مصالح الشياطين من موسكو إلى بكين

مصالح الشياطين من موسكو إلى بكين

 
 
 
تقول إحدى النكات الروسية إن الرئيس فلاديمير بوتين حينما تسلم الصندوق السري لإطلاق الصواريخ النووية من سلفه بوريس يلتسين نبهه الأخير بقوله "كن حذرا، هذا الزر يطلق الصواريخ على بكين، وذاك بوسعه أن يدمر نيويورك". خرج بوتين ثم عاد بعد برهة غاضبا ملقيا بالصندوق أمام يلتسين قائلا "إنك تخدعني.. هذه الأزرار لا تعمل!".
 
وبغض النظر عن أن هذه النكتة تروى للنيل من ذكاء الرئيس بوتين الذي يمكن أن يدمر العالم ليختبر زرا، فإنها تحمل معنى أكثر أهمية وهو الحالة المتهالكة التي وصلت إليها الأسلحة الروسية ومستوى دقة ضبطها والتحكم فيها.
 
ففي مطلع شهر أغسطس/آب الماضي كادت غواصة روسية أن تغرق في مياه المحيط الهادئ بعد أن علقت بشبكة صيد، لكن قبل أن ينتهي ذات الشهر صورت وسائل الإعلام المناورات العسكرية التي جرت بين الصين وروسيا وكأنها محاولة لإعادة بناء عالم متعدد الأقطاب وخطوة جادة لمواجهة الهيمنة الأميركية في آسيا الشرقية والوسطى.
 
أجريت المناورات الصينية الروسية أمام ميناء فلاديفاستوك الروسي وشبه جزيرة شاندونغ الصينية على ساحل المحيط الهادئ، ووصفت وسائل الإعلام المناورات بأنها تحمل "رسائل متعددة".
 
فصحيفة "تايبيه تايمز" التايوانية خرجت يوم المناورات لتنبه القراء إلى التهديد الروسي-الصيني لاستقلالية الجزيرة التايوانية، بينما عبرت "سي أن أن" عن المناورات بوصفها "استعراضا للعضلات العسكرية للدولتين الشيوعيتين سابقا"، وذلك في منطقة قريبة من المجال الحيوي للأسطول الأميركي السابع، كما لم تكن هذه المناورات بعيدة عسكريا عن مناطق نفوذ القاعدة الأميركية الرابضة فوق جزيرة أكيناو في جنوبي اليابان.
 
لم يدخر بعض المحللين جهدا في وصف المناورات بأنها "تدريب على مواجهة الحركات الإسلامية ذات النزعة الانفصالية التي تعانيها روسيا في القوقاز والصين في شينغيانغ".
 
كذلك كان متوقعا أن يتعاطى البعض مع الحدث باعتباره رسالة موجهة للحركات المسلحة في آسيا الوسطى التي من الممكن أن تزعزع استقرار "الأمن الجماعي". بل ذهبت بعض مراكز الأبحاث الأميركية إلى اعتبار المناورات "تحالفا أحمر لمواجهة الخطر البرتقالي"، في تلميح إلى التعاون بين جيشين عتادهما العسكري من زمن الشيوعية يحاولان إيقاف توغل الثورات السلمية التي تطيح بنظم الحكم في وسط آسيا وربما تصل إلى أحد البلدين.
 
رداء عسكري لمصالح اقتصادية

"
التعاون بين روسيا والصين هو تقارب اقتصادي يرتدي زيا عسكريا، إذ تشير الإحصاءات إلى أن حجم التجارة بين الدولتين يبلغ 20 مليار دولار
"
مجلة فوربس

قد يبدو صعبا التشكيك في الطروحات السابقة، فالمناورات التي جرت استخدمت فيها كافة التشكيلات المسلحة، وجربت فيها أنواع جديدة من الأسلحة الروسية وخاصة الصاروخية التي تم تجريبها عمليا قبل أن تجد لها طريقا إلى السوق الكبير في شرق وجنوب آسيا.

 
لكنه من الحري أن توضع تلك المناورات في حجمها الحقيقي، فهي لا تعدو أن تكون صفحة في كتاب العلاقات بين البلدين، تلك العلاقات التي تتأرجح بين التعاون التكتيكي والتنافس الإستراتيجي.
 
وربما صدقت مجلة فوربس حين علقت على المناورات فوصفت التعاون بين روسيا والصين بتقارب اقتصادي يرتدي زيا عسكريا، إذ تشير الإحصاءات إلى أن حجم التجارة بين الدولتين يبلغ 20 مليار دولار، ويخطط الطرفان لأن يصل الرقم إلى 80 مليارا في غضون 15 عاما.
 
وتتصدر الأسلحة قائمة الصادرات الروسية لبكين، فالصين أكبر مشترٍ للسلاح الروسي في العالم "تليها الهند"، وعلى السلاح الروسي تعتمد كثير من عمليات الإحلال وإمدادات قطع الغيار.
 
وبعد السلاح يأتي النفط كأهم عنصر تجاري صاعد في علاقة البلدين، فنقطة الضعف الأولى في مصادر الطاقة الصينية تتمثل في اعتمادها على الموارد الفحمية بنسبة 70%، وهو ما يصيب البيئة الحضرية بتلوث شديد، ورغم أن الصين كانت وصلت في مطلع التسعينيات إلى مستوى الدولة المصدرة للنفط، فإن الزيادة الهائلة في قدراتها الصناعية -التي جعلتها ثاني مستهلك للطاقة في العالم بعد الولايات المتحدة- قد دفعت بها إلى الاعتماد على ثلث ما تستهلكه من نفط من مصادر خارجية، يأتي أغلبه من الشرق الأوسط.
 
ويتشابه القلق الصيني تجاه منطقة الشرق الأوسط مع نظيره الأميركي، مما يدفع بكين إلى تنويع اعتمادها على مناطق بديلة وأهمها سيبيريا الروسية، ونفط كزاخستان في آسيا الوسطى، بل إن شركة النفط الوطنية الصينية (CNPC) قد خرجت للبحث عن استثمارات نفطية في كل من العراق والسودان وفنزويلا وكوبا وإيران.
 
ويعتبر نفط سيبيريا واحدا من أهم مصادر النفط الذي تعول عليها بكين لتغذية صناعاتها الشرهة، ولا يعطل من وصول النفط الروسي بكميات كافية سوى إتمام خط الأنابيب الذي سيمر من منطقة الشرق الأقصى الروسية إلى موانئ الشمال الصيني.
 

"
يعتبر نفط سيبيريا واحدا من أهم مصادر النفط التي تعول عليها بكين لتغذية صناعاتها الشرهة، ولا يعطل   وصوله سوى إتمام خط أنابيبه 
"

وتشير بيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية (EIA) إلى أن الصين ستحصل عبر هذا الأنبوب على مليون برميل يوميا من حقول أناغارسك، وقبل أن تحدث أزمة شركة يوكوس الروسية كانت شركة (CNPC) وقعت مع يوكوس في يونيو/حزيران 2003 مذكرة تفاهم حول المشروع.

 
وبعد أزمة يوكوس ربما سيكون البديل المتاح أن تقوم شركة ترانسنفت الروسية بنقل النفط السيبيري إلى ميناء ناخودكا الروسي على المحيط الهادئ، ومنه بالناقلات البحرية إلى الموانئ الصينية المجاورة.
 
وإضافة إلى النفط، مازالت مشروعات نقل الغاز الطبيعي من سيبيريا عند مدينة أركوتسوك تنتظر تدبير 12 مليار دولار لمد أنبوب للغاز، وستحصل الصين حين إتمامه على ملياري قدم مكعب يوميا.
 
ورغم أن الصين حريصة على إتمام تلك المشروعات وتظهر جدية في التعاون مع روسيا مشترطة ألا تزاحمها اليابان في حصة من التصدير، فإنها لا تضع كل ثقلها على المصدر الروسي.
 
فمن الصعب أن ينسى القادة الصينيون تلك الأزمة الحادة التي شهدتها الصناعة الصينية في أعقاب توتر العلاقات بين موسكو وبكين في الستينيات من القرن العشرين، حينما سحبت روسيا مهندسيها من المصافي والحقول النفطية والمصانع الصينية وهو ما أصاب البلاد بضربة موجعة.
 
من يحكم آسيا الوسطى؟
كخطوة مهمة لتخفيف خطر الاعتماد على الطاقة الروسية، نجحت الصين في تثبيت أقدامها على مشارف بحر قزوين حينما استثمرت في ثلاثة حقول رئيسية في غربي كزاخستان.
 
وفى ذات الوقت يجري العمل للانتهاء من الاتفاقات بين بكين والآستانة لمد خط أنابيب ينقل النفط من قزوين إلى إقليم شينغيانغ ذي الأغلبية المسلمة في غربي الصين ومنه إلى شنغهاي في شرقي البلاد.
 

"
التحدي الأكبر للصين في آسيا الوسطى هو الحضور المتنامي لشركات النفط الأميركية الذي يجعل الصراع على النفط في حقيقته حربا على الأنابيب بين دولة تريد توجيه النفط شرقا وأخرى تريد تحويله إلى الغرب
"
ولأن هذا المشروع يحتاج إلى عشرة مليارات دولار لإتمامه، فإن شركة النفط الصينية (CNPC) أبدت استعدادا لإشراك مستثمرين أوروبيين، كما أنها بدأت بالفعل في التنقيب عن النفط في أوزبكستان.
 

وقبيل الحملة الأميركية على أفغانستان حرر غودمان وسيغال كتابا أسمياه "الصين تعيد بناء نفسها" خرجا فيه بنتيجة مفادها أن التحدي الأكبر للصين في آسيا الوسطى هو الحضور المتنامي لشركات النفط الأميركية، الذي يجعل الصراع على النفط في حقيقته حربا على الأنابيب بين دولة تريد توجيه النفط شرقا وأخرى تريد تحويله إلى الغرب، وهاتان الدولتان هما أكبر المستهلكين للنفط في عالم اليوم.
 
بعد الحملة الأميركية على أفغانستان وزرع القواعد الأميركية في آسيا الوسطى والقوقاز أنهى لوتز كليفمان كتابه "الدم والنفط في آسيا الوسطى" مشيرا فيه إلى المقابلات التي أجراها مع رؤساء شركة (CNPC) الصينية في كزاخستان، والتي أعربوا له فيها أن الولايات المتحدة حينما تزرع قواعدها في آسيا الوسطى لا تحتل الحقول النفطية كما يتخيل العامة، لكنها ترهب حكومات هذه المنطقة من أن تبرم صفقات مستقبلية لاستخراج ونقل النفط مع شركات غير أميركية، وبصفة خاصة مع شركات صينية.
 
خضعت الحقول النفطية في آسيا الوسطى للنفوذ الأميركي عبر خمس قواعد عسكرية أقامتها واشنطن في كل من قرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان، وتتمثل أخطر القواعد تهديدا للصين في تلك الواقعة على مقربة من حدودها مع قرغيزستان، وتعرف بقاعدة "ماناس" التي تسع ثلاثة آلاف جندي ومقاتلات جوية عدة، وتنبع خطورتها من توافر بعض المؤشرات التي تدل على استخدام القاعدة لطائرات أواكس ذات المهمات التجسسية على الدول المجاورة.
 
وعلى مقربة من الحدود الصينية أيضا أقامت الولايات المتحدة ثلاث قواعد في طاجيكستان في كل من كوليب في منطقة إستراتيجية بين قرغيزيا وأوزبكستان مشرفة على وادي فرغانة، وفي خوقاند وقورغونتيب وهما قاعدتان تقعان قريباً من خط التماس مع الحدود الأفغانية.
 
ورغم تاريخ روسيا الطويل في هذه الدول فإنها لا تمتلك سوى قاعدة واحدة في قرغيزستان تسمى قاعدة "كانت" تشمل -بحسب مصادر عسكرية روسية- 25 طائرة مقاتلة، فضلا عن مراكز تقنية لتوجيه الغواصات النووية عبر الأقمار الصناعية ومحطة استقبال معلومات لتوجيه الصواريخ الباليستية.
 
وقد فشلت موسكو وبكين عبر منتدى شنغهاي في مواجهة الأطماع الخارجية، وكذلك فشلت اتفاقية الأمن الجماعي بين دول الاتحاد السوفياتي السابق في إيقاف التغلغل الأميركي للمنطقة.
 
وحينما اتضح أن الولايات المتحدة تخطط لإبقاء قواتها في المنطقة لعشرات السنين القادمة، طالبت بكين وموسكو في يونيو/حزيران الماضي واشنطن بسحب قواتها من كل من قرغيزستان وأوزبكستان.
 
وقد جاءت كلمات وزير الدفاع الأميركي دونالد رمسفيلد قاطعة حين أعرب أنه "ليست هناك نية لسحب قواتنا من قرغيزستان وأوزبكستان"، واتهمت وسائل الإعلام الأميركية روسيا والصين بابتزاز حكومات المنطقة وإرهابها لتفكيك القواعد الأميركية.
 
أقل الشياطين خطرا

"
الصينيون ينفسون عن ضيق حالهم بالهجرة غير المشروعة إلى أرض غنية بالموارد قليلة السكان على الجانب الروسي، وهو ما يخلق ظاهرة يسميها القوميون الروس "احتلالا صينيا صامتا"
"

بينما تتكاتف موسكو وبكين في حرب واحدة تهدف إلى توجيه أنابيب النفط والغاز شرقا نحو الصين ومواجهة الهيمنة الأميركية في آسيا الوسطى والشرقية، فإنهما تواجهان كثيرا من المشاكل.

 
فإضافة إلى ضعف الثقة المتبادلة بين الدولتين والنابعة من تجارب تاريخية ومواجهات عسكرية، والتقارب الروسي-الهندي، والتنافس الخفي بينهما للسيطرة على آسيا الوسطى، تبرز مشكلة الخلل الديمغرافي بينهما كخطر محتمل.
 
ففي كتابه "العلاقات الروسية-الصينية.. تقارب أم تضارب" يفسر شيرمان غارنيت ذلك الخلل بمقارنة الوضع على الحدود في شرق سيبيريا، فعلى الجانب الروسي يعيش ثمانية ملايين نسمة في مساحة تزيد عن ستة ملايين كلم2، في حين يعيش على الجانب الصيني 130 مليون نسمة -يعانون البطالة والفقر- في مساحة لا تصل إلى مليوني كلم2.
 
السكان الصينيون ينفسون عن ضيق حالهم بالهجرة غير المشروعة إلى أرض غنية بالموارد قليلة السكان على الجانب الروسي، وهو ما يخلق ظاهرة يسميها القوميون الروس "احتلالا صينيا صامتا" للمناطق الشرقية من روسيا ستصل بالعلاقات بين موسكو وبكين إلى حد المواجهة.
 
قد تحمل القضية السابقة بعض المبالغات، كمبالغات البعض في التفاؤل بقرب إعادة بناء النظام العالمي بتحالف صيني-روسي. صحيح أن هناك اتفاقا بين موسكو وبكين على مواجهة الخطر الخارجي، إلا أن هذا لا يقضي نهائيا على تنافسهما الخفي للسيطرة على شعوب شرق ووسط آسيا، وعلى هذه الشعوب التي تتواتر عليها الأطماع الاستعمارية قرنا بعد قرن أن تختار بين أقل الشياطين خطرا على بقائها وهويتها.
ــــــــــــــــــ
كاتب مصري

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.