السياسة السورية.. وقفة نقدية

السياسة السورية.. وقفة نقدية.



أكرم البني

 

تنوعت الرؤى وتعددت في تحليل السياسة الخارجية السورية ومحاولة تقويمها في ضوء ما شهدته خلال عقود من تطورات ومواقف متباينة بدت أحياناً غير مفسرة أو متعرجة في مساراتها بل ومتناقضة في مضامينها مقارنة مع المبادئ الوطنية والقومية المعلنة للنخبة الحاكمة.

 

ويحتاج المرء إلى جهد خاص للإمساك بالاتجاه الرئيس أو الجوهري الذي يحرك هذه السياسة وإظهار العناصر والسمات المحددة لها.

 

"
ما يحرك السياسة السورية هو مصالح النخبة الحاكمة وديمومتها في السلطة لا المبادئ والمثل العليا، وقد ضربت عرض الحائط بادعاءاتها الوطنية والقومية لكسب جولة أو موقع أو للحفاظ على نفوذ مهدد
"

أولا جذرها البراغماتي وأن ما يحركها هو مصالح النخبة الحاكمة وديمومتها في السلطة لا المبادئ والمثل العليا، وثمة مواقف واضحة تؤكد هذه الحقيقة وأنها في غير مكان وزمان ضربت عرض الحائط بادعاءاتها الوطنية أو القومية لكسب جولة أو موقع أو للحفاظ على نفوذ مهدد.

 

من هذه القناة يمكن النظر إلى أسباب دخول القوات السورية لبنان عام 1976 لإجهاض انتصار القوى الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، ولقطع الطريق على ما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج سلبية على أنظمة المنطقة وشروط استقرارها.

 

كما يمكن فهم الموقف السوري المؤيد لإيران في حرب الخليج الأولى ضد التوأم العراقي وإدارة الظهر لألف باء المبادئ القومية تحسباً من خطر نظام بغداد ومطامعه واستقواء بوزن الثورة الإيرانية وشعاراتها الصريحة المناهضة للصهيونية لتعويض خسارة شريك حرب تشرين بعد انفراده في إبرام اتفاقية سلام مع إسرائيل.

 

وأيضاً من القناة ذاتها يمكن تفسير الموقف السوري الداعم للتحالف الدولي في حرب الخليج الثانية عام 1991 وإرسال قوات عسكرية إلى حفر الباطن للمشاركة إلى جانب القوات الأميركية في طرد الجيش العراقي من الكويت.

 

إن معايرة وزن أي سلطة حاكمة في شبكة العلاقات الإقليمية هو أحد الطرائق الأساسية لقياس قوتها ومدى ثبات مصالحها وامتيازاتها، ما يعني أن خوض الصراع على حصص النفوذ الإقليمي هو واحد من العوامل المساعدة في تمكين السلطة داخلياً وتعزيز سيادتها، خاصة إذا كانت على شاكلة السلطة السورية تستمد مشروعيتها في الحكم من أيديولوجية وطنية وقومية وليس من آليات سياسية ديمقراطية.

 

فإزالة المنغصات الوطنية المتعلقة بالجولان المحتل والتحكم بلبنان واللعب بالورقة الفلسطينية وإنعاش تعثر الاحتلال الأميركي في العراق والتطلع تالياً لتخفيف الخلل في توازن القوى مع العدو الصهيوني هي مسارات تندرج في إطار السعي لتحسين شروط الحضور الإقليمي بوصفها عناصر ضرورية لتأكيد الهيمنة الداخلية وتمتينها.

 

ثانياً، بعد حرب تشرين ومعارك الاستنزاف ثم توقيع اتفاقية فض الاشتباك مع إسرائيل عام 1974 بدا أن السياسة السورية نأت بنفسها في أغلب الأزمات عن أسلوب التدخل العضوي بجسدها وفضلت استئناف صراعها على النفوذ الإقليمي عبر وكلاء أوفياء.

 

وإذا استثنينا الحشود العسكرية السورية على الحدود الأردنية للضغط على مؤتمر القمة العربية المنعقد في عمان عام 1980 لإجهاض نتائجه، وأيضاً المعركة التي فرضها الاجتياح الصهيوني عام 1982 على القوات العسكرية السورية الموجودة في لبنان، ثم الإفادة من مناخات حرب الخليج الثانية واندفاع الجيش السوري لتصفية سلطة الجنرال عون، يمكن القول إن السياسة السورية أفلتت كاتجاه رئيس من المواجهات المباشرة ونجحت في التدخل عبر وسطاء متعددين للرد على محاولات عزلها وإضعافها أو الالتفاف على دورها في منطقة المشرق العربي.

 

وأحياناً لعب هؤلاء الوسطاء دوراً مهما في إرباك خصومها أو الضغط عليهم لفرض بعض شروطها، فمع المحافظة على جبهتها في الجولان المحتل هادئة ومستقرة سارعت السياسة السورية إلى تقديم كل دعم ممكن للقوى الوطنية اللبنانية في معارك الجبل والضاحية عام 1983 لإسقاط اتفاق 17 مايو/أيار، إلى أن تمكنت عبر تثقيل وزن حزب الله وتفعيل دوره من هزيمة إسرائيل وإجبارها على الانسحاب من الشريط الحدودي دون شروط تذكر.

 

أما حيال الوضع الفلسطيني فلم تأل جهداً في محاولات صعبة وأحياناً شاقة لاحتواء النضال الفلسطيني ثم بعض منه عندما اندفعت قيادة منظمة التحرير إلى خيارات لا تتفق مع الأهداف السورية، وجاهدت لإفشال أو إعاقة أكثر من مشروع للتسوية مما حاولت القيادة الفلسطينية تبنيه أو سارت في ركابه، فانحازت انحيازاً سافراً إلى القوى الفلسطينية المعارضة ورعت التنسيق بينها ثم إلى قوى "الانتفاضة"، وحضت من غير تحفظ على العمليات الانتحارية والتشجيع على توتير أجواء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كلما هدأت.

 

ولا ننسى سلوكها تجاه الجارة تركيا عندما دعمت عبد الله أوجلان وحزب العمال الكردستاني، وسخرته لسنوات كأداة ضاغطة على الحكومة التركية لتحجيم مطامعها الإقليمية أو على الأقل كف أذاها وتخفيف قبضة تحكمها بمياه نهر الفرات.

 

"
الضرورة الحيوية لتجديد المشروعية الأيديولوجية للسطة السورية حدا بها إلى منح السياسة الخارجية أولوية مما أدى إلى إخضاع دائم للسياسة الداخلية وتسويغ احتكار الحقل السياسي تحت شعارات القومية والوطنية
"

وفي هذا السياق توصف السياسة السورية بقدرتها على إشهار المعالم العامة لوجوه الاتفاق مع خصومها لكن غالباً ما تنحو لإثارة عناصر الاختلاف في مستوى التفاصيل، مستندة إلي قدرتها على توظيف ما لديها من قوى وإمكانات وأوراق ضغط ونفوذ تمارسها في محيطها الإقليمي‏,‏ لاسيما اللبناني أو الفلسطيني ثم العراقي‏.

 

وهي تستند أيضاً إلى إتقانها العالي لروح المماطلة والتسويف والرهان على عامل الوقت في محاولة لترقب ما يستجد من أحداث، لعل بالإمكان تجيير بعض نتائجها في تحسين الوضع القائم أو على الأقل المحافظة عليه أو في أسوأ الأحوال تخفيف الخسائر والأضرار.

 

ثالثاً: تبدو السياسة السورية كسياسة وسطية في إدارة أزماتها مع أقطاب الصراع العالمي وخصوصاً الولايات المتحدة، وحريصة كي لا تدفع الأمور إلى نهايتها القصوى.

 

ففي عام 1976 حافظت بحماس على حبل السرة مع الاتحاد السوفياتي وجاهدت لتخفيف استيائه من تقاربها مع أميركا وطابع تدخلها العسكري في لبنان.

 

وطيلة تاريخ علاقتها مع واشنطن وفي المحطات الأكثر جفاء وعداء لم تقطع شعرة معاوية ولم تغلق قنوات الحوار والتفاهم، وحرصت بهذه العقلية على امتلاك خيارات متنوعة وربما متعارضة في الوقت ذاته، كالخيار السوفياتي أولاً ولزمن طويل ثم الإيراني إلى جانب الاستمرار في الرهان على الدعم العربي حتى لو كان محدوداً وضعيفاً.

 

يضاف إلى ذلك التمسك بالورقة الأوروبية واعتمادها كاحتياطي، دون أن تفرط أو تفقد الأمل في الخيار الأميركي ومحاولة تنميته.

 

ويمكن أن نضع اليوم في هذا الإهاب المساعدة الأمنية لواشنطن في إطار حملة مكافحة الإرهاب، وطرائق الأخذ والرد وشد الحبال لانتزاع تنازلات مجزية لقاء دور سوري إيجابي في أمن العراق واستقراره.

 

رابعاً: إن الضرورة الحيوية لتجديد المشروعية الأيديولوجية للسطة السورية وتأكيد فاعليتها حدا بها إلى منح السياسة الخارجية أولوية على ما عداها وتقديم دورها على مسرح إعادة إنتاج القوى والمواقع، مما أدى إلى إخضاع دائم للسياسة الداخلية وتسويغ احتكار الحقل السياسي تحت شعارات القومية والوطنية، وأولوية للتصدي للهجمة الصهيونية والإمبريالية وتغييب الحريات والسيطرة على الثروة والمال والثقافة والإعلام والنقابات، وتالياً تجريم أي نشاط مستقل عن إرادة السلطة.

 

ترافق ذلك مع تقدم  العامل العسكري في الحسابات السياسية وهو ينسجم بطبيعة الحال مع الخلفية العسكرية للنخبة الحاكمة، كثفه في أوائل الثمانينيات مفهوم التوازن الإستراتيجي مع العدو الصهيوني.

 

وقد دل توقيع اتفاقية الصداقة مع الاتحاد السوفياتي على سعي رئيس نحو تقوية الجانب العسكري واستجرار أحدث الأسلحة ربما بأمل امتلاك قوة رادعة تقارب ما يحوزه العدو الصهيوني إذا استثنينا السلاح النووي طبعاً!

 

في ضوء ما سبق من محددات للسياسة الخارجية السورية وسمات عامة ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة اليوم، وهو هل نجحت هذه السياسة في تحقيق مبتغاها ونحن نراقب ما آلت إليه أم انقلب ما راكمته وبالاً عليها؟!

 

إن كل مطلع على تاريخ السياسة السورية وعلى الرغم مما حصل من متغيرات عالمية وإقليمية والأهم احتلال العراق وما تركه من دروس وعبر، لن يجد أي جديد في حركتها الراهنة بل ثمة استمرار وإصرار على معالم النهج القديم في تعاطيه مع المشكلات والأزمات الإقليمية.

 

"
لا تزال السياسة السورية تتمنع أو لا تريد الاعتراف بالجديد الحاصل على صعيد توازن القوى عالميا وإقليميا بعد انهيار الحليف السوفياتي وتفرد الرأس الأميركي وحضوره عسكرياً على مرمى حجر منها
"

لكن الجديد هو عمق مأزقها الراهن وظواهر الاضطراب والارتباك في مواقفها، وحال الحصار والضغوط التي تتعرض لها والتي يمكن اعتبارها من "العيار الثقيل" إذا صحت التسمية في حجمها وجديتها وأيضاً في تنوعها وشدة تواترها.

 

فإذا نجحت السياسة السورية بعقلية وأساليب الماضي في كسب جولات معروفة في غير ما زمان ومكان وعززت حضورها الإقليمي وتمكنها من أوراق قوتها، واستطاعت تغيير قواعد لعبة "الصراع على سوريا" ودخول التنافس الإقليمي كرقم فاعل وأحياناً قوي، فإن تلك الأساليب فقدت اليوم الكثير من جدواها وفاعليتها ولم تعد تجدي نفعاً بل ربما تفضي إلى عكس الأهداف المتوخاة وتدفع الأزمة إلى ذروة قاتلة.

 

الظاهر أن السياسة السورية لا تزال تتمنع أو لا تريد الاعتراف بالجديد الحاصل على صعيد توازن القوى عالمياً وإقليمياً بعد انهيار الحليف السوفياتي وتفرد الرأس الأميركي وحضوره عسكرياً على مرمى حجر، وتالياً تراجع ما تملكه سوريا من تحالفات عالمية وإقليمية.

 

فروسيا محكومة بسقف لا يمكنها اختراقه دلت على ذلك الهجمة الإعلامية ضد تزويد سوريا بصواريخ حديثة والتي سبقت زيارة الرئيس الأسد إلى موسكو، وإيران مشغولة بأوضاعها وتجاهد للتخفيف من حالة حصار وتهديد جراء شد الحبال حول مشاريعها وأبحاثها النووية، وأخيراً انحسار الدعم الفرنسي والأوروبي بل انتقالهما إثر القرار 1559 إلى صفوف أعدائها.

 

من جانب آخر أحدث انتهاء مناخ الحرب الباردة مشهداً جديداً أحد عناصره الأكثر أهمية هو تراجع وزن العامل العسكري في معايرة إمكانات الدول وقوة حضورها مقابل تقدم عوامل السياسة والاقتصاد والفعالية البشرية، لتعود الحسابات إلى أصولها التقليدية التي تحتل فيها الكتلة الداخلية بتكاملها السياسي والاقتصادي والاجتماعي الموقع الرئيس في قياس قدرة أي بلد وقوته.

 

إن النهج البراغماتي للسياسة السورية الذي رسم في ظروف الحرب الباردة حركة مواقفها وخط إنماء وزنها الإقليمي هو نفسه الذي يستدعي اليوم إجراء تغيير جدي على طرائق الحضور الإقليمي، وإعادة ترتيب الأوليات والانطلاق من حقيقة أساسية تقول إن الدول إنما تستمد قوتها من ذاتها ومجتمعاتها لا من قمع الداخل ومراكمة السلاح والتعويل على تكتيكات ومناورات مؤقتة لن تشكل حصانة وحماية تذكر عند تقدم أي خطر جدي.

 

ويستدعي ذلك  توخي الدقة والحذر من استخدام أساليب الإشغال بالوساطة طالما كان من السهولة نقل المعركة ضد الأصل، وطالما باتت اللعبة مكشوفة ولم تعد المسافة بين الوكيل والأصيل تؤخذ في الاعتبار.

 

"
قوة الوطن لا تحققها المناورات والسياسات الخارجية أيا كانت درجة نجاحها أو الحاجة إليها بل تنبع من بناء داخلي راسخ يقوم على أسس ديمقراطية
"

ولن تتأخر أميركا وإسرائيل في استخدام شتى أنواع العقاب وحتى العصا العسكرية لتأديب السلوك السوري إذا تعرضتا لأذى جدي من أحد الوكلاء في فلسطين أو لبنان أو العراق!

 

ربما كان قدر سوريا أن تضطر إلى اعتماد سياسة خارجية نشطة نتيجة وجودها في منطقة حساسة من العالم، أو بالتعبير الأميركي"منطقة المصالح الحيوية" منطقة لم تعرف الاستقرار طيلة عقود بسبب تنامي الدور الصهيوني ومخاطره

 

لكن قوة الوطن لا تحققها المناورات والسياسات الخارجية أياً كانت درجة نجاحها أو الحاجة إليها، بل تنبع من بناء داخلي راسخ يقوم على أسس ديمقراطية، ويتطلب جهداً حثيثاً لمعالجة الخلل في توازن القوى عبر تحسين صورة سوريا في أوساط الرأي العام العربي والعالمي وتقديم تنازلات جرئية كي تلامس هذه الصورة المعايير والتوجهات العامة حول الحريات وحقوق الانسان، بما في ذلك صياغة علاقة صحية ومتكافئة مع لبنان وفلسطين والعراق.

 

يضاف إلى ذلك أنه لا بد من توفير المناخات القادرة على خلق مواطن تتشابك مصالحه مع مصالح الوطن، فشعور الإنسان بالحرية والثقة بجدوى انتمائه لوطنه هو صمام أمان التماسك الداخلي والقاعدة السليمة لتفاعل كل القوى الاجتماعية والسياسية وتالياً استنهاضها في مواجهة مختلف التحديات.

________________

كاتب سوري

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان