلسطين والتزامات دولية وإقليمية كبيرة.

"
الصلح الدائم مع إسرائيل والاعتراف بها يعني الاعتراف بانتهاء الجهاد والمقاومة وعدم مشروعيتهما، وهذا لا يقبله عالم مسلم
"

ثالثا
الصلح الدائم مع إسرائيل والاعتراف بها يعني الاعتراف بانتهاء الجهاد والمقاومة وعدم مشروعيتهما، وهذا لا يقبله عالم مسلم، فهي أرض الرباط والجهاد إلى يوم القيامة كما وردت بذلك أحاديث صحيحة.

رابعا
القرآن يشهد والواقع يؤكد أن الصهاينة لا يلتزمون بالوعود والمواثيق، فقال تعالى {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، وهل التزمت إسرائيل باتفاقيات مدريد وأوسلو لياسر عرفات؟

ثم إن أطماع إسرائيل وأهدافها وإستراتيجيتها هي من النيل إلى الفرات، فهل الصلح يجعلها تعدل عن ذلك؟

خامسا
شعار "الواقعية" أو "البراغماتية" جرب فعلاً مع إسرائيل، وتورطت بسببه منظمة التحرير فتنازلت عن مبادئها واعترفت بإسرائيل، فما الذي جنته من وراء ذلك؟

الجني كان تدميراً للبنية التحتية للشعب الفلسطيني، بل لكل شيء حتى لأجهزة السلطة، ومحاصرة لياسر عرفات، وفي المقابل قامت إسرائيل بتعزيز قواتها ووجودها، وأرادت من اتفاقيات السلام إزاحة عبء الشعب الفلسطيني ومقاومته لها عن كاهلها، وأن تكون جسراً لنقلها بأمان إلى العالم العربي والإسلامي وضمان تفوقها وتفردها باعتبارها القوة الكبرى في المنطقة.

فقد كانت تحليلات المحللين السياسيين لاتفاقيات أوسلو ومدريد بأنها سلسلة من الخسائر والفشل، ولذلك كان خيار حماس والجهاد وبقية فصائل المقاومة الخيار الوحيد المتاح شرعاً وواقعاً وتجارب.

سادسا
رأي المرحوم الشيخ أحمد ياسين كان عن هدنة مؤقتة لبضع سنوات قياسا على صلح الحديبية الذي كان لمدة عشر سنوات فقط.

سابعا
من الناحية الشرعية وباتفاق جميع العلماء منذ القرن الماضي إلى الآن لا يجوز التنازل عن شبر أو ذرة من أراضي فلسطين، وفيما بعض هذه الفتاوى الجماعية:


  • "
    من الناحية الشرعية وباتفاق جميع العلماء منذ القرن الماضي إلى الآن، لا يجوز التنازل عن شبر أو ذرة من أرض فلسطين
    "

    فتوى علماء فلسطين في القدس الشريف (26/1/1935) التي اعتمدت على فتاوى العلماء في مصر والعراق والهند والمغرب وسوريا وبقية الأقطار الإسلامية، نصوا فيها على عدم جواز التنازل عن ذرة من أرض فلسطين، وعلى عدم جواز بيع أرض فلسطين لليهود، وأن من يفعل ذلك فهو مؤذ لله تعالى ولرسوله وخائن لهما، ومتخذ اليهود أولياء. وقد صدرت قبل ذلك فتوى فردية بما سبق من الشيخ محمد رشيد رضا، ومن رئيس هيئة العلماء المركزية في الهند.

  • فتوى الأزهر الشريف عام 1956، وتأكدت بفتوى مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، وفتاوى شيوخه، وجميع العلماء الثقات، كلها تؤكد على حرمة الاعتراف بإسرائيل والصلح الدائم معها.

ثامنا
المسلمون جميعاً موقنون بالنصر المبين على هؤلاء المحتلين الغاصبين، وأن هذا الوعد حق لا ريب فيه ولا يجوز الشك في ذلك، ولا يجوز الإحساس بموقف الاستسلام مهما كانت قوة هؤلاء المحتلين، فالله أكبر هو شعار المسلمين وأن العاقبة دائماً للمتقين وأن جند الله هم الغالبون، فليراجع في ذلك:

  1. كتب الشيخ العلامة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله.
  2. وكتاب "اقترب الوعد الحق يا إسرائيل" لفضيلة الشيخ المربي المجاهد عبد المعز عبد الستار حفظه الله.
  3. وكتاب الشيخ الدكتور سفر الحوالي بعنوان "فلسطين بين الوعد الحق والوعد المفترى عليه".
  4. وكتاب "المعركة الفاصلة" لفضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة.
  5. وكتاب "زوال إسرائيل حتمية قرآنية" للشيخ أسعد التميمي.

هذا هو الردّ بإيجاز شديد والله الموفق، وأما الرد المفصل فيحتاج إلى مجلد كامل.

وأختم حديثي بقوله تعالى {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وقوله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}.
___________________
أستاذ بكلية الشريعة بجامعة قطر

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان