المقاومة.. الحق والواجب والحل الأخير

المقاومة.. الحق والواجب والحل الأخير


نحن العرب شعوب بلا دول في مواجهة دول بلا شعوب, ما أدى ولا يزال إلى وضعية لا تحسد عليها، لا الدول ولا الشعوب.

ومن أهم ملامح هذه الوضعية ما يلي:
1- تفاقم عجز أنظمة فاقدة الهيبة فاقدة الشرعية فاقدة الكفاءة عن القيام بأبسط إصلاح أو مد حتى ولو جسر من القش بينها وبين القوى السياسية الممثلة.. بل إمعانها في الفساد والتزييف والاحتماء بالأجنبي ومواصلة تطويقها المجتمع من الجهات الأربع بالقمع، في الوقت الذي يحاصرها نفس هذا المجتمع بكرهه من الجهات الأربع أيضا.. ولا منفذ لأي طرف.

2- تفاقم مفزع للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، في ظل غياب أي أفق لحل الأزمة السياسية التي هي أهم عامل في استفحال بقية الأزمات.

3- تبين خواء أحزاب معارضة عاجزة عن فرض أي إصلاح، ناهيك عن كون أغلبها لا يفكر لحظة في أن يكون بديلا وإنما يحلم أن يكون شريكا.

"
ما لا تفهمه المعارضة العربية هو أن المعارضة لا تكون إلا في ظل النظام الديمقراطي الذي هو الشرط الأول لوجودها وعملها وليس المحصلة النهائية لنضالها كما تتوهم
"

4 – الصدى الهائل للانتصار العظيم الذي أحرزته المقاومة اللبنانية، دون نسيان بسالة وتضحيات المقاومة الفلسطينية، ومن ثمة تصاعد إغراء المقاومة المسلحة لوضع حد للاحتقان والانسداد والجمود.

كل هذا يضع شعوبنا وأمتنا أمام تقاطع طرق مصيري، ما يفرض أحكام التفكير وتعميق النقاش بيننا، وتحديدا في هذه المرحلة علينا توضيح مصطلح المقاومة، بما أنه بصدد فرض نفسه كالمفهوم المحوري في الخطاب السياسي العربي مستقبلا.

نحن مقدمون إذن، كما حدث مع كل المصطلحات الكبرى، على عمليات استيلاء وتفويض وتقويض وتمييع.. ومن ثمة هذه المحاولة لتعريف المصطلح واقتراح كيفية تفعيله.

هذا النص ليس فتوى، إنما لحظة من لحظات تفكير جماعي محتدم على صفحات الجرائد وعلى الفضائيات، هو رؤوس أقلام لاجتهاد يستند إلى تجربة ربع قرن في النضال الفكري والسياسي ضد الاستبداد، ودعوة منذ سنوات في بلدي تونس للمرور من المعارضة إلى المقاومة، وعمل متواصل من أجل نقل الفكرة من الشعار إلى البرنامج.

قد تكون فائدة الأفكار التالية كبيرة في بلورة أرضية فكرية مشتركة بين كل المقاومين العرب.

1- المقاومة خيارنا الوحيد المتبقي: لم تعد مقولة "أنظمة لا تصلح (بفتح التاء) ولا تصلح" (بضمها) بحاجة إلى مزيد من التدليل.

فكل طبائع النظام العربي -دكتاتورا وحاشية- تمنع شيئا مثل الإصلاح والصلح والمصالحة.

ومن الأسباب: العجرفة ونسيان مبدأ "لو دامت لغيرك ما آلت إليك" والخوف من المحاسبة نتيجة حجم الجرائم المرتكبة والحقد الشخصي على المعارضين الذي يدفع للتعامل معهم بقوة الضغينة والجهل نتيجة العيش في عالم سحري يتعهده المتزلفون، بالإضافة إلى البارانويا الطبيعية أو المكتسبة بحكم طول البقاء في السلطة المطلقة.

ومن تلك الأسباب كذلك صعوبة المراجعات المؤلمة والمرض الجسدي والنفسي للدكتاتور.. وإحقاقا للحق صعوبة الحكم، حتى ولو كان النظام سليما والشخص سويا، فما بالك إذا غاب الشرطان.

الأهم من هذا كله أن المستبد يفهم ما لا يفهمه دعاة المصالحة من أن الإصلاح الكفيل بإنهاء الأزمة يمر حتميا بإنهاء الفساد والتزييف والقمع، وهذه هي دعامة سلطانه. ومن أقنع يوما خصمه بأن من مصلحته الانتحار؟

هذا يجعل انتظار الإصلاح في أحسن الأحوال سذاجة، وفي أسوئها جبنا يتغطى برداء الحكمة.

هكذا وضعنا ولا نزال أمام الخيار بين الاستسلام والمقاومة، أما الاستسلام فغير وارد لأنه يعني بالنسبة للمجتمع والدولة الانحطاط إلى مستوى من العفن غير مسبوق، لذلك فلا حل غير المقاومة.

2-المقاومة قطع مع المعارضة: إن المكان الطبيعي للمعارضات في ظل دكتاتورية دون مساحيق، هو المقابر أو السجون، أما في ظل دكتاتورية بمساحيق كما هو الحال في ملكيات وجملكيات (نحت بين كلمتي جمهورية وملكية) العرب، فهامش ضيق للغاية من الساحة السياسية ومحاصر بجحافل بوليس مجند كل لحظة لعرقلتها وإضعافها وتصفيتها إذا تجاوزت خطا أحمر.

ما لا تفهمه المعارضات العربية هو أن المعارضة (بما هي تكوين أحزاب قانونية وتشغيلها بحرية، لمراقبة أداء السلطة والضغط عليها لتحسين الأحوال، وتقديم البديل إلى الشعب في إطار انتخابات حرة سعيا للتداول على السلطة) لا تكون إلا في ظل النظام الديمقراطي الذي هو الشرط الأولي لوجودها وعملها وليس المحصلة النهائية لنضالها كما تتوهم.

"
المقاومة مسلحة بالضرورة حين تواجه جيشا أجنبيا غازيا، لكن مقاومة أنظمة الاحتلال الداخلي يجب أن تكون سلمية أو هي دواء أمر من الداء
"

معنى هذا أن الصبر عليها في مصر أو تونس وغيرها هو فقط لتسهم في الديكور الديمقراطي، خاصة عندما تقبل بالمشاركة في الانتخابات وهي أحسن من يعلم أنها مزورة.

المعارضة إذن طريق مسدود، أيا كانت حدة لهجتها واستقلاليتها ونزاهة أصحابها، وأحزابها بالضرورة حوانيت مفلسة تستثمر في حليب الثور وهي تصر على التعامل مع الاستبداد كأمر واقع لا مرد له، وعملها للمداهنة والترويض والتحسين.

وخلافا لها على المقاومة أن تتعامل مع الاستبداد، كاحتلال داخلي، كما تعامل آباؤنا مع الاستعمار كاحتلال خارجي، أي بالرفض المطلق لوجوده وجعل القضاء عليه هدف الأهداف.

3-المقاومة ليست الإرهاب أو العنف: المقاومة مسلحة بالضرورة حين تواجه جيشا أجنبيا غازيا، لكن مقاومة أنظمة الاحتلال الداخلي يجب أن تكون سلمية أو هي دواء أمر من الداء.

من بين الأسباب الكثيرة للخيار السلمي: أن العنف يمد في عمر الاستبداد بإعطائه ذريعة محاربة الإرهاب، إنه يكفل له مزيدا من دعم الأوصياء الأجانب، إنه ينفر جزءا من المجتمع ويضعه في جانب التسلط، إنه يستهدف الأبرياء، إنه يزيد من معاناة المجتمع، ومن يتحمل تبعاته الاقتصادية هم أفقر الناس، إن فعاليته معدومة كما دل على ذلك فشل التمرد المسلح في الجزائر.

ثمة أيضا سبب تكتيكي هام، إذ إن آلة القمع لدى لمحتل الخارجي ترحل معه لأنها منه وإليه، أما آلة قمع المحتل الداخلي فتبقى معنا إذ هي منا وإلينا.

فأفرادها ضحايا مثلنا وولاؤهم للعصابات الحاكمة اضطراري ومرحلي وبالغ الهشاشة، ما يعني أن الأجهزة الرهائن (الجيش والأمن والقضاء) حليف ممكن للمقاومة وفي كل الأحوال أداة للنظام الجديد، لذلك يشكل استهدافها بالعنف خطأ فادحا.

4- المقاومة تواصل المشروع التحرري وتحقق حلم الآباء والأجداد: هناك إجماع على أن الهدف الأصلي لمعركة التحرر الوطني، أي بناء دول مستقلة في خدمة شعوب حرة، قد فشل أو قل توقف، لأن دولة الاستقلال الأول خانته عندما تحولت إلى دولة خواص في خدمة حزب وعائلة وشخص.

هذا ما يحمل المقاومة مسؤولية استئناف مشروع لن يتقدم إلا بتجاوز الأسباب التي أجهضته، وليس فقط استبدال شخص بآخر وسياسة بأخرى في إطار نفس المنظومة السياسية التي أدت إلى الكارثة.

5- الرسالة الأولى للمقاومة وضع حد للاستبداد: تبين بصفة لا تقبل الجدل أن سبب هذا الإجهاض، والقاسم المشترك بين الملكيات والجملكيات الفاسدة التي تنادي بالوطنية أو بالقومية أو بالديمقراطية، هو تلك الآفة والعاهة: الاستبداد.

وهذا يعني أنه لا قيمة ولا دور للمقاومة خارج هدف تفكيك الاستبداد سواء في مستوى بنيته الفوقية (البوليس السياسي، التعذيب، المحتشدات، قمع الحريات الفرية والجماعية، الانتخابات المزيفة) وأيضا في مستوى بنيته التحية (برامج التعليم والتربية، العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة والمدرسة والمصنع).

6-الرسالة الثانية للمقاومة منع تجدد الاستبداد من داخل النظام المتعفن: إن إحدى الوسائل الأكثر احتمالا لمواجهة النظام العربي الحالي لمصيره المحتوم هي التخلص من الزعيم الأوحد وعائلاته لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصالح عديدة ومتشعبة، أصبح بقاء الدكتاتور أهم خطر يهددها.

والسيناريو محبوك وربما جاهز في أكثر من قطر بدفع من بعض القوى داخل النظام، وبمباركة الأوصياء الأجانب، يزاح الدكتاتور، فيتنفس الناس الصعداء ويتقدم رجل "جديد" من صلب المنظومة القديمة ليعد بنهاية الظلم وبداية عهد جديد إلخ، وما هي إلا أشهر وإذا الرجل الجديد القديم قد أعاد وضع النظام على السكة لجولة استبدادية جديدة هو قائدها.

والعادة أن يهرع الجزء الانتهازي من المعارضات لمباركة "التحول" و"استقراء الخير فيه" و"إعطاء الفرصة" و"العمل على التغيير من الداخل" وكل الخزعبلات الأخرى التي تخفي طمع المشاركة في سلطة طال ترقبها.

إن دور المقاومة هو الاستعداد لمثل هذا السيناريو عبر سيناريو مضاد يمنح القيادة الجديدة –إن لم يكن هذا برنامجها كما حصل في موريتانيا- مهلة بضعة أشهر لإعادة السيادة للشعب عبر تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية حقيقية، على أن تكون السلطة الانتقالية منظما لا طرفا فيها.

أما إذا رفضت فذلك دليل على أن الأمر خدعة حرب وأن على النضال أن يتواصل بقوة أكبر حيث لا أخطر من إعطاء المهلة للدكتاتورية الجديدة لكي تثبت مواقعها.

"
لا ينبغي للمقاومة أن تكون نواة للحزب الواحد، وإنما تكون تجمعا مرحليا لإنهاء الاستبداد، تنتهي مهمته بوضع أسس النظام السياسي الذي يعيد للشعب سيادته وللمواطن كرامته وللدولة شرعيتها
"

7-الرسالة الثالثة للمقاومة هي منع تجدد الاستبداد من داخلها إذا لم تفهم القوى السياسية البديلة –خاصة الإسلامية- أن الفشل المخزي للوطنية والقومية والاشتراكية لم يكن بسبب الأهداف والأيديولوجيا والاستعمار والصهيونية ولا حتى بسبب الأشخاص إنما نتيجة المنظومة الاستبدادية ككل، فكرا ومنهجا ووسائل.

وإذا أعادت المقاومة بأهداف وتبريرات أخرى إنتاج نفس المنظومة فإنه لن يمضي عقدان، على أسوأ التقدير، قبل أن تفلس هي الأخرى وأن تبغض الأمة- إذا كان البديل إسلاميا- في الإسلام السياسي وحتى في الإسلام.

ذلك يعني أن منع تجدد الاستبداد داخل المقاومة في زمن الصراع وإعادة إنتاجه عند التمكن قضية مصيرية بالنسبة لها وللمجتمع.

8- المقاومة جبهة وطنية واسعة ومؤقتة: إن تعدد مكونات الساحة السياسية أمر طبيعي يعكس تعدد التيارات السياسية التي تشق المجتمع، وهذه التيارات هي التي ستتصارع سلميا عبر الانتخابات الحرة لتمرير رؤاها وبرامجها، لذلك لا يجوز رفض تباينها بحجة وحدة المقاومة، ولا التوقف عند الاختلافات في مرحلة النضال التحرري وإلا تبعثرت القوى.

الحل هو الاعتراف بالتباين من قبل كل الأطراف وتجميده مرحليا حتى تستطيع المقاومة فرض الإطار السياسي العام الذي يعطي لوجود الأحزاب والتيارات الفكرية المكونة لها معناه ويسمح لها بالقيام بوظيفتها.

لا ينبغي إذن للمقاومة أن تكون نواة للحزب الواحد مثل جبهة التحرير الجزائرية، وإنما تجمعا مرحليا لإنهاء الاستبداد تنتهي مهمته بوضع أسس النظام السياسي الذي يعيد للشعب سيادته وللمواطن كرامته وللدولة شرعيتها ودورها الطبيعي في خدمة شعب لا خدمة شخص.

9- المقاومة شبكات مواطنين تعد للعصيان المدني السلمي: تنظيميا يجب أن تكون المقاومة شبكات وطنية، ومحلية، تنسق بينها وتحركها شخصيات قوية وصلبة أغلقت مؤقتا الحوانيت الحزبية أو جمدت نشاطها فيها، وتعتمد خطابا تعبويا وتحريضيا، وتعول أساسا على الاعتصام والتظاهر ورفض دفع الضرائب والإضراب تحضيرا للإضراب العام.

كل هذا يتواصل حتى انهيار النظام الاستبدادي وانتصاب النظام الديمقراطي على أنقاضه.

10- المقاومة صلابة في الأهداف ومرونة في التكتيك: خلافا للدكتاتورية التي لم تترك منفذا لها ولغيرها، على المقاومة أن تحافظ دوما على مخرج للمورطين في النظام، طالما ساعد هذا في حقن الدماء، كأن تتعهد بعدم محاسبة كل القوى من داخل السلطة التي تلتحق بها أو التي لا تدخل في إزهاق الأرواح لتمديد احتضار أنظمة ماتت في العقول والقلوب ولم يبق سوى مواراة جثمانها غير الطاهر في مزابل التاريخ.

السؤال الأزلي: نكون أو لا نكون… والرد الوحيد نكون بالمقاومة وبالاستقلال الثاني.. ولا نكون بأي شيء آخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.