تفجيرات لندن.. مبناها ومعناها

تفجيرات لندن..مبناها ومعناها



محمد بن المختار الشنقيطي

 

– نظرات في الصيغة والإخراج

– مدرسة التفسير ضمن السياق

– مدرسة التفسير خارج السياق

 

جاءت تفجيرات لندن الأخيرة محملة بالدلالات، منذرة بالمخاطر، كاشفة عن تعقيدات آتية في العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب ليس من السهل التنبؤ بمسارها. وهذه نظرات سريعة على مدلول هذه التفجيرات، والصراع الدائر بين صناع الرأي والقرار في الغرب حول معناها ومغزاها.

 

نظرات في الصيغة والإخراج

فيما يتصل بالصيغة والإخراج، يحسن التوقف عند أمور مهمة، منها:

أولا: هذه أول مرة يشارك مسلمون غربيون بالمولد والجنسية في هجمات كهذه، فقد تبين أن مفجري قطارات لندن أربعة شباب بريطانيين، ثلاثة من أصل باكستاني، وواحد من أصل جامايكي، وهو ما يحمل نذير شؤم بالنسبة للمسلمين الغربيين، لما سيؤدي ذلك إليه من تعميق الريبة التي ينظر بها المواطن الغربي إلى جاره المسلم، ويرفع من رصيد الحركات العنصرية والقوى السياسية المناهضة للمهاجرين، خصوصا في أوربا.

 

"
الطريقة التي تتبعها المجتعات الغربية في التعاطي مع مسلميها، ترحيبا وقبولا أو تمييزا وتحيزا، هي التي ستحدد في النهاية مدى إمكان اختراقهم من طرف تنظيم القاعدة والتنظيمات السائرة على دربه
"

وقد تصاعدت جرائم الكراهية ضد المسلمين البريطانيين بشكل لافت، حيث اقتُرفت أكثر من 300 جريمة كراهية هذا الأسبوع ضدهم وضد مساجدهم ومؤسساتهم. والمسلمون الأوربيون أكثر عرضة لهذه المخاطر من المسلمين الأميركيين، لأن التمييز ضد المسلمين أوضح داخل المجتمعات الأوربية، وكثير منهم فقراء مضطهدون اجتماعيا، على خلاف المسلمين الأميركيين الذين يتمتعون بمستوى عال جدا من التعليم والمال، وهم مندمجون في المجتمع الأميريكي المتعدد الأعراق والثقافات.

 

فالطريقة التي تتبعها المجتعات الغربية في التعاطي مع مسلميها –ترحيبا وقبولا أو تمييزا وتحيزا- هي التي ستحدد في النهاية مدى إمكان اختراقهم من طرف تنظيم القاعدة والتنظيمات السائرة على دربه.

 

وليس من ريب في أن المسلمين البريطانيين خاصة، والمسلمين الغربيين عامة هم الخاسر الأول من تفجيرات لندن، وما من ريب أيضا في أن من يقف وراء التفجيرات -باستخدامه شبابا بريطانيين- قد ارتكب جريمة في حق الجاليات المسلمة بدول الغرب، ووضع مستقبلها ومستقبل الإسلام في الغرب في وضع لا يحسدان عليه.

 

ثانيا: من الراجح جدا -وإن لم يتأكد بعد- أن تنظيم القاعدة هو من دبر وخطط لتفجيرات لندن، ومن مؤشرات ذلك أن بعض الشباب البريطانيين الذين نفذوها سافروا إلى باكستان أكثر من مرة في الفترة الأخيرة، كما أفادت الصحف البريطانية، وهو ما يوحي بأنهم كانوا ينسقون مع عناصر من القاعدة في المنطقة.

 

ومهما يكن فقد تمكن تنظيم القاعدة مرة أخرى من تنفيذ ما توعد به، وهو ضرب الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة في العراق في عقر دارها. وطبقا لإحصاء البروفسور روبرت اباب بجامعة شيكاغو، -مؤلف كتاب "الموت من أجل النصر"Dying for Victory – فإن تنظيم القاعدة استطاع منذ العام 2002 أن يقتل مواطنين من 18 دولة من أصل 20 دولة ذكر أسامة بن لادن أسماءها في خطاباته، باعتبارها دولا مساندة للغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، وفي تهديد من تبنوا هجمات لندن بضرب إيطاليا تأكيد على أن المسار في هذا المنحى لا رجعة عنه عند القاعدة.

 

وليس لدى القيادة البريطانية أي خيارات عسكرية الآن، على عكس الولايات المتحدة عام 2001، حيث كانت أفغانستان هدفا واضحا للانتقام.

 

أما بريطانيا اليوم فغاية ما تفعله هو الإصرار على إبقاء جيشها في العراق، وهو خيار مشكوك في إمكانه أيضا بعد الهجمات، خصوصا مع ما عرف عن الشعب البريطاني من مناهضة احتلال العراق ابتداء، وبعد أن دفع الشعب البريطاني داخل وطنه ثمنا باهظا لذلك، ورأى بأم عينيه الرابط بين غزو العراق وأفغانستان وبين أمنه في وطنه الأم.

 

"
جاءت التفجيرات متسمة بما اتسمت عمليات القاعدة من قتل بالجملة دون تمييز، واستهداف متعمد للمدنيين بحجة المعاملة بالمثل، وهو منهج مبني على رؤية فقهية ضعيفة الأساس لا تراعي خلُق الحرب في الإسلام، ورؤية سياسية ضيقة الأفق لا تنظر إلى مآل الأفعال
"

ثالثا: جاءت التفجيرات متسمة بما اتسمت عمليات "القاعدة" من قبل، من قتل بالجملة دون تمييز، واستهداف متعمد للمدنيين بحجة المعاملة بالمثل، وهو منهج مبني على رؤية فقهية ضعيفة الأساس لا تراعي خلُق الحرب في الإسلام، ورؤية سياسية ضيقة الأفق لا تنظر إلى مآل الأفعال.

 

ومهما يحقق هذا المنهج من ثمرات آنية، فله من الانعكاسات السلبية أضعاف ذلك، خصوصا في وقت ينبسط فيه الإسلام في كل أرجاء الأرض، ويعيش ثلث مسلمي العالم في وضع أقليات دينية وعرقية (طبقا لتقديرات "موسوعة أكسفورد للعالم الإسلامي المعاصر").

 

ومن مفارقات تفجيرات لندن التي استهدفت ضحاياها من غير تمييز أن من بين قتلاها الفتاة المسلمة البنغالية "شهارا إسلام" والمرأة اليهودية الإسرائيلية "آنات روزمبرغ".

 

رابعا: من الجلي أن تفجيرات لندن كانت ثمرة إعداد طويل النفَس دقيق التخطيط. فالمملكة المتحدة –على خلاف الولايات المتحدة- لديها خبرة متراكمة في التعاطي مع إرهاب الجيش الجمهوري الآيرلندي، وهي تمتلك جهاز استخبارات داخلي قوي، كما تدرك بشكل لا لبس فيه أنها مستهدفة.

 

ومع كل هذه العوامل وقعت التفجيرات في وضح النهار في قلب العاصمة لندن، وفي ذلك ما فيه من دلالة على أن الحيلولة دون هذه العمليات بالوسائل الأمنية أمر متعذر، ولا بد من التعاطي معها بحكمة السياسة.

 

كما دلت الهجمات على أن تنظيم القاعدة بدأ يتحول من حركة إلى فكرة، وهو ما كان يحذر منه خبير الإرهاب الأميركي "بروس هوفمان"، لأن هزيمة تنظيم له بنية واضحة أمر ممكن عمليا مهما تعسر، أما هزيمة فكرة نظرية قد تتبناها اليوم أي مجموعة من الشباب المسلم الغاضب من المظالم الكثيرة المرتكبة ضد المسلمين، ثم تحولها غدا إلى ضربات مهلكة في أي مكان من البسيطة، فهي أمر عسير التحقق، بل مستحيل عمليا.

 

وقد جاءت ردة فعل القادة البريطانيين على تفجيرات لندن متسمة بشيء من برودة الإنجليز التقليدية وعقلانيتهم السياسية.

 

وعلى عكس الخطاب السياسي الأميركي بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، الذي اتسم بالعاطفية والتعميم والتهويل، وقسم العالم إلى "فسطاطين" لا ثالث لهما على طريقة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.. فإن ردة الفعل على ألسنة السياسيين والإعلاميين البريطانيين كانت حذرة وحصيفة، ومدركة أن الحلول العسكرية والأمنية لقضايا سياسية وثقافية في جوهرها ليست مضمونة النتائج.

 

مدرسة التفسير ضمن السياق

وقد أسفرت هجمات لندن، مثلها مثل تفجيرات واشنطن ونيويوك، عن مدرستين فكريتين: إحداهما تحاول تفسير هذه الهجمات ضمن سياقها السياسي، وتنادي بأن يراجع الغرب نفسه، ويستبطن أعماق ذاته، ليرى أن سياساته المجحفة بالمسلمين هي جذر الشر الأساسي، ورافد الإرهاب الرئيسي.

 

وينتمي إلى هذه المدرسة الكثيرون في أوربا الغربية، ويرى هؤلاء أن مثل هذه الهجمات يجب التعاطي معها بحكمة السياسة لا بمشاعر الغضب، وبالإنصاف والتواضع لا بالاستكبار والتبجح.

 

"
أسفرت هجمات لندن،  عن مدرستين فكريتين: إحداهما تحاول تفسير هذه الهجمات ضمن سياقها السياسي، وتنادي بأن يراجع الغرب نفسه، ويستبطن أعماق ذاته، ليرى أن سياساته المجحفة بالمسلمين هي جذر الشر الأساسي، ورافد الإرهاب الرئيسي
"

فقد كتب "غاري يونغ" في صحيفة الغارديان يوم 11/07/2005: "نحن لا نحتكر الألم أو المعاناة أو الغضب أو التصميم، ودماؤنا ليست أشد احمرارا من دماء العراقيين والأفغان، ولا عظامنا أشد صلابة من عظامهم، ولا أعيننا أجود بالدموع من أعينهم"، وأضاف يونغ: "إن توني بلير ليس مسؤولا عن مقتل 50 شخصا وجرح 700 شخص يوم الخميس، وإنما الجهاديون هم المسؤولون عن ذلك على الراجح. لكن بلير مسؤول جزئيا عن مقتل 100.000 شخص في العراق".

 

لقد ترك احتلال العراق أثرا عميقا في نفوس المسلمين عبر العالم، ولم يكن مسلمو بريطانيا استثناء من ذلك، فقد نسبت صحيفة الغاديان البريطانية يوم 14/07/2005 لأحد أصدقاء الشباب الباكستانيين الذين نفذوا تفجيرات لندن أنهم "كانوا كثيرا ما يعبرون عن غضبهم، لكون إخوانهم وأخواتهم من المسلمين العراقيين تم استهدافهم ظلما من طرف الولايات المتحدة"، وبالطبع من طرف وطنهم بريطانيا الذي صبوا عليه جام غضبهم في النهاية.

 

ويكاد ينعقد إجماع الآن لدى النزهاء من الخبراء الغربيين على أن غزو العراق جلب للدول الغربية من الخوف أكثر مما حقق لها من الأمن. وقد عبر عن ذلك ببلاغة وزير الخارجية الأسترالي السابق الذي يترأس الآن "مجموعة الأزمات الدولية" فقال: "إن نتيجة الحرب على الإرهاب هي مزيد من الحروب ومزيد من الإرهاب".

 

كما عبر عنه دانييل بنجامين في مجلة التايم الأميركية مؤخرا فقال: "لقد برهنت أميركا على كفاءتها في مطاردة الإرهابيين، لكنها –باحتلال العراق- برهنت أكثر على كفاءتها في صناعتهم". كما حذرت كارين أمسترونغ –وهي من كبار المتخصصين في تاريخ الإسلام- من أن السياسات الحالية تحمل في طياتها "مخاطر تحويل الأصدقاء المحتملين من المسلمين إلى أعداء".

 

وحتى بلير، وهو غير مشهور بالتواضع، ظهر بعد الهجمات أكثر تواضعا وأقل تبجحا من ذي قبل، فأقر بأن "هذا النمط من الإرهاب له جذور عميقة، فلا بد من اقتلاعه من جذوره، في نفس الوقت الذي تتم فيه محاربة آثاره" داعيا إلى التفاهم بين أتباع الأديان المختلفة، وتحقيق الديمقراطية في الشرق الأوسط، وإيجاد حل للمشكلة الفلسطينية.

 

مدرسة التفسير خارج السياق

وفي مقابل هذه المدرسة الفكرية التي تطالب –صراحة أو ضمنا- بتبني حلول سياسية سلمية، والاعتراف بالمظالم القائمة، توجد مدرسة أخرى ترفض أي تفسير لدوافع من يرتكبون هذه الأعمال، وتعتبر أي تفسير تبريرا، وإضفاء للشرعية على الإرهاب، واعترافا بالإرهابيين شركاء سياسيين.

 

وهذه المدرسة هي السائدة الآن في إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة، ولها أنصار وأتباع هنا وهناك في دول الغرب الأخرى بدرجة أقل.

 

فقد علق قادة وإعلاميون إسرائيليون بغضب على ربط توني بلير بين ما حدث في لندن وبين الصراع في فلسطين. وجاءت تعليقات بعضهم عصبية للغاية، مما يدل على حساسية هذا الموضوع بالنسبة لهم. فقد نقلت صحيفة "إسرائيل من الداخل" Israel Insider الألكترونية يوم 10/07/2005 عن دبلوماسي إسرائيلي في أوربا قوله: "هذه رؤية شائعة في أوربا، فهم يعتقدون بجد أننا السبب في كل مشكلاتهم".

 

"
أتباع هذه المدرسة صنفان، قوم يخشون انكشاف الحقيقة لأنهم ينكشفون بذلك، وتسقط المسوغات لكل ما يقومون به، وقوم مغفلون ينقصهم إدراك الوقائع، ويعوزهم فهم النفسية المسلمة في هذه اللحظة التاريخية الحرجة
"

وأخشى ما يخشاه الإسرائيليون اليوم أن تدرك الشعوب الغربية عمق تأثير المحنة الفلسطينية على الضمير المسلم، وأثرها في تأجيج الغضب والسخط على الغرب في كل أرجاء العالم الإسلامي، وهو الغضب الذي بدأ يعبر عن نفسه بطرائق خطرة، كما حدث في لندن الأسبوع الماضي.

 

ويرى الإسرائيليون أن ذلك سيؤدي في النهاية إلى تخلي شعوب الغرب عن إسرائيل، بعد أن ترى أن ثمنها لم يعد يحتمل، ولذلك يصر الإسرائيليون وامتداداتهم في الولايات المتحدة وغيرها على أن أعمال العنف الحاضرة ليست لديها دوافع سياسية، وهم يجتهدون في تقديم تفسير لها من ثقافة المسلمين ودينهم، خارج سياق الزمان والمكان.

 

وتميل هذه المدرسة إلى التعميم والتهويل، تهربا من الاعتراف بتعقيدات الواقع الحالي، وضرورات تغيير السياسات والخيارات. فالرئيس الأميركي جورج بوش يعلق على أحداث لندن قائلا: "إن مستقبل الحضارة في الميزان". وهذا كلام تعميمي غائم لا يحل إشكالا ولا يقدم فكرة عملية لأزمة تستفحل يوما بعد يوم.

 

كما توعد بوش قائلا: "سنواصل نقل الحرب إلى العدو"، وهذا إصرار ضمني على عدم التراجع عن الحرب الكارثية في العراق، التي بدأ شررها يصل إلى أماكن بعيدة.

 

ومن الواضح أن أتباع هذه المدرسة صنفان من الناس: قوم يخشون انكشاف الحقيقة لأنهم ينكشفون بذلك، وتسقط المسوغات لكل ما يقومون به، ويشمل هؤلاء بعض الساسة الانتهازيين، وشركات النفط والسلاح المستفيدة من الحرب، وقوم مغفلون ينقصهم إدراك الوقائع، ويعوزهم فهم النفسية المسلمة في هذه اللحظة التاريخية الحرجة، وهم كثير من عامة الناس في الغرب.

 

وربما تكون الباحثة في مؤسسة "راند" الأميريكية "شيريل بنارد" على حق حينما كتبت تقول: "إن أكبر تحد بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول هو تعريف العدو". ونحن نضيف إلى ذلك أن ما هو أهم من ذلك هو معرفة أسباب الغضب المتقد الذي يدفع شبابا في عمر الزهور، ولدوا وترعرعوا في أحضان المجتمع الإنكليزي إلى تفجير أنفسهم وتفجير مجتمعهم دون نظر في العواقب.

_______________

كاتب موريتاني