المقدس والمدنس في حرية التعبير

المقدس والمدنس في حرية التعبير


في مواجهة حادة بين ضيفين في برنامج "الاتجاه المعاكس" بقناة الجزيرة خرجت عبارات نابية وتثليم بالشخصية الدينية الأكثر احتراما في العراق، آية الله علي السيستاني، كانت سببا في عملية استنكار شعبية ودينية داخل وخارج العراق.

وقد تعدت أشكال الشجب والاستنكار مجرد الهجوم على البرنامج إلى المطالبة بتحريم التعامل مع قناة الجزيرة، كما تجاوز الأمر عملية مناقشة برنامج تلفزيوني إلى الهجوم على مقر حركة الوفاق الوطني العراقي التي يتزعمها رئيس الوزراء السابق إياد علاوي في الناصرية (375 كلم جنوب بغداد).

"
الكلمة مسؤولية ولكن مصادرتها مسؤولية أكبر وأخطر، فلا يمكن أن نتحدث عن حرية التعبير وننسى أنها ليست مجرد مساحة من القواعد القانونية والأخلاقية والسياسية
"

كذلك اقتحم المتظاهرون مقر الحزب الشيوعي العراقي وأحرقوا محتوياته، حسب ما أفاد مراسل وكالة فرانس برس.. وفي الوقت عينه، حصلت تظاهرات مماثلة في كل من الكوت (175 كلم جنوب بغداد) والسماوة (270 كلم جنوب بغداد) وكركوك (255 كلم شمال بغداد).

أما في البصرة (550 كلم جنوب) فتظاهر المئات وسط المدينة مستنكرين ما حصل وهم يهتفون "تاج تاج على الرأس سيد علي السيستاني" و"عاش عاش الصدر، علاوي هو المندحر" و"الويل الويل للجزيرة"..

من الملاحظ أن المتظاهرين ربطوا بين حادثة البرنامج والمعركة الانتخابية، بحيث كانت الهتافات مع الجعفري والصدر والحكيم ضد علاوي، رغم أن هذا الأخير هو الذي أغلق مقر الجزيرة عندما كان رئيسا للوزراء، وشجب بشكل قوي حادثة "الاتجاه المعاكس"، كما أعرب عن تضامنه الكامل مع سماحة آية الله السيستاني.

ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها التعرض لهذه الشخصية المتميزة في المجتمع العراقي ولقناة الجزيرة، إذ كلاهما، ولأسباب مختلفة تماما، موضوع نقد حاد غير متساو في الجغرافيا، فمن داخل العراق نجد الأصوات الأقوى ضد هذه القناة، ومن خارجه الانتقادات الكثيرة لآية الله السيستاني.

ليس موضوع هذه الأسطر تحديد مواقع الخطأ والصواب في هذه التقييمات، أو البحث عن أهداف تجري معها تصفية حسابات معلنة أو كامنة، وإنما التنويه بملاحظات ثلاث.


الأولى: أن ما يمكن تسميته بالتناذر العراقي لن يتوقف عند برنامج تلفزيوني، وهو موضوع في غاية الخطورة والحساسية، إذ خلق مستويات متعددة من الشعور بالظلم، بعضها قومي وبعضها الآخر ديني.

كما أن هناك شعورا سائدا عند أغلبية العراقيين بأنهم غير مفهومين عربيا كما يجب، لا في ظل حقبة صدام حسين ولا في ظل الاحتلال. بموازاة ذلك، هناك إحساس عند جماهير عربية واسعة بأن احتلال العراق كارثة لا تقل عن نكبة فلسطين، كما أنه من الصعب تسمية ما هو احتلال، بكل الأعراف والقوانين، تحريرا لبلد.

باعتقادنا أن القلم والكلمة والصورة لها دور يوازي أهمية المصالحة الداخلية العراقية، مصالحة ستكون بالتأكيد قادرة على تجاوز هذه القطيعة المفاهيمية عندما تتمكن أطراف المجتمع العراقي الأساسية من إدراك أن تخلي كل واحد منها عن ركن من أركان خطابه يفسح المجال لجمعها تحت سقف جديد.

"
ضعف ثقافة الحريات والحقوق ينعكس بشكل مباشر على تحديد التخوم الأخلاقية والقانونية للنقد والرفض
"

القضية الثانية تتعلق بالجو المتوتر والمحتقن بين وسائل الإعلام المختلفة التي أصبحت تلجأ إلى أسلوب يتصيد به بعضها هفوات وخطايا بعض.

هذه المسألة تحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لندوات مشتركة تجمع عالم الفضائيات في حوار مباشر شفاف وصريح، ملتقيات تسمح بخلق علاقات مهنية وإنسانية بين أصحاب "الكار" المشترك وتخفف من حدة صراعات مسطحة لا تنفع أحدا، وتنعكس سلبا على الأداء الإعلامي الناطق بالعربية.

أما الموضوع الثالث، وهو يعني مباشرة كل مدافع عن حرية التعبير، فيتمثل في حدود وسقف الحريات الأساسية في العالم العربي.

والسؤال الذي نطرحه بصدق وصراحة هو: هل بالإمكان الحديث عن إعلام حر، وهو مكبل سلفا بمحظورات الحكام ومقدسات رجال الدين ورغبات الغوغاء؟

هل يمكننا قبول فكرة تحرر الخطاب الفكري والسياسي من الترهيب والترغيب، أو بكلمة رائجة أكثر من الإرهاب الذهني؟

ما الحدود بين النقد والثلم، بين السباب والعتاب، بين التعمير والتشهير؟ وهل يمكن أن يشعر المرء بكامل الحرية وهو يستعمل منبرا مباشرا دون أن تكون هذه الحرية انتقاصا من حق أشخاص آخرين؟

في 1868، كتب فيكتور هوغو جملة تعبر عن وضع كل متحدث داخل الفضاء الإعلامي أو خارجه، فقال "ألا ترى أنك على ميزان، في كفة منه قوتك وفي الكفة الأخرى مسؤوليتك، وأن ارتجاج هذا الميزان تعبير عن رجفة الوعي"؟.

نعم، الكلمة مسؤولية ولكن مصادرتها مسؤولية أكبر وأخطر، فلا يمكن أن نتحدث عن حرية التعبير وننسى أنها ليست مجرد مساحة من القواعد القانونية والأخلاقية والسياسية.

حرية التعبير ممارسة وسلوك وروح تجمع بين الرغبة الدائمة في اكتشاف الآخر والطموح غير المحدود لتجاوز الذات.

بهذا المعنى تنال هذه الحرية الأساسية بعدها الإنساني كعابرة للحدود العقائدية والإيديولوجية، وبهذا المعنى أيضا تنتصب فوق اقتصاد السوق وإسهال الخطب والترويج الدعائي لها أو عليها.

في كل الثقافات والحضارات هناك معطى عالمي اسمه سهولة نقد الآخر، فحديث الأوروبي مثلا عن "الاستبداد الشرقي" لا قيود عليه، وحديث العربي عن "الانحطاط الأخلاقي الغربي" لا سقف له.

ويتعدى الأمر ذلك وصولا إلى الثقافات الفرعية في المجتمع الواحد، ذلك أن تفوق الـ"نحن" ودونية الآخر جزء من آلية الرد على التهديد المستمر لهويات أصبحت عملية إعادة إنتاجها أسرع من إدراك أسباب تفككها.

"
من المخاطر الكبيرة على حرية التعبير قدرة أفكار محددة على امتلاك نوع من القداسة بمجرد أن يجعلها المجتمع قيما ومعتقدات يميز نفسه بها
"

ولا شك في أن هناك انتقائية واضحة في سهولة التهجم وسرعة الثلم عندما يتعلق الأمر بالآخر البعيد والمختلف.

فالصحفي المصري الذي يحرر نصا نقديا للأزهر يعيد قراءته مرات قبل نشره، والكاتب العراقي الذي يرغب في تناول احتفالية عاشوراء يعرف بأن هناك كلمات أقوى من الرصاص وأن من الضروري احترام مشاعر مواطنيه.

أعطي مثلا على ذلك، عندما صدرت فتوى الإمام الخميني بشأن سلمان رشدي، اعتذر عدد كبير من "رواد الديمقراطية" عن توقيع عريضة أعددناها تستنكر فتوى القتل، وقد كنا في الأسابيع الأولى 12 كاتبا وناشطا من أجل حقوق الإنسان فقط، واتهمتنا صحف عديدة بكل الموبقات.

كذلك التزم الصمت عن قائمة بكتب ممنوعة أصدرها الأزهر معظم المفكرين والمثقفين الإسلاميين، فهل هناك موضوعات الدفاع عنها محرم، وقضايا خاسرة سلفا مهما كان موقف القانون أو الشرعة الدولية لحقوق الإنسان منها، أم أن هناك أيضا قواعد منظمة لحرية التعبير وحرية النقد من الضروري احترامها؟

ما من شك في أن حرية التعبير تقف عند حدود الذم والشتم والتحقير والإهانات المجانية.

وإذا لم تكن قوانين الصحافة هي المنظم لهذا المبدأ، فالقانون الجنائي يتناول بوضوح قضية الادعاء الكاذب والإساءة المتعمدة والاعتداء على حقوق الآخرين.

بالطبع، لم يكن تنظيم هذه الأمور سهلا في الدول الأوروبية، فالخروج من القوانين الردعية لتنظيم الصحافة إلى ما سمي في فرنسا بقانون حرية الصحافة (لعام 1881) كان محصلة صراعات طويلة، صراعات داخل وخارج المحاكم، تبلورت عبرها حقوق أساسية للكاتب والصحافي وموضوع الكتابة، وألغي إثرها لأول مرة ما كان يسمى بجنحة التجديف.

لقد اختلفت القوانين الوطنية في طريقة تعاملها مع حرية التعبير، فمن البلدان من خصص لها قانونا خاصا (الأنموذج الفرنسي والمتأثرين به)، ومنها من لم يجد ضرورة لأي قانون خاص، تاركا الأمر في نطاق القانون الجنائي والقانون المدني.

وفي حين أن بعض البلدان ما زال يؤمن حماية لمذهب الدولة من النقد اللاذع أو النقض، كما هو حال بريطانيا والكنيسة الأنجليكانية، فإن العديد من القوانين الموجودة لم تطبق منذ عقود.

وبغض النظر عن التفاصيل القانونية التي تتفاوت بين البلدان، يمكن أن نتحدث عما يسمى نظرية حسن النية، هذه النظرية التي يضع لها القاضي الفرنسي كلود غرييه Claude Grellier أربعة أركان، الأول الهدف المشروع والثاني الحذر في التعبير والثالث غياب روح الضغينة والبغضاء والرابع الصدقية وقبول مبدأ الحوار المتباين الآراء.

هذه القواعد ذات البعد القانوني ربما صلحت كناظم أخلاقي وقانوني معا، إلا أن القانون وتفسيره، الحكم القضائي والحكم الجماهيري، الموقف القيمي والموقف المسبق، كل هذه الأمور نسبية جدا. فمن الصعب تناولها بشكل قاطع، حيث تخضع للزمان والمكان والثقافة والرأي العام.

ومن المخاطر الكبيرة على حرية التعبير قدرة أفكار محددة على امتلاك نوع من القداسة بمجرد أن يجعلها المجتمع قيما ومعتقدات يميز نفسه بها.

"
ثقافة التدخل والتفوق التلقائية تقف في مواجهة الحق في الاختلاف وتتصدى لأجمل ما في خاطرة حكيمة تقول إن عدم القدرة على فهم منطق الاختلاف يحرم المرء من استقراء مجاهل الغد
"

من غرائب الصدف أن حادثة آية الله السيستاني قد تزامنت مع قضية أخرى، لكنها في الرأي العام الغربي هذه المرة، عندما اعتبر الرئيس الإيراني المحرقة اليهودية في ألمانيا النازية أسطورة.

هنا نجد نوعا من التعاطف الشعبي العام في العالم الإسلامي مع محمود أحمدي نجاد لا يتوقف عند هذا المذهب أو ذاك.

أما كون جريمة ضد الإنسانية قد ارتكبت بحق اليهود والغجر فهذا موضوع آخر يترك أمره للاستنكار الغربي في الغرب.

لا شك أن ضعف ثقافة الحريات والحقوق ينعكس بشكل مباشر على تحديد التخوم الأخلاقية والقانونية للنقد والرفض، فنحن نعيش في مجتمع يخلط بين العمل الصحفي والعمل السياسي، كما يتداخل فيه الديني والدنيوي، كانعكاس مباشر لتأميم السلطة التنفيذية لأخواتها ومحاولة أطراف دينية متعددة فرض حالة استعلاء في الخطاب والقانون على الدنيوي.

ثقافة التدخل والتفوق التلقائية هذه تقف في مواجهة الحق في الاختلاف، وتتصدى لأجمل ما في خاطرة حكيمة تقول إن عدم القدرة على فهم منطق الاختلاف يحرم المرء من استقراء مجاهل الغد.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان