عالم الرؤيا في السياسة

عالم الرؤيا في السياسة



عماد فوزي شعيبي

 

يكيف المهزوم مزاجه دائما على مقياس الهازم. والمنطقة بأسرها تعيش على إيقاع أمرين: الانتخابات الأميركية، وبالتالي مصير الحاكم "ذي الرؤية" الحالي، والحاكم المقبل إذا كان مخالفا له، وما إذا كان قادراً على أن يصوغ إستراتيجية بديلة أو أن يكون في التفاصيل مختلف الأداء بعد زمنٍ هو بمقياس السنوات أربع سنوات إلا أنه بمقياس السياسة دهور.

 

لأن ما جرى في المنطقة وفي العالم خلال سنوات "الرؤية" عند جورج بوش كان خضاً شديداً للتوازن الدولي بقدر ما كان طموحا إلى أن يكون تغييراً دراماتيكياً في كل شيء، أي في المفاهيم والعلاقات الدولية ومبادئ السياسة نفسها.

 

"
عالم السياسة إذ يتسم بأنه عالم متغير متبدل بشكل دائم، لا يفسح المجال أمام الرؤى الكبرى كي تتحقق خصوصاً إذا كانت تنبع من دولة واحدة ولمصلحتها بالذات، وهي تدعي أنها تمثل مصلحة العالم بأسره
"

المصيبة مع أولئك الذين يتوهمون أن لديهم رؤية أنهم بقدر ما يشعرون بأنهم قديسون وملائكة، يشيطنون الآخرين فتكون النتائج حلبة من الشياطين، في حين يقف العاقلون هنا في وضعية دهشة وانتظار حتى تنجلي ملامح الرؤيا بعد ذلك الغبار الشديد الذي ارتفع مع الشياطين.

 

وبقدر ما يحاول العاقلون أن يبقوا عاقلين لا من أجل أنفسهم فقط بل من أجل عالم تسوده قيم التراكم في العمل السياسي وحتى الأخلاقي، يبدو مشهد الشياطين بمثابة انتزاع للدول من السياق، أعني سياق ما اعتادت عليه وما أدى بالنتيجة النهائية إلى ما يشبه إرساءً لقواعد اللعبة بحيث يبقى محكوماً بقواعد ناظمة مهما اختلفت الموازين وطرق الأداء، الأمر الذي يجعل العقل هو الحاكم.

 

ألم يتفق المعسكران الرأسمالي والاشتراكي في السبعينيات كلٌ بطريقته على قمع "الصغار" والمجموعات المنفلتة من عقالها، فصفيت الألوية الحمراء والجيش الأحمر الياباني تحت نظر الاتحاد السوفياتي ومباركته الضمنية لأنهما خرجا عن قواعد اللعبة، وكان واضحاً أن الانتقال إلى الضبط العالمي هو المعيار الأساسي في معادلة التوازن وفي "أصول اللعب". 

 

لكن عالم السياسة إذ يتسم بأنه عالم متغير متبدل بشكل دائم، لا يفسح المجال أمام الرؤى الكبرى كي تتحقق خصوصاً إذا كانت تنبع من دولة واحدة ولمصلحتها بالذات، وهي تدعي أنها تمثل مصلحة العالم بأسره.

 

ألم يكن هتلر رؤيوياً كما هو الحال عند المحافظين الجدد ومن يتبناهم؟ ومع ذلك فإن هتلر استطاع أن يعبث إلى هذا الحد أو ذاك بمعادلات العالم لكنه لم يستطع رغم كل المآسي التي أضافها أن يغير من مسار عالم يريد ضوابط أكبر للمنفلتين من عقالهم.

 

وكانت الحقيقة التي تعلمها دارسها بعد رؤيوية نابليون ورؤيوية هتلر وإلى حد ما موسوليني أنه لا أحد يستطيع مهما عبث أن يغير إلا التفاصيل، أما قواعد اللعبة في صلب لوحتها الأساسية (أعني الضبط)، فستبقى هي قواعد اللعبة.

 

ذلك أن الانتقال من عصبة الأمم المتحدة إلى هيئة الأمم المتحدة لم يكن جزءاً من رؤيوية هتلر أو موسوليني، وإنما كان نتاجاً لدرس الحرب المجنونة الذي توافق الغرب بأكمله بعد أن دفع أكثر من ستين مليون من الضحايا ثمناً لها على أنها كانت خروجاً عن السياق.

 

صحيح أن المحافظين الجدد يتذرعون بأن درس التاريخ الذي تعلموه هنا هو أن من يتمهل في مواجهة الطاغية كما فعلت الأمم المتحدة سيواجه الخراب.

 

لذلك نشأت قواعد الأمم المتحدة التي حاولت وضع قواعد للتدخل على المستوى العالمي لضبط الجنون، إلا أنهم هم أنفسهم يمارسون الخطأ نفسه الذي مارسه هتلر بمحاولة قلب الطاولة والمفاهيم كلها دفعة واحدة وفرض رؤيته للأشياء والعالم على الآخر بالطريقة الإيديولوجية نفسها التي يفكر بها فايث وبيرل وحوالى خمسين من اليساريين الذين انقلبوا إلى محافظين يعيبون على الولايات المتحدة الأميركية أن ليس لديها مشروع إيديولوجي تحمله بمعنى الرؤية الخلاصية أو الرؤية الناظمة لعالم يرونه خاطئا.

 

المشكلة تكمن في أن هؤلاء لم يفهموا درس التاريخ لأن الدرس لم يكن في تباطؤ عصبة الأمم المتحدة عن مواجهة الطاغية ووأد نشاطه قبل أن يكبر وإنما كان في رؤيوية الطاغية نفسه الذي أراد أن يغير العالم بطريقته.

 

"
كل من يفكر في أن يغير العالم بطريقته هو طاغية حتى لو كانت شعاراته هي الديمقراطية والأمن العالمي وإزالة أسلحة الدمار الشامل وتغيير الأنظمة الفاسدة والقضاء على الطغاة
"

وكل من يفكر في أن يغير العالم بطريقته هو طاغية حتى لو كانت شعاراته هي الديمقراطية والأمن العالمي وإزالة أسلحة الدمار الشامل وتغيير الأنظمة الفاسدة والقضاء على الطغاة.

 

فالشعارات هي الشعارات مهما حاولت أن تلبسها لبوساً إنسانياً فإنها تبقى في المآل الأخير كسرير بروكست الذي يحاول أن يطيل الأرجل التي ليست على مقاسه ويقص الأرجل التي تتجاوز طوله، أي قصر الواقع على مستوى الفكرة وهذا عبثٌ بالتاريخ.

 

وهذا هو الدرس الذي لم يتعلمه المثقفون اليساريون الجدد الذين ودعوا ماركس وتروتسكي واحتفظوا بعقل تغيير العالم بالإرادة على طريقة كل الفلاسفة السياسيين الإرادويين الذين ينبعثون في مواجهة عالم السياسة الأداتي والوظائفي والبراغماتي ويتصورن أنهم يستعيدون موقفاً أخلاقياً هو في المآل رؤية لا تبتعد كثيراً عن رؤية النازية أو حتى الماركسية في أبلغ تجلياتها الرؤيوية عن عالم شيوعي بلا تناقض أساسي تحقيقاً للإنسان الاشتراكي.

 

وهذه الرؤية لا تختلف بأي حال من الأحوال عن رؤيوية أسامة بن لادن عن عالم يبتعد عن الحضارة السائدة ليسوده عدل الله كما يفهمه غلاة الواحديين.

 

وإذا كان المحافظون الجدد يهاجمون الطغاة وهم نتاج إيديولوجيا تصورت نفسها للحظة بأنها ستجعل العالم أفضل وأكثر عدالة وأمناً وتحقق هوية بلادها وشعوبها المستباحة، فإنهم ينسون أنهم يمارسون نفس الفعل الإيديولوجي ولكن بطريقة عالمية أكثر توسعاً وستكون تأثيراتها الطاغية أكثر إيلاماً مما فعله رؤيويون كانوا يريدون أن يكيفوا حياة شعوبهم ومنطقتهم بطريقتهم التي تخدم هدفاً يرونه أخلاقياً مستخدمين كل الوسائل كما رأينا في العراق.

 

إنهم يمارسون الفعل ذاته مع خلاف بسيط، حيث أن نتائج طاغية كصدام حسين على شعبه ومنطقته أقل بكثير من نتائج ما فعله ويفعله أولئك الذين نصبوا أنفسهم حماة للولايات المتحدة الأميركية تحت عناوين براقة توهم نفسها والآخرين بأنها فعل أخلاقي.

 

المشكلة هي المشكلة، تلك المسافة بين فعل السياسة باعتبارها فنا للممكن وتحقيقاً وظيفياً للاستقرار وبين أولئك الذين يتأرجحون بين الفلسفة "كما هو حال المحافظين الجدد" والرؤيوية التبشيرية التي تحمل شيئاً من النبوة المزعومة كما هو الحال عند جورج بوش.

 

وهذا ما يذكرنا بما قاله القصيبي عن هؤلاء بأنهم مرضى يتوهمون ويريدون شفاء الآخرين.

____________________

كاتب سوري

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.