الإسلاميون والتحولات السياسية في مصر

الإسلاميون والتحولات السياسية في مصر

كمال حبيب

لايزال الإسلاميون في مصر يمثلون التيار الرئيسي في الحركة الوطنية، ورغم ذلك فإنهم غير ممثلين رسمياً داخل النظام السياسي وهذه إحدى أعقد معضلات التحول الديمقراطي في مصر.

فالإخوان المسلمون -وهم أكبر فصائل العمل الإسلامي والوطني معا في مصر- يعتبرون من وجهة نظر النظام السياسي جماعة محظورة أو محجوبة عن الشرعية، بينما التيارات الإسلامية الأخرى التي يمثلها مثلاً "حزب الوسط" لا تزال تنتظر الإفراج بالموافقة على طلب تأسيس حزب سياسي للمرة الثالثة باسم "حزب الوسط المصري" بعد تقرير إيجابي للجنة مفوضي الدولة بالمحكمة الإدارية لصالح الحزب أوصى بإلغاء قرار لجنة شؤون الأحزاب برفضه.

وهناك محاولتان لتأسيس أحزاب إسلامية من قبل تيارات كان لها صلة بالقوى الراديكالية الجهادية وهي تحمل رؤية سلفية ترى العمل الاجتماعي والسياسي مجالا لنضالها وتستبعد العنف، المحاولة الأولى عبر عنها "حزب الشريعة" والثانية "حزب الإصلاح"، بل إن الإخوان أنفسهم أعلنوا مرارا تحت تأثير الجيل الوسيط في الجماعة عن قبولهم دخول المعترك السياسي التنافسي عبر إعلانهم قبول تأسيس حزب سياسي ذي طابع مدني يكون بديلا عن الجماعة في حال التأكد من نية النظام السياسي قبول هذا الحزب بإلغائه لجنة الأحزاب وقبول الأحزاب بمجرد الإخطار.

ولا يجوز لنا في هذا المقام التغافل عن مبادرة الإخوان للإصلاح السياسي والتي أطلقتها الجماعة عام 2004، أي في وقت مبكر نسبيا وقبل إعلان حركة كفاية عن نفسها في أواخر العام نفسه، فهي أحد المعالم المهمة في التطور الفكري للجماعة والتي ركزت فيها على الإصلاح السياسي كمدخل ضروري للاقتراب من تحول تعددي حقيقي في مصر.

"
طور الإسلاميون المصريون رؤاهم الفكرية والحركية بدرجة كبيرة جعلتهم يقتربون من الواقع الاجتماعي والسياسي ويدركون أهمية التعاطي معه عبر النضال السياسي السلمي ومن ثم تراجعت الرؤى القديمة التي كانت تتحدث عن مفاصلة الواقع
"

وعلى الرغم من أن المبادرة صيغت بخطاب إخواني تقليدي فإنها لم تتحدث عن الدولة الإسلامية أو تطبيق الشريعة الإسلامية بل ظلت وفية لتقاليدها الراسخة باعتبارها قوة إصلاحية وليست جذرية، ومعلوم أن الجماعة الإسلامية التي هي أكبر فصيل إسلامي مارس العنف في حقبة الثمانينات والتسعينيات دشنت مراجعات أحدثت ضجة كبيرة في مصر بحيث يمكننا القول أن الإسلاميين في مصر استبقوا تحولات النظام السياسي المصري بتحولات فكرية وحركية مهمة جعلتهم من منظور العلوم الاجتماعية "حركات اجتماعية لها مشروع سياسي مدني ذو مرجعية دينية".

وبشكل عام يمكننا القول بقدر كبير من الثقة أن الإسلاميين المصريين طوروا رؤاهم الفكرية والحركية بدرجة كبيرة جعلتهم يقتربون من الواقع الاجتماعي والسياسي ويدركون أهمية التعاطي معه عبر النضال السياسي السلمي، ومن ثم تراجعت الرؤى القديمة التي كانت تتحدث عن مفاصلة الواقع والتعالي عليه وبناء عالم مواز له بعيدا عن بقية قوى المجتمع الأخرى.

بيد أن التحولات السياسية للنظام المصري منذ إعلانه تعديل المادة 76 من الدستور في شهر فبراير/ شباط الماضي فاجأت الإسلاميين المصريين الذين بدوا وقد أخذتهم الدهشة والمفاجأة، فقبل إعلان مبارك المثير عن تعديل هذه المادة كانت القوى السياسية بكل فصائلها وأطيافها قد وصلت إلى قناعة مفادها بقاء الحال على ماهو عليه وأنه لاجديد تحت الشمس وأن أمر تعديل الدستور هو ضرب من المحال.

لكن الأجواء السياسية الجديدة في مصر فرضت تحديا أكبر على "الإخوان المسلمين" ، حيث لم يعد مقبولاً أن تقتصر الجماعة ذات التاريخ والوجود الضخم على مجرد إصدار مبادرات الإصلاح بل لا بد لها من المنازلة السياسية للنظام بالنزول إلى الشارع خاصة وأن مظاهرات حركة كفاية الوليدة مثلت عبئا ثقيلاً على الإخوان حيث ضغط الشباب الإخواني والجيل الوسيط داخل الجماعة على القيادات بضرورة النزول إلى الشارع والتظاهر ضد النظام السياسي للمطالبة بالتغيير، وفعلاً نزل الإخوان إلى الشارع في القاهرة مرتين في شهر مايو/ أيار وبدت مظاهراتهم أكثر كثافة في الحضور والتنظيم من مظاهرات حركة كفاية وحركات التغيير الأخرى في مصر.

ودفع الإخوان فاتورة نزولهم إلى الشارع بإلقاء القبض على أعداد كبيرة منهم وصلت في بعض التقديرات إلى 3000 معتقل خرجوا جميعا بعد ذلك بينما ظل النظام متحفظا على العضو البارز في الإخوان عصام العريان، وعلى الرغم من مخالفة الإخوان لخطهم التقليدي الحذر بنزولهم إلى الشارع لأول مرة منذ عام 1954م فإن خطابهم كان أكثر تحفظا تجاه الرئيس المصري الذي وصفه مرشد الإخوان بأنه ولي الأمر الشرعي الذي يمكن قبول استمراره في السلطة إذا استجاب لمطالب الإخوان الإصلاحية وهو ما أحدث ردود فعل ضاغطة على الجماعة من داخلها بشكل أساسي جعلها تتخلى عن حذرها التقليدي وتنزل إلى الشارع.

"
فرضت الأجواء السياسية الجديدة في مصر تحدياً أكبر على "الإخوان المسلمين"  حيث لم يعد مقبولاً أن تقتصر الجماعة ذات التاريخ والوجود الضخم على مجرد إصدار مبادرات الإصلاح بل لا بد لها من المنازلة السياسية للنظام
"

ومع الثقة في أجواء الانفتاح بدأ خطاب الإخوان يتخذ طابعاً أكثر جرأة في نقد النظام السياسي وصلت إلى حد المجاهرة بالإقدام على عصيان مدني مرتين على الأقل من قبل مرشد الجماعة، وتأكيد أن حركة الإخوان لا تنتظر تصريحا لها بالوجود فهي موجودة في الشارع ومستمدة قوتها من الجماهير التي تؤيدها في مواجهة إصرار النظام على القول بأن النظام السياسي المصري لن يسمح بوجود حزب ديني في البلاد، وطالبت الجماعة بحزمة إصلاحات سياسية غير تقليدية متسقة مع مجمل خطاب الحركة الوطنية في تظاهراتها المختلفة والتي تشير بقوة إلى تبني الجماعة لخطاب سياسي يعطي إشارة لكل من يراقب الوضع السياسي المصري بأن الجماعة تتحول من الدعوة إلى العمل السياسي المدني.

وكما اضطرب خطاب الإخوان تجاه نقد الرئيس مبارك فإنهم اضطربوا أيضا في التصميم على بقائهم وحدهم بعيداً عن الحركة الوطنية المصرية التي مثلتها حركة كفاية، وجادل بعض المراقبين في أن عدم انضمام الإخوان للحركة المصرية من أجل التغيير هو الذي عرضهم لانفراد الحكومة بهم وأضعف في الوقت ذاته حركة "كفاية".

وربما تأتي محاولة الإخوان لقيادة ما عرف باسم "التجمع الوطني للإصلاح" استدراكا على موقفها المتحفظ السابق ومحاولة للتقرب إلى عموم الحركة الوطنية المصرية، كما أن الإخوان شاركوا في بعض المظاهرات التي خرجت للشوارع مع كفاية وبعض حركات التغيير الأخرى.

وكان البيان الذي أصدرته جماعة الإخوان بشأن الانتخابات الرئاسية والذي صدر قبل الانتخابات الرئاسية بأيام قليلة هو التعبير عن طبيعة موقف الجماعة فهي لم تعلن عن تأييدها لمبارك أو غيره ولكنها أشارت إلى أنها لن تنتخب فاسدا، ولم تتخذ موقف المقاطعة من الانتخابات كباقي القوى التي عارضت ولكنها قبلت المشاركة وأعطت لأعضائها حرية اختيار من يرونه على أن لا يصوتوا لمستبد أو فاسد.

فالإخوان لهم حساباتهم الخاصة التي تغلب مفهوم المشاركة خاصة وأن الانتخابات الرئاسية لم تكن ساحة للفعل الإخواني إلا بالقدر الذي يعزز حضور الجماعة السياسي كلاعب لا يمكن تجاهله، والانتخابات البرلمانية التي تدق الأبواب تراها الجماعة معتركها الرئيسي فهي تخطط للحصول على 20% من أصوات البرلمان القادم، وربما تراهن على إحراج النظام المصري لمنحها الترخيص الشرعي إن هي استطاعت أن تفوز بأكبر كتلة معارضة في البرلمان.

على صعيد التيارات الإسلامية الأخرى فإن "حزب الوسط" ربما يوافق عليه النظام المصري بعد الانتخابات البرلمانية واستقرار صورة الأوضاع السياسية عند النظام الحاكم، وحينها ستكون هذه هي المرة الأولى التي يقبل فيها النظام المصري بحزب إسلامي ذو مرجعية مدنية، وهو ماسيفتح الباب على مصراعيه لانطلاق التيارات الإسلامية نحو الاندماج الكامل في الحياة السياسية وتبدو مصر أقرب ما يكون للحالة التركية، حيث سيراهن النظام والغرب على قدرة الحزب الجديد على تحييد القوة الساحقة للإخوان في الشارع المصري والتي جعلت أحد قيادييهم يقول "معركتنا ليست مع النظام ولكنها مع الشارع والنظام يعلم ذلك وهو يحجم حركتنا"، وهنا يبدو أن النظام والغرب معا سيجدون أنفسهم مضطرين لإطلاق حزب إسلامي آخر يمكن أن يكون الوعاء الذي يمتص فيضان الشارع الإسلامي بعيداً عن الإخوان المسلمين.

"
الخطوة الأولى نحو التعددية والتي فتحها تعديل مادة واحدة من الدستور المصري ستقود في تقديرنا إلى تغيير المشهد السياسي المصري, فهي أحدثت فتحة في جدار النظام القديم ولابد من العبور إلى نظام جديد
"

والمتابع للتيار الجهادي سوف يلاحظ تحولا مثيراً لأفكار المقدم "عبود الزمر" المسجون حاليا والذي غير رؤيته الثورية إلى الإصلاحية التي تعلن قبوله بالنضال السياسي السلمي عبر المنافسة الحزبية والمجتمعية بما في ذلك الاحتكام إلى صندوق الانتخابات، وطالب بالسماح للقوى الراديكالية للتعبير عن نفسها عبر النظام السياسي حتى لا تذهب إلى العنف، وأكثر من ذلك فقد أعلن "الزمر" عن ترشيح نفسه أولا للبرلمان ثم للرئاسة وطرح برنامجا من خمسين نقطة تدعو إلى تداول السلطة والحكومة المنتخبة وحرية تشكيل الأحزاب وتعديل الدستور، وهو ما يعني أن التيار الذي يمثله "عبود الزمر" يتحول ناحية التعبير السياسي، فهو يصر على حق من كانوا أعضاء في تنظيم الجهاد في ممارسة حقوقهم السياسية بما في ذلك حق تكوين الأحزاب.

أما الجماعة الإسلامية فإنها نفت ما نشر عن تأييدها "مبارك" في الانتخابات الرئاسية وأشارت إلى أنها لا تزال تعالج شؤونها الداخلية ولم تنضج ظروفها بعد للانخراط في العمل السياسي، وتبدو لنا الجماعة الإسلامية وكأنها بيدق ينتظر دوره في تشكيل المشهد السياسي المصري الذي لايزال يتخلق والذي سيكون الإسلاميون أهم فاعل في تكوينه وتشكيله.

التحولات السياسية التي تشهدها مصر وهي لا تزال في بواكيرها ستفتح الباب واسعاً أمام الإسلاميين للانخراط في العمل السياسي ودفع قاطرة التحول الديمقراطي لمصر نحو تعددية حقيقية لامناص أمام النظام السياسي من قبولها إن عاجلاً أو آجلا، خاصة وأن قواعد اللعبة تغيرت ولم يعد استخدام "فزاعة" الإسلاميين يثير رعب الدوائر الغربية المؤثرة في صناعة القرار تجاه العالم العربي وفي القلب منه مصر.

ومن يدري ربما يفاجئنا المستقبل المصري بائتلاف بين نواب من الإسلاميين وآخرين من الحزب الحاكم لتشكيل الحكومة التي سيكون من بينها وزراء يعبرون عن التيار الإسلامي, بالطبع هذه مسألة تبدو لنا اليوم خيالية لكن السياسة لا تعرف المستحيل، وحينها سوف يتحمل الإسلاميون الخسائر كما يجنون المكاسب من انحياز مشاعر الشارع لهم باعتبارهم في موقع المعارضة دائما.

إن الخطوة الأولى نحو التعددية والتي فتحها تعديل مادة واحدة من الدستور المصري ستقود في تقديرنا إلى تغيير المشهد السياسي المصري فهي أحدثت فتحة في جدار النظام القديم ولابد من العبور إلى نظام جديد، وكم من نظم حاولت التغيير عبر هندستها الخاصة لكنها فشلت في ذلك وانفتح للناس باب واسع لم يعد ممكنا التحكم فيه أو غلقه أو حتى مواربته، إننا إزاء فرصة سياسية كبيرة في مصر لم تكتمل بعد ولكنها لاتزال تمتلك إمكانية الاكتمال وقابلية الاغتنام.
ــــــــــــــــ
كاتب مصري

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان