هل قتل عرفات؟

فرضية قتل عرفات بالسم/ هل قتل عرفات ؟

 

– المشهد الفلسطيني.. ترتيبات ما بعد عرفات
– المشهد الإسرائيلي.. إشكالية التخلص من عرفات
– الأهداف الإسرائيلية والأميركية

هل قُتل عرفات؟.. هذا السؤال هو الفرضية التي يتجنب المسؤولون الرسميون في السلطة والأطباء الفرنسيون وكذا الدول واستخباراتها العارفة بوضعية عرفات الخوض فيها، والتكتم هنا سيد الموقف (لماذا ؟), هذا يحتاج إلى وقت طويل للبوح بها لاعتبارات تتعلق بكل الأطراف ذات الصلة بالملف الفلسطيني، فهي إما خائفة وإما مستفيدة.

 
فمثلا لا يمكننا الافتراض أن أنظمة عربية رسمية تريد التورط باتهام إسرائيل بقتله, وبالتالي تحمل الغضب الأميركي والإسرائيلي، بل لا يمكن تصور قيادة فلسطينية تتطلع لعقد تسوية مقبلة مع إسرائيل تجرؤ على اتهام إسرائيل بقتل قائدها، وإن ملكت كل الدلائل على ذلك، كما لايمكن تصور أن تتطوع فرنسا وبالتالي أوروبا بالسماح لأطبائها لكي يكشفوا لنا ما كان يعاني منه عرفات حقا ؟ أما الولايات المتحدة وإسرائيل فلا يمكن أن تتفاخرا حاليا بالتسبب بقتله وتجلب الإشكاليات لذاتها.
 
وعليه فخيار المرض الطبيعي وتقدم السن وربما الحديث الخجول عن ظروف لا صحية عاشها الرئيس الفلسطيني في الحصار هو الحل المقبول للجميع، ولكن بالمقابل تهمة التحليل التآمري لا يجب أن تخيف أحدا من الكتاب والمحللين في الوقوف على المعطيات والمؤشرات التي ترجح أن عرفات قتل ولم يمت موتا طبيعيا.
 
المشهد الفلسطيني.. ترتيبات ما بعد عرفات

"
انصب الاهتمام الفلسطيني الرسمي على ترتيبات ما بعد عرفات منذ اللحظة التي تدهورت فيها صحته، ولم يكن بموازاة ذلك سؤال جاد حول ما حدث فعلا لعرفات "

لقد انصب الاهتمام الفلسطيني الرسمي على ترتيبات ما بعد عرفات منذ اللحظة التي تدهورت فيها صحته، ولم يكن بموازاة ذلك سؤال جاد حول ما حدث فعلا لعرفات.

 
إن التغاضي عن هذا السؤال والاهتمام بما بعد عرفات، أظهر تسارعا فلسطينيا غير حميد نحو السلطة، رغم أن السؤال عما حدث لعرفات مرتبط أساسا بجدلية ماهية السلطة القادمة وليس العكس؟
 
ورغم ضرورة ترتيب الوضع الفلسطيني في ضوء ترجيح غياب عرفات، إلا أن هذه الضرورة ليست إلى الحد الذي ذهبت فيه القيادة الفلسطينية الحالية، كون الوضع الفلسطيني أصلا في وضعية احتلال شبه كامل، والتنظيم الإداري الملح في هذه المرحلة هو منع تطور التجاذبات الفلسطينية على السلطة داخل فتح، وما يمكن أن تؤدي إليه من تنازعات أكبر ينجذب إليها الجميع، ما دون ذلك فإن أمور السلطة والوزارات قادرة على تسيير ذاتها بذاتها، وعليه فإن الغرابة هي لماذا الاستغراق في آليات التوريث ونسيان السؤال الأساسي حول ماهية ما جرى لعرفات، لأن تعزيز هذه الفرضية يعني بالضرورة ترتيب الأوراق الفلسطينية على نحو ينفي التسوية مع إسرائيل ويضع على رأس أجندته محاسبتها، وليس البحث عن ثغرات للتفاوض معها، وهنا كان يمكن استثمار قتل عرفات لصالح المشروع الفلسطيني التحريري، بدل الاهتمام بما يضمن ضبط وتهدئة هذه الخواطر.
 
في مستشفى بيرسي لم يكن الموقف الفلسطيني بأقل إشكالا من الانشغال الفلسطيني الرسمي في ترتيب خلافة عرفات، لقد عكس تضارب المعلومات حول صحة عرفات عجزا فلسطينيا رسميا جعل فيه رئيسه يواجه أقداره بين أيدي الأطباء والمختبرات الفرنسية في مستشفى عسكري شديد الحساسية والسرية في معلوماته، حتى عن عائلته التي كان يلقي عليها المستشفى الغموض الذي يكتنف بياناته، مع أن الحاجة الفعلية كانت تقتضي مثلا أن يكون أطباء عرفات الفلسطينيون والعرب حوله للاطلاع على أوضاعه.
 
فليس مناسبا على الإطلاق وضعه في مستشفى عسكري فرنسي دون متابعة فلسطينية حثيثة، خاصة أن هذا المستشفى لم يفسر لنا طوال مكوث عرفات ما جرى فعلا لعرفات؟ وهنا تبرز فرضيتان كلاهما سيئتان فإما أن المستشفى عجز عن السيطرة على ما جرى لعرفات وهذا مشكوك فيه، أو أنه يخفي عن الجميع ما جرى له وهذا هو المرجح؟ 
 
في الافتراض الأول كان من اللائق فلسطينيا وعربيا، التصرف العاجل فلربما يستدعي الأمر نقله إلى مستشفى آخر أو استدعاء أطباء آخرين، أما في حالة الافتراض الثاني فمن حق الجميع أن يشكك بأي استنتاجات ستخرج للعلن لاحقا، لإن إخفاء المعلومات منذ البداية يعني بالضرورة تجنب القول إن عرفات قتل بطرق تسميم أو فيروس حديثة وبطيئة، وهذا يبرز أن ثمة تلفيقا سيجري قصد منه الحفاظ أولا على مبررات التمسك بالتسوية لدى بعض العرب والفلسطينيين، وبالتالي نفي عوامل المقاومة، وثانيا ضمان ترتيبات فلسطينية داخلية تصلح لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل.
 

"
مهدت إسرائيل لاغتيال عرفات وأقنعت العديد من الأطراف الدولية بل والعربية والفلسطينية، أنه عقبة كأداء في التسوية، وبالتالي جميع من صمت عليها أو صدقها وصفق لها سرا أو علنا شريك في قتله
"

باختصار لقد عززت إستراتيجية التسوية باتفاق كل الصامتين والعارفين بما جرى لعرفات على حساب محاسبة إسرائيل وفضحها، وربما كان من الممكن لو اتبع السؤال الأساسي حول ما جرى لعرفات؟ لكان من الممكن تشخيص المسؤولية الإسرائيلية وربما الأميركية، ووضعهم بالتالي أمام مسؤوليات أخلاقية بما تضطرهم إلى إنقاذ حياة عرفات قبل أن يستحكم المرض منه، ومحاولة اغتيال خالد مشعل في الأردن لنا أنموذج سابق في ذلك وإن لم تتشابه حالة الأداة.

 
وحتى بعد إعلان وفاة عرفات كان الموقف الفلسطيني الرسمي أكثر إشكالا في مسألة دفنه، فلماذا التخلي عن دفنه في القدس، رغم أن استغلال حالة الوفاة سياسيا كان من الممكن أن تحرج إسرائيل وتضعها في موقف دولي وأمني محرج، لماذا التخلي عن ورقة دفنه في القدس وما لها من انعكاسات سياسية مفيدة للقضية الفلسطينية؟ هل حقا الموانع الإسرائيلية ستحول دون ذلك، وإن حالت فلماذا لم تجر محاولات فلسطينية لذلك؟ لقد كان من الممكن تأخير دفنه أو أثناء مرضه واستخدامها ورقة لإحراج إسرائيل وربما انتزاع حضور سياسي للفلسطينيين في القدس، ولقد ضيع كل ذلك بحسابات ربما متسرعة. 
 
المشهد الإسرائيلي.. إشكالية التخلص من عرفات
إسرائيل بالمقابل لم تخف نواياها حيال عرفات كما لا تخفي فرحها الآن بانتهاء عهده، بل إن تصفية عرفات جسديا نوقشت مرارا وتارة علقت ومؤخرا أقرت مع اختيار الطريقة الأنسب لذلك، بل ووضعت صورته على قائمة التصفية المعلنة جنبا إلى جنب مع أحمد ياسين وحسن نصر الله وشلح وآخرين.
 
هذه المعطيات ليست سرية ولا هي تسريبات صحفية، هذه تصريحات وقرارات مدونة في ديوان الحكومة الإسرائيلية وفي محاضرها الرسمية، ويمكننا من تتبع إجمالي التصريحات الإسرائيلية أن نستشف الرغبة الإسرائيلية في التخلص من عرفات مع بقاء إشكالية الآلية، ولذا لا يمكننا أن نستبعد خيار قتل عرفات إسرائيليا، بل إن الفرضية النافية لذلك هي ما تحتاج إلى إثباتات وليس العكس.
 
واللافت مؤخرا وفي هذه السنة تحديدا بروز تنصل واضح لشارون من وعده بعدم المس بعرفات، وقال في الرابع عشر من أبريل/نيسان الماضي ما نصه "ربما أن تجاوبي في البداية كان صحيحًا، إلا أنه في مرحلة معينة من النزاع كان هذا خطأ، لذا كان يجب علي أن أقول لهم (يقصد الأميركان)، إنني لم أعد قادرا على الوفاء بوعدي"، تلاه تصريح من المهم استحضاره الآن ليعلون رئيس الأركان الإسرائيلي في بداية هذا العام توقع فيه أن تكون هذه السنة الأخيرة لعرفات دون أن يوضح لنا الأسباب التي استند إليها أو كيفية الوصول لذلك.
 
أما التصريحات الإسرائيلية المرافقة لبداية مرض عرفات وحتى قبل نقله إلى فرنسا، كان لافتا هنا تصريح فركش رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، الذي توقع أن مرض عرفات "إما أن يؤدي إلى موته أو إلى شفائه التام" إن هذا التوقع لا يمكن أن يكون اعتباطيا، وهو ليس لغزا بالتالي لأن المرض الذي يمكن الشفاء منه أو الموت فيه، يتعلق بمصل ربما يتمكن الأطباء من اكتشافه فيشفى أو يعجزون عنه فيموت، وذلك يعني من طرف خفي مسؤولية إسرائيل المباشرة عن مرض عرفات.
 

لقد مهدت إسرائيل لاغتيال عرفات وأقنعت العديد من الأطراف الدولية بل والعربية والفلسطينية، أنه عقبة كأداء في التسوية، وبالتالي جميع من صمت عليها أو صدقها وصفق لها سرا أو علنا شريك في قتله، لأن إسرائيل ما كانت لتجرؤ على قتله لو لم تجد الأرضية لذلك، وبالتالي من الخطير أن لا تثير كيفية موته حتى اللحظة جلبة رسمية وشعبية عربية وفلسطينية لأن الآتي أخطر.
 
الأهداف الإسرائيلية والأميركية

ليس من الواضح بعد حجم التورط الأميركي في الفعل الإسرائيلي، لكن من المؤكد أن قرارا إستراتيجيا مثل هذا لا يمكن أن يتم دون تنسيق (أميركي – إسرائيلي)، أما الأهداف من التعجيل في التخلص من عرفات فهي أيضا ليس أجندة سرية، فإسرائيل واضحة معنا كما لم تكن من قبل، ومن أهم هذه الأسباب:

أولا: عرفات يعتبر بنظرهم مرحلة وليس فقط شخصا، وهذه المرحلة لا يمكن أن تنسجم أو لا تريد أو لا تستطيع الوصول إلى تسويات مرحلية تتوافق مع الرؤى الإسرائيلية والترتيبات الأميركية.

 

"
شخصنة الأزمات وتضخيمها ومحاولة الأميركان وإسرائيل تقديم نماذج التحطيم المعنوي للرموز الوطنية والإسلامية يثبث قصورهم عن فهم وإدراك العمق الكامن للحقوق الفلسطينية في الوجدان الشعبي العربي والإسلامي
"

ثانيا: سيطرة تيار فلسطيني يتوافق مع المطالب الإسرائيلية ويقضي على المقاومة، لا يمكن أن يتم ما دام عرفات حيا، فهو يتمتع بالشرعية الكافية، التي لا تفلح معها المحاولات التي قام بها المناوئون له لتهديد سيطرته ودفعه بالتالي للتنحي.

 

ثالثا: التخلص من عرفات رسالة للقيادة الفلسطينية والعربية بأنه لا يمكن الوقوف في وجه المخطط الأميركي الإسرائيلي، وأن ما حدث لصدام وعرفات يمكن أن يحدث لأي عثرة في وجه هذا المخطط.

 

رابعا: إسرائيل لا تملك سياسيا ما تعطيه للفلسطينيين، والمطلوب وجود قيادات فلسطينية ضعيفة تعقد تسويات مرحلية ووعودا نهائية غامضة يمكن التنصل منها إما باهتزاز شعبية هذه القيادات وتبديلها كل حين، أو ارتمائها التام في الدائرة الإسرائيلية وتعلق وجودها ومصيرها بالإرادة والحماية الإسرائيلية ومحاولة تطبيق النماذج الأفغانية والعراقية هنا.

 

خامسا: إن لم تفلح إسرائيل في كل ذلك فإنها تراهن على تذكية خلافات الزعامة ما بعد عرفات بتشجيع طرف على طرف، مع إتمامها خطتها الانفصالية كما تريد، وتحويل الفتنة الفلسطينية إلى الدول العربية القريبة مصر والأردن، بحيث تأخذ إسرائيل ما تريد وترحل المشكلة الفلسطينية للدول العربية القريبة، وبذلك تنهي القضية الفلسطينية وتؤمن لذاتها عمقا أمنيا وجغرافيا وديمغرافيا في العمق الفلسطيني، وبضغوط أميركية تتوقع إسرائيل أن تتقبل الدول العربية هذا مرغمة.

 

إن شخصنة الأزمات وتضخيمها ومحاولة الأميركان وإسرائيل تقديم نماذج التحطيم المعنوي للرموز الوطنية والإسلامية يثبث قصورهم عن فهم وإدراك العمق الكامن للحقوق الفلسطينية في الوجدان الشعبي العربي والإسلامي، وبالتالي قدرة هذه الشعوب على تجاوز محنها والتصدي للقاهرين لإرادتها.


ــــــــــــــــــ
كاتب فلسطيني
إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان