نظرة أخرى إلى الانتخابات الإيرانية

نظرة أخرى إلى الإنتخابات الإيرانية

 
لم تهدأ حتى الآن حملة التعليقات على نتائج الانتخابات الإيرانية التي أسفرت عن نجاح محمود أحمدي نجاد وبفارق كبير بينه وبين هاشمي رفسنجاني.
 
وكانت أغلب التقديرات والاستطلاعات والمعلومات والتحليلات تقطع بأن رفسنجاني هو المنتصر، لاسيما في الدورة الثانية بعدما أجمع ممثلو ومرشحو تيارات الإصلاح وحتى تيارات "المحافظة" (التسمية تتحفظ عنها هذه التيارات التي تفضل تسمية الأصوليين المعتدلين) على تأييد هاشمي رفسنجاني رجل الثورة الإسلامية العريق، ورجل الدولة في الجمهورية الإسلامية، والنافذ في القرار السياسي يدا بيد إلي جانب المرشد الأعلى أو سماحة القائد كما يسميه المقربون إليه ومحبوه علي خامنئي.
 

"
ما كان لأحد خارج إيران أن يتوقع أنه يمكن أن يفوز أحمدي نجاد الذي كانت أعلى مرتبة وصلها رئيسا لبلدية طهران، ورغم ذلك بقي مغمورا أمام عدسات أجهزة الإعلام العالمية
"

فبعد كل ذلك ما كان لأحد خارج إيران أن يتصور أو يتوقع أنه يمكن أن يفوز أحمدي نجاد الذي كانت أعلى مرتبة وصلها رئيسا لبلدية طهران، ورغم ذلك بقي مغمورا أمام عدسات أجهزة الإعلام العالمية وإن إلى حد أقل نسبيا في إيران.

 
كذلك فما عرف عن الرجل كان القدر اليسير في كل المعايير، عدا إشارته إلى الفقراء وتركيزه عليهم عبر رئاسته لبلدية طهران، وسوى مطالبته بالعدالة في توزيع الثروة، إلى جانب اتهامه بالتشدد في موضوع المرأة الذي "لم تقدم إثباتات مؤكدة حول هذا الاتهام رغم شيوعه".
 
من هنا ينشأ سؤالان: الأول يتعلق بالملايين الـ17 التي انتخبت أحمدي نجاد مفضلة إياه على رفسنجاني، والثاني يتناول تهافت التحليلات التي صاحبت هذه النتيجة سواء كانت تلك التي تناولت الرئيس الجديد، أم التي راحت تتوقع تأثير هذا الانتخاب على السياسات الإيرانية الخارجية.
 
إن مقارنة سريعة بين نجاح محمد خاتمي عام 1997 ونجاح أحمدي نجاد -وكلاهما كان منافسه رفسنجاني الرئيس الأسبق للجمهورية في دورتين متتاليتين- تطرح مجموعة أسئلة تمس اتجاهات الناخب الإيراني حين صب بقوة في مصلحة خاتمي ثم صب بقوة لا تقل عنها في مصلحة أحمدي نجاد، فيما المسافة بين كل منهما واسعة كما يبدو من مرتكزات الشعارات التي طرحها كل منهما في معركته الانتخابية، والتي بدت أكثر إصلاحية بالنسبة إلى خاتمي مقارنة برفسنجاني، وأكثر انحيازا للفقراء بالنسبة إلى أحمدي نجاد قياسا برفسنجاني كذلك.
 
يجب أن نلحظ بداية أن المعركتين اللتين واجههما رفسنجاني في الحالتين تركزتا على السياسات الداخلية، وكان نصيب السياسات الخارجية متواضعا جدا وتلميحا أكثر منه تصريحا، فالناخب في الحالتين انتخب على أساس البرنامج الداخلي للمرشح أو لشعاراته المتعلقة بالوضع الداخلي.
 

"
المعركتان اللتان واجههما رفسنجاني في الحالتين تركزتا على السياسات الداخلية، وكان نصيب السياسات الخارجية متواضعا جدا وتلميحا أكثر منه تصريحا
"

ففي معركة خاتمي طغت شعارات الإصلاحات الديمقراطية والحريات والانفتاح، لكن بالطبع ضمن سقف الدستور والولاء للمبادئ التي أرساها الإمام الخميني رحمه الله. ومع ذلك كانت معركة حامية الوطيس، وجاءت خيارات المدنيين أكثر من 22 مليونا منحازة إليه، وقد كان لها دويها الذي يشبه دوي زلزال.

 
وقد حدث الأمر نفسه في الانتخابات الأخيرة حيث طغت شعارات العدالة الاجتماعية والانحياز إلى القاعدة الشعبية الفقيرة، ومحاربة البطالة والحد من استقطاب الثروة. وقد تعززت بشخصية أحمدي نجاد الذي يتسم بالتقشف والاقتراب من حياة الشعب (الحداثيون المترفعون)، وبعض الناس أسموها "شعبوية" لإعطائها صفة الديماغوجية أو غير المحمودة. وبهذا جاءت خيارات أكثر من 17 مليونا لتحدث زلزالا مقابلا لا يقل دويا عن سابقه.
 
لقد مثل الشيخ الرئيس هاشمي رفسنجاني في الحالتين الواقع الراهن في حينه، فيما مثل منافساه نقدا لذاك الواقع وإن من موقفين مختلفين وليس بالضرورة متضادين وإن بدا كذلك في الظاهر.
 
ذلك لأنه من غير الحتمي أن يقوم التضاد بين العدالة الاجتماعية والتوسع في الانفتاح والحريات الفردية والجماعية والسياسية، فالأول يتهدده خطر الانغلاق وربما الاستبداد والثاني يتهدده استقطاب الثروة والفساد واستفحال الفقر والبطالة.
 
ولذا يمكن القول إن الوعي الشعبي يريد الأمرين كليهما، فإن ابتعد الأمر الواقع من التوسع في الانفتاح والحريات انتخب من يجديه، وإن نأى عن العدالة الاجتماعية خير من يدافع عنها وله سجله في هذا المضمار، الأمر الذي يفسر ما حدث في حالتي خاتمي وأحمدي نجاد كما يفسر كيف كان رفسنجاني ضحية الأمر الواقع في الحالتين وذلك رغم مزاياه وسابقته في الثورة وبناء الدولة.
 

"
اتجهت تحليلات غربية إلى القول إن إيران ذاهبة إلى التشدد على المرأة،  مع أن وضع المرأة يرتبط بفتاوى العلماء وليس بقرارات يتخذها رئيس الجمهورية
"

أما السؤال الثاني فمن شقين: الأول يتعلق بتهافت أو تسرع التعليقات علي الرئيس الإيراني الجديد، والآخر أثر ذلك في السياسات الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية.

 
لقد اتجهت تحليلات كثيرة في الصحف الغربية إلى اعتبار انتخاب أحمدي نجاد زلزالا نحا بإيران إلى اليمين (مثلا فرنكفورتر روندستار الألمانية 20/6/2005)، وهو تقدير مضحك مرتين: الأولى حين تطبق معايير اليسار واليمين كما تفهم أو تستخدم في الغرب على حال أحمدي نجاد، فتراه يمينيا وهو على الضد تماما من تلك المعايير التي قامت على أساس نسبة اليسار لمن ينحاز إلى الطبقات الشعبية الفقيرة أو المضطهدة ونسبة اليمين لمن يحسب في جانب الأثرياء.
 
لكن كيف يركب هذا المعيار إذا اعتبر انتخاب أحمدي نجاد "زلزالا نحا بإيران إلى اليسار"؟ فعندئذ يخرب المعيار ويقع في حيص بيص. ولكن حين يهرب من ذلك بنسبته إلى اليمين لا بد من أن يتحول إلى مزحة مضحكة في استخدام وصفات اليمين واليسار في الحالة الإيرانية.
 
واتجهت تحليلات أخرى أو حتى التحليلات نفسها، إلى القول إن إيران ذاهبة إلى التشدد على المرأة أو إلى استحضار شعار "تصدير الثورة"، وبديهي أنها تحاول الحكم على ما سيأتي من معطيات وجدتها فقيرة من زاويتين: الأولى بسبب قلة ما يعرف عن الرئيس الجديد ومن سيكون فريقه الاستشاري والحاكم.
 
والثانية عدم إدراك أن ما يتعلق بوضع المرأة يرتبط بفتاوى العلماء وليس بقرارات يتخذها رئيس الجمهورية بغض النظر عن آرائه الشخصية، أو هي في الأدق محصلة لتلك الفتاوى وحركة الواقع نفسه، وذلك إلى جانب عدم إدراك الآلية التي تتخذ من خلالها القرارات الأساسية التي تحدد السياسات الخارجية كما السياسات الأساسية الداخلية، لكن مع بقاء هامش لواقع التنفيذ ودور مختلف المؤثرين فيها تنظيرا وممارسة.
 
فمجلس الأمن القومي في إيران وإن ترأسه رئيس الجمهورية، مشكل من أطراف مستقلة عنه ولا يتشكل من أطراف تحت مسؤوليته مباشرة كما هي الحال في كثير من مجالس الأمن القومي في بلاد أخرى حيث للرئيس الكلمة النهائية. وآلية اتخاذ القرار في إيران معقدة ومركبة، وهذا ما واجه كل الرؤساء الذين عرفتهم الجمهورية الإسلامية في إيران وآخرهم محمد خاتمي، وهو ما سيواجهه أحمدي نجاد كذلك.
 

"
مجلس الأمن القومي في إيران وإن ترأسه رئيس الجمهورية، مشكل من أطراف مستقلة عنه وليس أطرافا تحت مسؤوليته مباشرة كما في كثير من مجالس الأمن القومي في بلاد أخرى
"

هذا لا يعني بالطبع أن لا شيء سيتغير في السياسات الداخلية والخارجية مع نتيجة هذا الانتخاب، لذا لا بد من معرفة كيفية تأثير اتجاه الرأي العام الذي انتخب أحمدي نجاد في مجلس الأمن القومي، لاسيما من زاوية مراعاة العدالة الاجتماعية وهل سيحافظ على التوازن نفسه أم سيحدث جديدا ولو نسبيا في مصلحة ما سيعبر عنه الرئيس الجديد؟

 
إن الإجابة بدقة عن هذا السؤال تتطلب معرفة مدى تجاوب المرشد الأعلى للجمهورية خامنئي مع المعادلة الجديدة التي عبرت عنها صناديق الاقتراع بانتخاب أحمدي نجاد، علما بأن خامنئي كان حريصا أثناء المعركة الانتخابية أن يحافظ على مسافة واحدة من المتنافسين، خاصة في مرحلتها الثانية أي بين رفسنجاني وأحمدي نجاد، وهذا على الضد من الشائعات التي اعتبرته منحازا للثاني. فرفسنجاني المعروف بعلاقاته الوثيقة والحميمة مع خامنئي ما كان له أن يترشح لو لم يضمن على الأقل حياده إن لم يكن رضاه.
 
لكن هذا الحياد شيء ونتائج الانتخابات شيء آخر، فهذه النتائج لا بد من أن تترك أثرها في قوة خامنئي داخل المعادلة الإيرانية خلافا لما حدث عند انتخاب خاتمي حيث زادت من قوته وتأثيره في القرار، علما بأن أحمدي نجاد من أشد الموالين له والآخذين بمرجعيته الدينية والسياسية، وهذا يعني أن الدور الذي سيكون إليه تجاه خامنئي سيتعاظم في إيران داخليا وخارجيا أكثر من أي وقت مضى.
 
ومن هنا يمكن توقع التغيير ليس من مجرد انتخاب أحمدي نجاد رئيسا للجمهورية فنحن في الحالة الإيرانية لسنا أمام انتخاب رئيس للولايات المتحدة أو للجمهورية الفرنسية أو للحكومة البريطانية حيث برنامج الرئيس يصبح السياسة السائدة، وإنما أمام حالة مختلفة تماما.
__________
كاتب فلسطيني