التقارب الروسي السوري.. تعاطف أم تحد؟

التقارب الروسي السوري تعاطف ام جد


 
الزيارة التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى روسيا وما أسفرت عنه من نتائج تتعدى في أبعادها عودة الدفء للعلاقات السورية الروسية وإلغاء 80% من الديون الروسية على سوريا، وتوقيع ستة اتفاقات في عدة مجالات، وإمكان عودة تسليح الجيش السوري.
 

"
الخطوة الروسية، دون تقليل من براعة الدبلوماسية السورية، لم تأت تعاطفا مع سياسات سوريا بقدر ما هي روسية بالدرجة الأولى تتقصد تحدي أميركا وإسرائيل
"

وذلك يتكشف بملاحظة بعدين يزيدان أهمية عن تلك الأبعاد، هما الدعم السياسي الروسي لموقف سوريا، وما تحمله تلك الزيارة ونتائجها من مغزى يتعلق باحتمال تشكل إستراتيجية روسية جديدة.

 
هذا البعد الثاني هو الذي يحتاج إلى وقفة وتعمق وحدس لأنه في ضوء تطوره وتوقعاته ستأخذ الأبعاد آنفة الذكر أهميتها ومداها لا سيما الدعم السياسي الروسي لموقف سوريا.
 
المانع الذي كان يحول قبل اليوم دون حدوث هذا التطور في العلاقات يعود إلى ما اتبعته روسيا من سياسات في مرحلة رئاسة بوريس يلتسين، وفي ما بعد مرحلة فلاديمير بوتين مع إرهاصات مختلفة نسبيا.
 
ومن ثم فإن قراءة هذه الزيارة جيدا تفترض طرح السؤال، هل تؤشر على متغير نوعي في السياسات الروسية وربما في الإستراتيجية الروسية، نفسها أم المسألة لا تتعدى طفرة سطحية سرعان ما تخبو؟

 
يأتي السبب الأول الدافع لهذا السؤال من أن كلا من الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون غير راضين عن هذا التطور في العلاقات الروسية السورية، حيث تضرب إدارة بوش حصارا دبلوماسيا مشددا على سوريا وعلامته قرار مجلس الأمن رقم (1559)، إلى جانب حملة التهديدات الصادرة عن الحكومة الإسرائيلية، بينما تتلقى سوريا دعما روسيا يحمل في زاوية هامة من زواياه، تحديا للإدارتين الأميركية والإسرائيلية.
إعلان

 
ومن هنا فإن الخطوة الروسية، دون تقليل من براعة الدبلوماسية السورية لم تأت تعاطفا مع سياسات سوريا بقدر ما هي روسية بالدرجة الأولى أي في خدمة سياسة روسية تتقصد ذلك التحدي مهما صدرت من تصريحات تنكره أو تخفف منه، أو تتجاهله.
 
ولو عدنا إلى الأشهر الثلاثة الماضية فقط لوجدنا أن العلاقات الروسية الأميركية آخذة في التأزم والتوتر، وتكفي الضربة الموجعة التي تلقاها بوتين من بوش في أوكرانيا دليلا.
 
وفي المقابل رد بوتين في العراق حيث شكك في انتخابات تجري تحت الاحتلال، ثم هذه الزيارة، وقبلهما تصريحه بامتلاك روسيا لسلاح فوق تقليدي يتقدم على "ما عداه" عشرين عاما، وهو رسالة مباشرة (من خلال كلمة ما عداه) إلى بوش.
 
ويمكن أن يضاف أيضا التطهيرات التي قام بها بوتين بحق عدد من كبار رجال الأعمال والموظفين والمستشارين المتنفذين التي أثارت انزعاجا شديدا لدى الحركة الصهيونية والإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية، وربما كانت تمهيدا لما يعد له من سياسة روسية جديدة داخليا وخارجيا.
 

"
التفاهم مع أميركا لم يقنع إدارة بوش بمراعاة مصالح روسيا أو بدورها اللائق كدولة كبرى بل أغراها بالتمادي في تهميش روسيا والحفر ضدها في عقر دارها
"

ومن يتابع وضع روسيا، داخليا وعالميا، في عهد يلتسين ما كان ليشكك في أنها ماضية سريعا إلى دمار وخراب وحتى تفتت وانهيار اتحادها.

 
وعندما جاء بوتين كان البعض يتوقع أن يعيد التماسك للدولة ويوقفها على قدميها لكن سنواته الأولى حتى وقت قريب كانت بين بين، لا هي من نمط سياسة يلتسين، ولا هي حازمة وصارمة كما يقتضي وقف التدهور والإنهاض.
 
فالتوفيقية التي انتهجها في الداخل ومحاولة التفاهم مع بوش وحتى شارون (الذي يدعي صداقة بوتين) لم تثبتا النتائج المتوخاة، الأمر الذي قد يكون السبب وراء التطهيرات، وربما إعادة النظر في الإستراتيجية الخارجية.
 
فالعناصر المصهينة والمؤمركة في الداخل لم تنفع معها التوفيقية إذ مضت مصرة على أجندتها. والتفاهم مع أميركا لم يقنع إدارة بوش بمراعاة مصالح روسيا أو بدورها اللائق كدولة كبرى، بل أغراها ذلك بالتمادي في تهميش روسيا، وحتى الحفر ضدها في عقر دارها كما حدث مع جورجيا وأوكرانيا وعدد من دول آسيا (السوفياتية سابقا).
إعلان
 
وبكلمة وجدت روسيا نفسها أمام خيارين، إما الانهيار إلى مستوى التصدع، أو دولة ثانوية في حالة الاستمرار على نهج يلتسين أو على ما يمكن أن يسمى نهج بين بين. وإما إعادة بناء الداخل واستعادة دور أقوى خارجيا.
 
فهل أخذ الخيار الثاني يحتل موقع المركز في سياسات بوتين كما راحت تؤشر الأشهر الثلاثة الماضية وآخرها قمة الأسد/ بوتين، أم ما زال الوضع في حالة تردد لم يحسم بعد، أم هو في هذا الاتجاه لكن ضمن طريق متعرج تتخلله تراجعات عنه هنا وهناك؟.
 

"
في السابق كانت المناهضة نابعة من مواقف مبدئية ضد الإمبريالية في الغالب أما الآن فالمواقف أخذت تتحدد نتيجة محاولة التفاهم والتصالح مع أميركا وحتى خطب ودها
"

هذا التساؤل الأخير يفترض رصد العلاقات الروسية بسوريا وبالمنطقة عندنا، كما العلاقات الروسية الأميركية، والروسية الإسرائيلية، حتى يمكن القطع إن كان البعد الأساسي الذي حملته الزيارة آنفة الذكر مؤشرا على تطور في الإستراتيجية الروسية أم مجرد خطوة خاضعة للمساومة لتبقى الإستراتيجية وفق حدودها التي عرفت بها خلال مرحلة بوتين حتى وقت قريب. هذا ما يجب أن يلقى جوابه في الأيام والأشهر القريبة القادمة.

 
وبالمناسبة يمكن أن يلاحظ فارق مهم بين مواقف الشعوب والحركات السياسية والدول في مناهضة أميركا في مرحلة الحرب الباردة وفي عدد من البلدان على المحيط الهادئ قبل ذلك ومواقفها في الفترة التي تلت انتهاء الحرب الباردة.
 
ففي السابق كانت المناهضة نابعة من مواقف مبدئية ضد الإمبريالية في الغالب أما الآن فالمواقف أخذت تتحدد نتيجة محاولة التفاهم والتصالح مع أميركا وحتى خطب ودها.
 
هذا الأمر راح يولد المناهضة عبر التجربة القاسية معها، وذلك بعد أن يكتشف أن القبول بمطالبها يودي باقتصاد أغلب البلدان إلى الأزمة وربما الانهيار كما هو الحال في تجربة بلدان أميركا اللاتينية، أو يودي بثوابتها ومصالحها العليا كما هو حادث أو في طريقه إلى الحدوث في البلدان العربية والإسلامية.

 
كما أن ما جرى من مناهضة للسياسات الأميركية من قبل عدد من الدول الكبرى (فرنسا وألمانيا وروسيا والصين) إبان الإعداد لغزو العراق يوصل إلى النتيجة نفسها، مناهضة أميركا تخرج من قلب تجربة مريرة في مصالحتها وخطب ودها.
إعلان
 
هذه الموضوعة التي قد تصبح اتجاها ملموسا تفرض نفسها على التوقعات المستقبلية ليس بعد عقود وإنما خلال بضع سنين، لم تنبع من رصد علاقات عدد من الدول بأميركا، أو من فهم طبيعة الهيمنة الأميركية المتطرفة التي لا تستطيع مراعاة المصالح العليا للدول الأخرى وحسب وإنما أيضا من مظاهر تدهور وضع أميركا في موازين القوى.

 

"
إذا صاحب ظواهر الممانعة والمناهضة والمقاومة اختلال في ميزان القوى العسكري والسياسي والاقتصادي والمالي في غير مصلحة أميركا فسوف تتصاعد تلك الظواهر قطعا
"

وهنا يمكن أن نلاحظ سباق التسلح المحموم الذي تخوضه روسيا والصين والهند على مستوى القوة العسكرية، فضلا عن تجربة العراق في حالة الاحتلال والصدام بالشعوب.

 
ثم هنالك عدة مجالات اقتصادية أخذت تفقد فيها القدرة على منافسة الصين والهند وأوروبا.
 
ويكفي أن نتوقف عند المسح الذي أجرته "مؤسسة المصارف المركزية" حيث بين أن غالبية المصارف المركزية أخذت تتحول إلى اليورو بديلا للدولار، الأمر الذي سيفاقم أزمة عجز الموازنة الأميركية وأزمة حسابها الجاري.
 
وبدهي أن سقوط الدولار عن عرشه ستكون له أبعاد خطيرة على وضع أميركا في موازين القوى في مجالات متعددة.
 
وبكلمة.. إذا صاحب ظواهر الممانعة والمناهضة والمقاومة اختلال في ميزان القوى العسكري والسياسي والاقتصادي والمالي في غير مصلحة أميركا فسوف تتصاعد تلك الظواهر قطعا.


ومن هنا، نفهم بداية التحولات في الموقف الروسي بل يمكن القول إنه إذا لم تتأكد وتتثبت في الأشهر القليلة القادمة فسوف تعود مرة أخرى بعد حين.
ــــــــــــــ
كاتب فلسطيني

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان