تعقيد العلاقات الفرنسية الأميركية.. العلاقة بالخليج نموذجا

تعقيد العلاقات الفرنسية-الأميركية

 
 
لو قلنا إن العلاقات الفرنسية-الأميركية، في مرحلتها الوفاقية أو التصالحية الراهنة، معقدة لا نكون قد جئنا بوصف يحمل معنى محددا لأن كل علاقة دولية لاسيما بين الدول الكبرى معقدة بغض النظر عن الحالة التي هي عليها.
 

فالتعقيد سمة عامة في كل علاقة، لكن مع ذلك فإن البدء بالحديث عن تعقيد العلاقات الفرنسية-الأميركية ضرورة من أجل الخلاص من التبسيطية التي تقول: "أنظروا لقد أصبحت فرنسا تابعة تماما للولايات المتحدة الأميركية"، وما دامت تابعة، وفقا لهذه التبسيطية، فلا حاجة إلى التدقيق فيها لفهمها على حقيقتها بكل تعقيداتها.
 

"
يخطئ من يظن أن اشتراك كل من أميركا وفرنسا في الانتساب إلى الغرب أو الديمقراطية، أو الرأسمالية الليبرالية ينفي ما بينهما من تنافس، أو ما يتطلع إليه كل منهما من دور دولي ونفوذ عالمي
"
ولهذا فإن أولوية الوصف بأنها علاقة معقدة تهدف إلى الخلاص من التبسيطية، لكن بعد ذلك ينشأ الإشكال في تحديد سمات هذا التعقيد، فإذا كانت علاقتهما معقدة فلكل منهما سماتها وخصوصياتها وهنا مربط الفرس في السياسة وفي كل تحليل سياسي.
 

ويخطئ من يظن أن اشتراك كل من أميركا وفرنسا بالانتساب إلى الغرب أو الحضارة الغربية، أو الديمقراطية، أو الرأسمالية الليبرالية، أو كل ما يمكن تعداده من المشتركات، وهي كثيرة، ومن بينها بعض الأعداء المشتركين أو حتى الأصدقاء المشتركين، ينفي ما بينهما من تناقض في المصالح أو ما بينهما من تنافس، أو ما يتطلع إليه كل منهما من دور دولي ونفوذ عالمي، الأمر الذي يولد تداخلا واشتباكا في علاقة "تحالف وتنافس" ومتى يصبح التحالف أولا ومتى ثانيا، وكيف يعاد التوازن كلما اختل؟ وهكذا…
 
إن هذا الأمر يتطلب ملاحقة دائمة لما تشهده العلاقات من دفء وفتور، أو اقتراب وتباعد، وذلك من خلال التصريحات الرسمية والتحركات العملية الدبلوماسية خارجا عما يجري في الخفاء.
 
عندما جاءت إدارة بوش بدأت نذر التناقض تطفو على السطح بين الدولتين الأميركية والفرنسية، وما إن وقعت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن حتى انتهز المحافظون الجدد الهبة الثمينة بالنسبة لهم ليديروا أظهرهم لحلف الأطلسي ومجلس الأمن طارحين إستراتيجية جديدة مفادها أن الإدارة الأميركية تعد الطعام وتمد المائدة وتحدد من يقف على رأس الطاولة ثم يترك للأوروبيين "غسيل الصحون".
 
وبالفعل طبقت ذلك عمليا حين قررت وحدها وتبعتها بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا أن تشن الحرب "العدوان" على العراق، فمن وافق فليلحق ومن عنده اعتراض فلينتظر جانبا إذ لا أهمية لرأيه.
 

"
الفشل الأميركي في العراق، بل وفي أغلب القضايا الدولية، هو ما أجبر واشنطن على العودة لاسترضاء أوروبا القديمة، وخصوصا فرنسا
"
لقد كان الأمر يعني تهميشا لفرنسا وأوروبا عموما، وتمزيقا لأوروبا كذلك، ثم تأتي ترجمته ضربا لمصالح فرنسية أساسية، ومن ثم تغليب وجه الصراع والتنافس من دون أن يمحو أو يلغي المشتركات أو ما كان من تحالفات سابقة.
 
لكن الفشل الأميركي في العراق، بل وفي أغلب القضايا الدولية حيث تواتر الإخفاق وتفاقمت العزلة وبدأت حبال الأزمات الداخلية تلتف على عنق الإدارة الأميركية ثم بوش شخصيا، هو ما أجبر واشنطن على العودة لاسترضاء أوروبا القديمة، خصوصا فرنسا.
 
لقد كان الاعتراف بفرنسا شريكا في القرار الأميركي في لبنان وسوريا وفلسطين وإيران، هو ثمن استرضاء أوروبا القديمة، وهو ما أعاد الغلبة لوجه التحالف أو التصالح أو الوفاق -المشتركات- ليطغى على التناقضات والتنافس لكن من دون أن يمحوهما، فالجمر يكمن تحت الرماد وإن لم يشتغل أكثر.
 
وقد أتاح هذا الأمر لمن يريد الحديث عن تبعية فرنسا أن يعلن عودتها إلى بيت الطاعة فيما الحقيقة أن أميركا هي التي عادت عن كثير من عنجهيتها وتفردها السابقين لتعطي لفرنسا دورا أكبر مما كانت تطمح إليه قبل سنتين أو خلال العهد الأول لبوش وحتى في عهدي كلينتون ومن قبله بوش الأب.
 
وقد اتضح هذا في الدور الذي لعبته في مجلس الأمن خلال عام 2005 وفي المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني وصولا إلى اتفاقية معبر رفح حيث تم التوافق على وجود أوروبي أمني فيه.
 
وقد دفع هذا الإغراء الهائل فرنسا بطبيعة الحال إلى التراجع عن عدد من مواقفها السابقة أو دحرها إلى الخلف في ما يتعلق بالموضوع الفلسطيني أو العلاقة بالدولة العبرية، أو بالعراق وسورية.
 

"
لقد كان الاعتراف الأميركي بفرنسا كشريك في لبنان وسوريا وفلسطين وإيران، هو ما أعاد الغلبة لوجه التحالف  ليطغى على التناقضات والتنافس لكن من دون أن يمحوهما
"

لكن لكي تفهم العلاقة الفرنسية-الأميركية فهما أدق وهو فهم يحتاج إلى إعادة نظر أو تطوير دائمين مع كل تطور ومنعطف قادم، يجب التوقف عند كلمة وزيرة الدفاع الفرنسية ميشال أليوماري في المؤتمر الذي نظمه المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في المنامة، عاصمة البحرين، بين أوروبا والدول الخليجية.

 
لقد اقترحت ميشال أليوماري أن يكون للاتحاد الأوروبي دور أمني في الحفاظ على أمن المنطقة واستقرارها، وقد سوقت هذا الاقتراح وقدمت له بأن منطقة الخليج تملك ثروات من الطاقة لا مثيل لها، وهي في الوقت ذاته تعاني من توتر وعدم توازن يرجعان إلى الوضع في العراق ومخاطر انتشار أسلحة الدمار الشامل مرورا بالتعايش بين العرب والفرس والسنة والشيعة وهذه جميعا عناصر تهدد الاستقرار.
 
وأضافت -وهذا بيت القصيد- أن منطقة الخليج تبدو حكرا على الولايات المتحدة على المستوى الأمني لكثافة الوجود الأميركي ولأولوية المنطقة لدى واشنطن. ثم تساءلت: "هل هذا يعني أن فرنسا وأوروبا يجب ألا تكترثان لما يجري على صعيد الأمن في الخليج؟"، طبعا لا، ففرنسا وأوروبا تهتمان بأمن الخليج واستقراره، لأن لهما تأثيرا مهما على حياتهما وأمنهما، وأوروبا قادرة على القيام بمساهمة مهمة على هذا الصعيد كونها موجودة في المنطقة وتلعب دورا فاعلا بل هي الشريك الاقتصادي الأول لمنطقة الخليج.
 
ثم راحت تعدد ما تمتلكه أوروبا من ميزات يفتقر إليها غيرها في تحقيق الأمن وحل المنازعات وحتى تحريك 15 ألف عنصر في غضون 72 ساعة.
 
وهذا يعني باختصار أن أوروبا وفرنسا على الخصوص تريدان أن تكونا شريكتين أمنيتين لأميركا في الخليج، وهو ما لا يسعد إدارة بوش بل هو ضربة في الخاصرة ما كانت لتتجرأ عليها فرنسا لولا حالة بوش المزرية وحاجته إليها، لكن يجب على أميركا أن تبتلع قول وزيرة الدفاع الفرنسي، حيث الأسوأ أميركيا قولها: "إن الهدف هو التوصل إلى قطبين قادرين على التحاور والعمل معا".
 

"
ستمضي فرنسا بعيدا في استغلال أزمات إدارة بوش فيما سترد واشنطن في حالة الإفلات من تلك الأزمات، وهو ما سيحاول فعله الرئيس القادم للولايات المتحدة كذلك
"
وبالمناسبة فثمة هدية قدمتها ميشال أليوماري لكل الذين مازالوا يروجون لمقولة "إن العالم يحكمه قطب واحد"، أو "تتحكم فيه أميركا وحدها"، حيث قالت لهم إن لدى فرنسا قناعة عميقة بأن العالم في ظل العولمة ينتظم بطريقة متعددة الأقطاب، وإن على الأقطاب المختلفة التحاور لضمان السلام والتطور المتجانس على المستوى العالمي.
 

إن هذا الأمر يحمل معنى الابتعاد عن التبسيطية في فهم تعقيد العلاقات الفرنسية-الأميركية، ومن ثم توقع مآلاتها إذا استمرت أزمة بوش، أو في حال من يأتي بعده ليدفع بالاتجاه الآخر مرة أخرى، ذلك لأن تمكن فرنسا أن تحقق لنفسها ولأوروبا شراكة لأميركا في أمن الخليج، ومن ثم فرض نظرية "قطبين قادرين على التحاور والعمل معا"، تكون قد حققت في ظل "التحالف -التصالح- الوفاق" ما لم تستطع تحقيقه في ظل التنافس والصراع واشتداد التناقض وخروجه إلى العلن.
 
كما أن نفس الأمر سيجعل قلوب المحافظين الجدد تمتلئ حنقا على فرنسا أكثر مما كان عليه الحال قبيل الحرب على العراق أو بعدها، والسبب هو تهديمها لنظرية القطب الواحد والدخول إلى مناطق نفوذ كانت ممنوعة عليها.
 
ومن هنا فإن فرنسا ستمضي بعيدا في استغلال أزمات إدارة بوش فيما سترد إدارة بوش في حالة الإفلات من تلك الأزمات أو بعضها، وهو ما سيحاول فعله الرئيس القادم للولايات المتحدة كذلك.
 
وباختصار فلا أميركا ولا فرنسا -على الرغم من كل المشتركات بينهما- ترحمان بعضهما البعض حين تميل الريح في مصلحة أي منهما أو ضد إحداهما دون الأخرى، وقد حدث هذا وذاك خلال أربع سنوات فقط من بداية 2002 إلى نهاية 2005.
ـــــــــــ
كاتب فلسطيني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.