القوميات المتدينة والفردوس المفقود

القوميات المتدينة والفردوس المفقود


عاطف عبد الحميد

– الرقعة الجغرافية
– السلافية والكنيسة
– الهندوتفا وقبرستان
– الفردوس المفقود

تعرف الأمة بأنها مجموع العناصر المشتركة من اللغة والجنس والدين والتاريخ والوحدة الجغرافية التي تميزها عما يجاورها من أمم.

وحينما تترجم هذه المشتركات في بناء سياسي له طموحات وتنافسات مع الأمم المجاورة، يتحول مفهوم الأمة nation إلى الأممية أو القومية nationalism بمعنى الانتقال من جسم ساكن إلى قوة متحركة متمددة.

وتقف الأمة nation في موقع وسط بين المستوى الأدنى الذي تمثله القبائل والعشائر الذي قد يرقى إلى مستوى العرق فتؤلف الأعراق أمة، والمستوى الأعلى الذي تمثله الحضارة والتي تتألف من عدة أمم.

وللقومية أنواع، أكثرها هدوءا القومية المدنية التي لا تتعاطف مع التوجهات العرقية أو الدينية، وتنظر بمساواة إلى مختلف شرائح المواطنين في ظل حقوق المواطنة. وأقربها للخطر القومية العضوية التي تستمد فيها الدولة شرعيتها من انتمائها العضوي لجنس بعينه وتهدف إلى مثالية السيادة والوحدة والتفوق.

وتعتبر القومية المتدينة religious nationalism أخطر أنواع القوميات، وهي حركة يمينية تزاوج بين التعصب القومي والاستعلاء الديني، وتكمن خطورتها في تحولها في كثير من الحالات إلى حركة عنصرية تستهدف الأقليات الدينية والعرقية وبصفة خاصة حين تتحول إلى حركات مسلحة.

ولابد من الإقرار بأن ظهور القوميات المتدينة يأتي انعكاسا لعوامل متعددة أهمها أزمة الهوية، والصراع مع علمانية الدولة، ومقارنة أوضاع الأغلبية بالامتيازات التي قد تحصل عليها الأقليات، والغزو الفكري الخارجي، وطموحات مناطق الأطراف في صراعها مع المركز، والمشروعات الانفصالية عن وحدة الدولة.

الرقعة الجغرافية

"
تعد منطقة الشرق الأوسط واحدة من المناطق التي سال حبر كثير في مراكز الأبحاث الغربية لدراسة توجهاتها القومية المتدينة, ومع ذلك يظل التداخل والالتباس في تصنيف هذه القوميات, والخريطة القومية على مستوى العالم أعقد من ذلك بكثير
"

تعد منطقة الشرق الأوسط واحدة من المناطق التي سال حبر كثير في مراكز الأبحاث الغربية لدراسة توجهاتها القومية المتدينة.

فمن صدام الصهيونية مع القومية العربية الإسلامية إلى صدام القومية الفارسية الشيعية مع القومية العربية السنية، وصولا إلى ما يسمونه هضم القومية العربية الإسلامية في شمال السودان حقوق القومية الأفريقية الوثنية والمسيحية في الجنوب والغرب.

وفي مثل تلك الدراسات يستمر التداخل والالتباس، فتصنف جبهة الإنقاذ الجزائرية كحركة قومية إسلامية، كما يصنف الإخوان المسلمون في مصر كأهم خطر قومي متدين يهدد الأقلية القبطية المسيحية، مع تلغيم مصطلح القبطي هنا حين يقصد به "المصري المسيحي الأصيل" في مقابل "العربي المسلم الغازي".

لكن الخريطة أكبر من ذلك، فبعدد الديانات الكبرى في العالم سنجد قوميات متدينة، كالقومية المسيحية، والقومية البوذية، والقومية الهندوسية، وقومية الشنتو في اليابان.

أما القومية الإسلامية فيخلطون في تناولها بين مفهوم الأمة في دلالاته الغربية nation والمفهوم الإسلامي للأمة Ummah الذي يتجاوز القوميات ويحتضن العجم والعرب ويؤاخي بين البيض والسود ( ولا يجب أن نأخذ مثالية الفكرة بخطايا التطبيق).

وفي الفضاء الأوراسي كانت الشيوعية قد تمكنت من إخماد المطامح القومية لسبعة عقود، فاعتبرت القومية محض أوهام، ومجتمعات متخيلة تستند إلى أساطير ملفقة ورموز مختلقة. واستخدمت في سبيل ذلك ألوانا مختلفة من القمع والقهر.

لكن صحوة الفكر القومي –رغم الحديد والنار- جاءت من دول البلطيق ومن شرق أوروبا، وخاضت هاتان المنطقتان في العقود الثلاثة الأخيرة من عمر السوفياتية كفاحا متصلا للحفاظ على الهوية القومية من الذوبان، فأبقت على جذوة النار متقدة حتى تمكنت من تفكيك الاتحاد السوفياتي من أطرافه الغربية.

غير أن دول البلطيق الثلاث (ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا) نجحت في تبني نموذج علماني من القومية، وأقرت مسارا ديمقراطيا بدعم من الناتو والاتحاد الأوروبي. وقد حقق ذلك لتلك الدول استقرارا في البناء الاجتماعي والنظام السياسي.

كما خيبت هذه الدول توقعات القوميين الروس الذين انتظروا أن تنتقم القومية البلطيقية الصاعدة من الأقلية الروسية، والتي كانت قد اختارت البقاء في تلك الدول.

وفي آسيا الوسطى لم تصل أفكار الحركات القومية بدرجة كافية، فالوجدان كان منشغلا بالدين الإسلامي أكبر من انشغاله بالقومية، كما أن الميراث السلطوي العتيد في الإقليم –منذ العصور الوسطى- كان يرفض الثورة والتغيير، وما زال.

وفي القوقاز الشمالي تمكنت الحركات الانفصالية منذ لحظة انهيار البناء السوفياتي من تزويج القومية بالدين، وبلغت نموذجها الكامل في الصراع الشيشاني لنيل الاستقلال، والذي فشل فشلا داميا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.

وفي القوقاز الجنوبي تنامت القومية المتدينة على مدى عقد التسعينيات حتى سمع بها العالم حينما رفع الثوار القوميون في جورجيا –في ثورة الورود الشهيرة في نهاية 2003- الأعلام التي تزينها الصلبان، مذكرين بالمجد المسيحي الذي عرفته القومية الجورجية في القوقاز الجنوبي.

كما ظلت الحركات القومية في أوروبا الشرقية في الصعود التدريجي حتى رأى العالم تضامن الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية مع فيكتور يوتشينكو –الذي قاد الثورة البرتقالية في نهاية 2004- كرمز لوحدة الدين مع القومية الأوكرانية الساعية إلى التحرر من التسلط القومي الروسي على شرق ووسط البلاد.

لكن الصورة الأكثر دموية كنا قد عرفناها قبل ذلك مع تفكك اتحاد آخر هو الاتحاد اليوغسلافي الذي اتخذت فيه القومية الصربية الأرثوذكسية أشكالا متطرفة، وسلكت دربا عنصريا عبدته بالمقابر الجماعية والتطهير العرقي للبوسنين والألبان المسلمين.

السلافية والكنيسة

"
المغازلات التي تتم الآن بين القومية والكنيسة في روسيا لم تصل بعد إلى الدرجة التي تشكل قومية متدينة كاملة الملامح، والقومية المتدينة في روسيا تنتظر شبابا وفتوة، وقد تنجح الكنيسة في الوصول إلى الشارع  وربما تتلاقى مع القوميين الروس 
"

بدوره يزاوج التيار القومي الروسي بين العرق السلافي و"رسالية" الكنيسة الأرثوذكسية. وهو تيار يعاني الخروج من مرحلة التجمد التي عاشها قسرا خلال القرن العشرين.

كانت روسيا ما قبل الشيوعية في أوج قمتها تزاوج بين السلافية وكنيستها المسماة "روما الثالثة". ولقد عرف التاريخ مصطلح روما الثالثة منذ سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين في القرن الخامس عشر الميلادي. واستمرت الكنيسة الروسية تحتل مكانة بالغة الأهمية في العالم حتى عطلتها الشيوعية مطلع القرن العشرين.

الآن تجري المحاولات الجادة لإعادة الكنيسة الروسية إلى مكانتها السابقة كمميز ثقافي للشعب السلافي. وتتنوع أساليب إعادة هذه الكنيسة ومزاوجتها بالفكر القومي، تارة بالظهور في الاحتفالات القومية والمناسبات الرسمية وتارة بإقرار نظام تعليمي جديد يعيد المقررات المسيحية إلى طلاب المدارس، وتارة ثالثة بالخدمات الاجتماعية التي لولا الحصة الضعيفة للكنيسة في ميزانية الدولة لحققت نتائج متقدمة.

وهناك عدة أسباب ستضمن للتيار القومي الروسي تصاهره مع الكنيسة وتضخمه في المستقبل، أهمها التناقص في أعداد المواليد من أصل سلافي، وهجرة الرجال إلى الولايات المتحدة والغرب، ووقوع عدد متزايد من الفتيات والنساء الروسيات لمغريات منظمات الدعارة العالمية والمحلية وترويج سلعها في الدول الإسكندينافية والخليج العربي ومصر وتركيا وإسبانيا، وهو ما يؤدي في مجموعه إلى انكماش القدرات الإنجابية للحفاظ على العرق السلافي.

ما يزيد الطين بلة للقوميين المتدينين في روسيا هو تنامي أعداد الشعوب غير السلافية والمسلمة منها بصفة خاصة، وارتفاع معدلات هجرة المسلمين من دول آسيا الوسطى وبصفة خاصة من أوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان.

صحيح أن المغازلات التي تتم الآن بين القومية والكنيسة في روسيا لم تصل بعد إلى الدرجة التي تشكل قومية متدينة كاملة الملامح، بسبب عدم سماح النظام الشمولي (وليس العلماني) في الدولة بظهور قوى منافسة في الشارع الروسي.

لكن القومية المتدينة في روسيا تنتظر شبابا وفتوة، وإذا ما نجح البناء الديمقراطي خلال العقدين المقبلين، يتوقع أن تنجح الكنيسة في الوصول إلى الشارع مع حصولها على حقها في الميزانية الضخمة المساء استغلالها، وربما تتلاقى مع القوميين الروس بعد أن تنضج رؤاهم وتتنوع قيادتهم فلا تقتصر على مرحلة المراهقة التي يقودها الآن فلاديمير جيرينوفسكي.

كما أن بوسع الكنيسة الروسية الأرثوذكسية –حين تحصل على حصة من الميزانية– أن تتمكن من مواجهة نشاط الكنيسة الإنجيلية (البروتستانتية) التي تعمل بحرية في الأراضي الروسية، وبصفة خاصة في منطقة سيبيريا متوغلة بين أبناء القرية ومغرية إياهم بسطوة الدولار.

الهندوتفا وقبرستان

"
الشعار الذي ترفعه الهندوتفا هو "باكستان يا قبرستان" أي على المسلمين –الذين يقترب عددهم في الهند من 170 مليون نسمة- أن يرحلوا غير مأسوف عليهم إلى باكستان أو فليحفروا قبرهم في الهند
"

كعادة الفكر القومي المتدين في تصنيفه المواطنين، تصنف القومية الهندوسية سكان الهند إلى ثلاث فئات: الأولى تضم الهندوس عرقا وثقافة ودينا وهم أبناء الهند الأصليون. والثانية تشمل المنشقين عن الديانة الهندوسية ويمثلهم أبناء الطائفة السيخية.

أما الثالثة فتجمع أبناء "المحتلين الغزاة" الذين تخلفوا حينما رحل المستعمرون أو سقطوا، ويمثلهم المسلمون والمسيحيون ومن اعتنق ديانتهم من الهندوس ، وهؤلاء هم الأعداء الحقيقيون للأمة الهندوسية بوصفهم أذناب الاستعمار.

تتبنى القومية الهندوسية أيدولوجية "الهندوتفا". ويقصد بالهندوتفا Hindutva مركب متكامل من المشتركات الدينية والثقافية والانتماء لأرض واحدة وملامح اجتماعية متشابهة ومستقبل تسود فيه قيم الديانة الهندوسية على غيرها من الديانات، وتسترد مجدها القديم الذي "دنسه" المسلمون والمسيحيون والسيخ.

الأهداف التي تسعى لها الهندوتفا تمضي على مستويين: كسب الأتباع يوما بعد يوم، وبصفة خاصة على مستوى القرية والمجتمع الريفي البعيد عن "ملوثات" الفكر العلماني الناقد للتعصب القومي المتدين. والثاني استهداف الأقليات الدينية من المسلمين والمسيحيين وحملهم على هجرة البلاد وإرهاب من يفكر في اعتناق دينهم من الهندوس.

يعود عمر الهندوتفا إلى أكثر من قرن من الزمان، لكنها اكتسبت زخما في زمن الاستقلال عن بريطانيا في منتصف القرن العشرين، واستمدت شرعيتها من انفصال المسلمين في باكستان، وواصلت مسيرتها القوية بتشكيل أكبر أغلبية في البرلمان في عقد التسعينيات، فترجمت أهدافها العنصرية بقتل آلاف المسلمين واغتيال نفر من المنصرين، كما هدم مريدوها المساجد ودنسوها واعتدوا في حالات قليلة على بعض الكنائس والمتنصرين.

الشعار الذي ترفعه الهندوتفا هو "باكستان يا قبرستان" أي على المسلمين –الذين يقترب عددهم في الهند من 170 مليون نسمة- أن يرحلوا غير مأسوف عليهم إلى باكستان أو فليحفروا قبرهم في الهند.

قد تفلح عودة علمانية حزب المؤتمر إلى الحكم منذ عام 2004 وبحكومة يقودها السيخي مانموهان سينغ -الذي عانى وطائفته من تطرف الهندوسية- في إطفاء النيران التي تشعلها الهندوتفا، من خلال دعم النموذج العلماني الذي كان قد أرساه جواهر لال نهرو قبل نصف قرن.

الفردوس المفقود

"
على الأقليات الإسلامية أن تبحث عن فردوسها المفقود بمبايعة الأحزاب العلمانية، ولها في الهند أسوة حسنة حيث تمكنت أصواتهم من تشكيل حصة مهمة من الفوز الذي أعاد حزب المؤتمر العلماني ثانية إلى الحكم
"

الواقع المشتت الذي تعيشه "الأمة" الإسلامية يجعلها تترك الأقليات المنتمية إليها لقمة سائغة للتطرف القومي المتدين في أغلب دول العالم.

وأبعد ما ينادي به مفكرو الأمة الإسلامية هو مناجأة حكومات الدول القومية في روسيا والهند وفرنسا والصين وغيرها بأن يتبنوا النموذج العلماني.

ويتماشى تماما مع هذا ما يتبناه الإسلاميون "المستنيرون" في خطابهم حين يستبدلون مفهوم الأمة -الذي يمكن أن تستنفر به الشعوب الإسلامية طاقتها لمساعدة الأقليات- بمفهوم آخر هو التعايش.

ويقصد بخطاب التعايش أن ترتب الأقليات الإسلامية أوضاعها في كل قطر على حدة بحيث ترضى بقدرها المكتوب وتصارع بمفردها لنيل الحد الأدنى مما تجود به الدولة القومية المتدينة.

على الأقليات الإسلامية إذن –حيثما كان موقعها- أن تبحث عن فردوسها المفقود بمبايعة الأحزاب العلمانية، ولها في الهند أسوة حسنة حيث تمكنت أصواتهم من تشكيل حصة مهمة من الفوز الذي أعاد حزب المؤتمر العلماني ثانية إلى الحكم.

ولعل المسميات التي نطلقها اليوم على الأقليات خير دليل على التحول من خطاب الأمة إلى خطاب التعايش القطري، فصرنا نقول مسلمو فرنسا ومسلمو روسيا، ومسلمو الصين، ومسلمو الهند.

وعلينا أن نغفر لعلماء الدين تناقضهم حين يلعنون العلمانية في مجتمعاتنا المحلية ويزفون إليها المديح في مجتمعات الأقليات الآسيوية والغربية، فهل بوسعهم أكثر من هذا؟
ـــــــــــــــ
كاتب مصري

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.