الخليج.. رهين المحبسين

الخليج.. رهين المحبسين



عاطف عبد الحميد

– الحراك السكاني في إيران
– الخلل السكاني في الخليج
– العنصرية أم الانتهازية؟

في دراسة قدمها لجامعة الدول العربية قبل عشر سنوات قارن هيثم الكيلاني الأمن القومي العربي بحالة أبي العلاء المعري الذي عُرف برهين المحبسين: عمى البصر والعزلة عن الناس، حين اعتبر السلاح النووي الإسرائيلي وافتقار العالم العربي إلى استقلالية قراره محبسين يعميان بصره ويشلان إرادته.

هل يختلف أمن الخليج عن نظيره العربي؟ وما السبيل إلى علاج المعضلة السكانية في الخليج؟ وهل يتحمل الوضع الديمغرافي الكارثي الذي يعيشه الخليج امتلاك إيران قنبلة نووية؟

وما علاقة المخزون الديمغرافي الإيراني بمخاوف القوميين العرب من التبشير الفارسي في دول المشرق العربي؟ بحضور إيران الكاسح في العراق، وتأثيرها المسموع الصوت في لبنان وسوريا، ومشاغلتها البحرين، والتعاطف الواسع معها في شرق السعودية، وإطلالها برأس مخيف على الإمارات في الجزر الثلاث.

ينشغل المقال الحالي بمراجعة الأوضاع السكانية في إيران مقارنة بدول الخليج، لإلقاء الضوء على بعد آخر من أبعاد المواجهة التي تخير الخليج بين أن يسلم نفسه رهينة لإيران أو أن يستمر رهينة للأميركان.


"
وجود أكثر من 60% من الشعب الإيراني دون سن 25 عاما يذكّر الكتاب الأميركان بالانتفاخ الشبابي الذي عاشته فرنسا قبيل الثورة الفرنسية عام 1789 والذي أدى إلى الفوضى وانتهى بنشر الديمقراطية
"

الحراك السكاني في إيران
تعتبر إيران بسبعين مليون نسمة، واحدة من أسرع دول العالم نموا في سكانها، وينتظر خلال عقدين أن يبلغ عددهم 100 مليون بعدما كان قبل نصف قرن لا يتجاوز 17 مليونا.

يتسم الشعب الإيراني بمعدلات إنجاب عالية مع تناقص معدلات الوفيات نتيجة تحسن الرعاية الطبية، ويشكل الشباب من فئة 15-30 عاما النسبة الأكبر بين أفراد الشعب.

وحسب دراسات أستاذ الديمغرافيا في جامعة طهران محمد شافازي، فإن إيران وقعت في فخ الانفجار السكاني خلال عقد من انطلاق الثورة الإسلامية حين سعت إلى بناء دولة فتية سكانيا، فارتفع معدل النمو السكاني السنوي من 2.7% قبل الثورة إلي 4% خلال عقد الثمانينيات الذي شهد الحرب العراقية المهلكة للنسل.

بعد انتهاء الحرب مع العراق أدركت إيران أنها تواجه مشكلة الزيادة السكانية شديدة العبء على برامج التنمية، فاتخذت سياسات سكانية أفضت إلى تأخير سن الزواج ونشر الوسائل الطبية للحد من النسل، ما ساهم في خفض معدل الإنجاب من 7 أطفال لكل امرأة خلال سنوات الحرب مع العراق إلى أقل من 3 أطفال بدءا من عام 2000، وهو ما هبط بمعدل النمو السكاني السنوي من 4% إلى نحو 1.5% .

لكن ذلك لم يحل دون ظهور مشكلة عدم استيعاب سوق العمل للأعداد المتزايدة من القوى الشابة، ما رفع نسبة البطالة في الدولة خلال العقد الأخير إلى 11%.

ولأن الكتاب والباحثين الأميركيين يتابعون الأحوال الديمغرافية الإيرانية بعيون متحيزة وبتأويلات توافق أمنياتهم، فقد أبدى بعضهم تفاؤلا كبيرا "بالانتفاخ" الشبابي في المركب السكاني لإيران.

فوجود أكثر من 60% من الشعب الإيراني دون سن 25 عاما ذكّر هؤلاء الكتاب بالانتفاخ الشبابي الذي عاشته فرنسا قبيل الثورة الفرنسية عام 1789 والذي أدى إلى الفوضى وانتهى بنشر الديمقراطية.

ولكي تتخلص طهران من مشكلة البطالة، عليها توفير ما يقرب من مليون فرصة عمل سنويا خلال السنوات السبع المقبلة، وهو أمر يصعب تحقيقه في ظل الإمكانات الحالية لسوق العمل الإيراني.

النتيجة التي نصل إليها من خلال الإحصاءات المتنوعة والدراسات التي يتقدم بها علماء السكان في الجامعات الإيرانية، تفيد بأن إيران تعيش حراكا سكانيا تختلط فيه الاتجاهات، بين سكان المدن الأكثر استقرارا ونزوعا نحو خفض المواليد، وسكان الريف الأكثر حراكا وهجرة إلى المدن وارتفاعا في نسبة المواليد.

ويترتب على تيارات الهجرة من الريف إلى المدينة معاناة مدن إيرانية عديدة من الضغط على البنية الأساسية غير المستعدة لاستقبال الفارين من الريف الأقل تنمية.

ويزيد هذه المشكلة اعتماد الاقتصاد الإيراني على أسعار النفط غير المستقرة، ما يجعل أغلب السكان عرضة لتقلبات الدخل السنوي، وما يترتب عليها من اضطراب خطط تنظيم الأسرة سواء على المستوى الفردي أو الحكومي.

ويعول بعض الباحثين الأميركيين على نفاد النفط الإيراني –ويتوقعون له عام 2025- ليخرج عندها مائة مليون نسمة يسقطون الأنظمة ويبحثون في كل مكان داخل الحدود وخارجها، عن طعام وكساء.


"
المشكلة الأخطر بين سكان الخليج ليست في نسبة المواطنين الذين يبدون أقلية أو يناصفون الأجانب في الخريطة السكانية، بل في نسبة ما يشكله هؤلاء الوافدون من قوة العمل
"

الخلل السكاني في الخليج
حين حاول عبد الله النفيسي مؤخرا تقديم دليل على الأزمة التي تعيشها الجزيرة العربية لفت أنظار قرائه إلى "أن نسبة المواطنين في إمارة دبي لا تتعدى 5–7%، ولو خرج الأجانب وأمسكوا أهل الإمارة باليد وليس بالسلاح لاستطاعوا القضاء عليهم"!

النموذج الذي تعانيه دولة الإمارات العربية المتحدة مثال صارخ في خريطة العالم السكانية، إذ نسبة الأجانب من الهنود والإيرانيين والعرب تبلغ 81% من إجمالي السكان البالغ عددهم 2.5 مليون نسمة.

الوضع في البحرين وقطر ليس أسعد حالا، فالسكان في كل من الدولتين لا يزيدون عن سكان مدينة إيرانية متوسطة الحجم (0.7 مليون في البحرين و0.9 مليون في قطر). زد على هذا أن أكثر من 40% من هؤلاء السكان وافدون من شبه القارة الهندية وبعض الدول العربية.

وفي الكويت يعد المواطنون أيضا أقلية في وطنهم إذ يشكلون 45% فقط من إجمالي السكان في دولة يبلغ عدد سكانها 2.5 مليون نسمة.

وحدها السعودية تمثل أكبر وزن ديمغرافي عربي في الخليج، رغم أن الوافدين يشكلون هناك أيضا 21% من السكان البالغ عددهم 27 مليونا، وهي نسبة قريبة مما يشكله الوافدون في عُمان 26% البالغ سكانها 3 ملايين.

وفي مجمل الأمر فإننا إذا ما استثنينا العمالة الوافدة من حسابات المقارنة الديمغرافية فإن إجمالي سكان ساحل الخليج لا يعادلون سوى 10% من سكان إيران.

صحيح أن معدلات النمو السكاني تزيد في دول الخليج بنحو الضعف عنها في إيران، إلا أن ذلك لا يغير من الفجوة الديمغرافية التي يحتاج جبرها إلى ما بين 50 و75 عاما من نمو مطرد لسكان الخليج، بشرط بلوغ إيران نسبة الصفر في النمو.

المشكلة الأخطر بين سكان الخليج ليست في نسبة المواطنين الذين يبدون أقلية أو يناصفون الأجانب في الخريطة السكانية، بل في نسبة ما يشكله هؤلاء الوافدون في قوة العمل.

فكل ما يتحرك في الخليج يتم بأيدي وأرجل الأجانب وبنسبة تتراوح بين 60 و85% من قوة العمل في أغلب دول الإقليم.

ورغم كل ما يوجهه بعض المفكرين وكتاب الصحف الخليجية عن أخطار الوافدين وبصفة خاصة تحويلاتهم المالية الضخمة إلى بلدانهم التي كسبوها بالعرق والدماء، فإننا لو صحونا غدا على الخليج بدون وافدين فسنجده أيضا قد فارقته الحياة.

وحسب نصيحة المستشارين الغربيين فقد لجأت حكومات الخليج إلى الاعتماد على الهنود والآسيويين دون العرب وبنسبة تتراوح بين 70 و80% من القوة العاملة الأجنبية، خوفا من سيناريو مشؤوم يقوم فيه الوافدون العرب بالصعود الاقتصادي والسياسي فيمسكون الدولة من عنقها ويمسخوا هويتها الخليجية لصالح بلدان المصدر التي أتوا منها.

كما أن هناك خوفا غربيا من أن يؤدي تحويل أموال الخليج إلى الدول العربية إلى دعم اقتصادي يساعد هذه الدول في نهضة اقتصادية غير مطلوبة ولا مرغوبة.

لا تمر هذه القضية دون اشتباكات ثقافية واجتماعية أدت إلى تنامي المفاهيم الوطنية المحدودة الأفق في الخليج اليوم –كافتخار بعض المثقفين الخليجيين بالانتماء "الخليجي" وليس العربي- وهو ما جاء ردة فعل مرضية لأزمة الهوية التي كفرت بالعروبة بسبب احتلال العراق للكويت والموقف العربي المضطرب الذي واكبه.

وحين ننتقل من الإحصاء إلى الجغرافيا سنجد الخليج مكشوفا عمرانيا بدرجة خطيرة، إذ إن توزيع السكان يقدم الخليج لقمة سائغة لأعدائه بتركزهم في المدن دون انتشار في بقية الدولة. وهذا يساعد على الحصار والسقوط في الساعات الأولى من الغزو الخارجي، إذ يكفي أن يستهدف الغزاة محطات الكهرباء وتحلية المياه وسيجدون الدولة تتهاوى، وما ذكرى صدام في الكويت ببعيدة.

المقارنة الديمغرافية لا تخلو من أخطارها أيضا على الجيش المكلف حماية الدولة، وأي مقارنة يمكن أن نتخيلها بين إيران والخليج.

وقد دفعت تلك المقارنة غير المتكافئة بعض دول الخليج -تبعا لدراسة محمد العيدروس في جامعة الكويت- إلى اعتماد المؤسسات العسكرية في هذه الدول على المرتزقة بشكل كبير.


"
يعتبر معهد بروكينغز الأميركي في أحدث دراساته أن الهلال الشيعي كارثة على الخليج والمشرق العربي، لكن بعض الكتاب العرب يساهمون في تمرير المشروعين الأميركي والإسرائيلي في الخليج على حساب التخويف من إيران
"

العنصرية أم الانتهازية؟
ما زال الخفي من الملف الديمغرافي الخليجي كثيرا، والمسكوت عنه أكثر.

ومن بين المسكوت عنه قضيتان لم تمسا بالنقاش والتحليل بشكل جدي وتنتظران معالجة جريئة عاقلة، وهما مكانة ودور الأقلية الإيرانية بين سكان دول الخليج، ودرجة التجانس المذهبي في هذه الدول، ذلك التجانس الذي يبالغ البعض في إمكانية تمهيده الطريق لتهديد إيراني استغلالا للولاء الديني.

ليس جديدا أن يعتبر معهد بروكينغز الأميركي في أحدث دراساته أن الهلال الشيعي كارثة على الخليج والمشرق العربي، لكن اللافت أن بعض الكتاب العرب يساهمون –بقصد أو بغفلة- في تمرير المشروعين الأميركي والإسرائيلي في الخليج على حساب التخويف من إيران.

فعنصرية إيران تجاه العرب –حسب مأمون فندي في الشرق الأوسط- أكبر بكثير من عنصرية الأميركان، والخطر الإيراني على دول الخليج أكبر بكثير من خطر الأميركان، لأن خطر أميركا -الجار البعيد- هو خطر ساعة أما خطر إيران فهو خطر كل ساعة.

أما إسرائيل فقد اتضح أنها –حسب عادل الطريفي في صحيفة الرياض السعودية- أقل خطرا من إيران، لأنها "لم تهدد بسلاحها النووي أي أحد"!!

وإذا كان هذا حال الكتاب والباحثين فماذا عن حال الشارع العربي؟ المتعاطفون مع المشروع الإسلامي في هذا الشارع وفي مقدمتهم أنصار الحركات الإسلامية المنظمة، لا يخفون سعادتهم بالقنبلة الإسلامية الجديدة علها تحل لهم مشكلات عجزت عنها القنبلة القديمة التي امتلكتها باكستان.

ولم لا تصحح قنبلة إيران الشيعية ما عجزت عنه قنبلة باكستان السنية؟ ألم يغمض هذا الشارع من قبل عينه عن غزو العراق للكويت انتظارا لتحقق حلمه بزحف الجيش العراقي نحو تل أبيب؟

وكلما بعدنا عن الخليج كلما وجدنا حماسة لإيران ولسلاحها النووي المنتظر، خاصة في ظل عدم دراية هذا الشارع بالاختلافات المذهبية التي يعانيها الخليج. ولنا في الشارع المصري الذي يروق لغير العارفين وصفه بأنه سني المذهب شيعي الهوى، مثال جيد على ذلك.

العلاج الذي يفتش عنه الناس لأوجاع الخليج معروف، ولخصه المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري قبل 35 عاما في بحث سماه "كتلة عربية متماسكة في المنطقة للرد على التحدي الأميركي والخطر الإيراني".

لم يعد الخليج رهينا لمحبسين فقط،:العمى الذي تسببه الهيمنة الإيرانية والعزلة التي تصنعها الانتهازية الأميركية، فالمخاطر التي تحيق به تلمع في كل اتجاه، تخلط الأوراق وتزيد ارتباك المتابعين.

والمحصلة أنه تحقق فينا ما كنا نتمناه لعدونا، حين صار بأسنا بيننا شديدا، وانشغلنا بأنفسنا، وصار كل منا يقول: نفسي نفسي.
___________
كاتب مصري

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.