الحكم الصالح.. بقايا حلم وبداية كابوس

أكبر أخطاء أميركا في تطور (أو تحلّل) ما أسمته مبادرة إصلاح الشرق الأوسط ليس أنها حاولت ركوب موجة التوق الديمقراطي لدى الشعوب العربية, فذلك كان سيرسيها على شاطئ صلب, بل إنها فقدت بوصلتها الإستراتيجية تماماً إلى حد أن ما تظن أنه شطارة ومهارة لعب على الحبلين أدى إلى أن تدخل حلقة ردود الفعل لأفعال لا تفهم كنهها لأنها لا تفهم فاعليها.
جذور هذا الخطأ الأميركي الإستراتيجي بدأت قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاماً مع هنري كيسنجر ونظريته القائلة إن أميركا لا تحتاج لسياسة خارجية, ولا لدبلوماسية, فقط "لإدارة أزمات" !! وبالفعل لم يعد لأميركا منذ ذلك الحين سياسة خارجية.
وإذا كان ما روج لنظرية كيسنجر لدى الأميركان (فيما يتعلق بالعالم العربي موضوع مقالتنا هذه) هو ما بدا وكأنه إنجاز حققه كيسنجر في اختراق مصر لصالح إسرائيل, فإن هذا, يعتبر أولاً: خدمة سياسية لإسرائيل وليس لأميركا التي فقدت كامل الشارع العربي (أو ما كان تبقى لديها منه).
وثانياً: ما اخترقه كيسنجر كان حالة فراغ سياسي في مصر بعد رحيل زعيمها التاريخي عبد الناصر فجأة. والفراغ لم ينشأ فقط لأن أنور السادات أودع في السجن, حرفيا ومجازياً, كل التيارات السياسية وكل قيادات الرأي بدءاً بالسياسيين وانتهاء بالشعراء والفنانين, بل لأن السادات نفسه لم يشكل بديلاً سياسياً لكل هذا الذي صادره ولا لأي جزء منه, وإنما مثل حالة "خواء" سياسي.
" قد يكون اغتيال السادات أول "فعل" شعبي عربي في اتجاه التغيير, والأرجح أنه لم يفهم على أنه كذلك من قبل الساسة الأميركان, بل تم إدراجه في قائمة التعميمات الساذجة المسماة "التطرف والإرهاب" " |
والطريف أن كيسنجر نفسه يعرف هذا عن السادات وهو ما استثمره ليستدرجه إلى طريق لا عودة له بعدها إلى مصر والأمة العربية. حينها توقعنا مصير السادات المحتوم, دون أن نزعم أننا نقرأ الأبراج أو يُكشف لنا الغيب, كما فعل المتنبئون باغتيالات مشابهة هذا العام.
ومعنى يقيننا هذا الذي لم يخطئ, هو أن الذين قتلوا السادات ليسوا الإسلاميين المتطرفين, كل ما حصل أن هؤلاء سبقوا غيرهم إلى هذا. فتصفية السادات كانت الخطوة التالية المحتومة, سواء أدرك ذلك أم لم يدركه كيسنجر, صاحب نظرية "الخطوة خطوة"!!
وقد يكون اغتيال السادات أول "فعل" شعبي عربي في اتجاه التغيير, والأرجح أنه لم يفهم على أنه كذلك من قبل الساسة الأميركان, وفي مقدمتهم كيسنجر مهندس كامل المرحلة حتى احتلال العراق, بل تم إدراجه في قائمة التعميمات الساذجة المسماة "التطرف والإرهاب", ذات القائمة التي أدرج فيها بن لادن والزرقاوي, وانتهى بهما الأمر كأعداء أنداد "للقوة العظمى" و"للقطب الأوحد" في عقر داره وفي قلب مصالحه!!!
كل هذا لأن أميركا لا تقرأ الفعل في سياقه, في إطار فهم الفاعل وفهم التاريخ. وقرار أميركا بأن تتوقف عن القراءة جاء يوم تبنيها نظرية كيسنجر بأن أميركا ليست بحاجة لسياسة خارجية.
ولكي نفهم لماذا يعتقد كيسنجر أن هذا ينطبق على عالمنا العربي (هو أول من أسماه شرق أوسط, ومنه تبلور مشروع بيريز بشأنه وجاءت مبادرة بوش لإصلاحه), علينا أن نتذكر أن كيسنجر يعتقد أن السياسة في العالم العربي هي سوق كل شيء فيه قابل للبيع, وبأن هنالك بائعا واحدا هو "شيخ القبيلة" الذي إن تمنع فلأجل المساومة, وهو يبيع في النهاية!!
وهكذا باع أنور السادات, ولكنه دفع الثمن ولم يقبضه. فالسادات, مثل أميركا التي سار في ركابها خطوة خطوة, أصر على ألا يفهم مدلول الفعل الذي لا يتأتى إلا من فهم الفاعلين وفهم التاريخ, فكانت كلماته الأخيرة: مش معقول!!
وعودة إلى شرق أوسط كيسنجر وبيريز (في تصور أميركا), أو العالم العربي (في رؤيتنا نحن), وما قيل في الإعلام الرسمي من أن الأنظمة العربية رفضت مبادرة بوش لإصلاحه, بينما قال الإعلام الشعبي إن الأنظمة خضعت للضغوط المتضمنة فيها.
وكلا الأمرين صحيح, فغالبية الأنظمة لا تريد الديمقراطية والشفافية والإصلاح لأنها تعتقد أن هذا في غير مصلحتها, وغالبيتها, إن لم نقل كلها, تخضع لأميركا بتفاوت يتناسب عكسياً مع شرعيتها أو قبولها شعبياً داخل أقطارها. والضغط على الأنظمة جزء من أهداف المبادرة!!
ولكي تخرج الأنظمة العربية من مأزق المبادرة مع ضمان إبقاء شيء من ماء الوجه لأميركا عند الشعوب العربية, تم الاتفاق على أن يعلن الطرفان وجوب (حسب النص العربي) وأفضلية (حسب النص الأميركي) أن تكون مبادرة الإصلاح نابعة من الداخل وليست مفروضة من الخارج.
" لكي تخرج الأنظمة العربية من مأزق المبادرة مع ضمان إبقاء شيء من ماء الوجه لأميركا عند الشعوب العربية, تم الاتفاق على أن تكون مبادرة الإصلاح نابعة من الداخل وليست مفروضة من الخارج " |
ولا يهمنا هنا ما جرى من تعيين لنساء رجال الحكم في مواقع بالحكم, ولا ما عقد من مؤتمرات تحت رعاية رجال الحكم ونسائهم.. ما يعنينا هو هذا التغيير الذي أُدخل على تعريف الإصلاح السياسي والذي استبدل كلمة "الديمقراطية" بعبارة "الحكم الرشيد" أو "الحكم الصالح"!! وهذا إن بدا وكأنه مقتل طموحات الشعوب العربية للديمقراطية, مرحلياً, فإنه في الحقيقة مقتل مصالح أميركا في المنطقة "إستراتيجياً " وعلى المدى البعيد!!
والسبب أن أميركا لا تفهم الفاعلين ولا تقرأ التاريخ. "فللحكم الصالح" في التاريخ مفهوم بات غائبا عن أدبيات السياسة في الغرب منذ قرون, فهذا التعبير بات جزءاً من تاريخها القديم السابق لكل أشكال الديمقراطية الغربية منذ بواكير نشوئها وحتى تبلورها في أشكالها الحالية.
بل إن تعبير "الحكم الصالح" لا نجده عندهم إلا في أدب الأطفال, في حكايا الملك الصالح والملكة الشريرة ومرآتها الناطقة والأميرة المسحورة النائمة بانتظار الأمير المخلّص.. وينتهي الأطفال إلى اكتشاف أنه مجرد خيال لاعلاقة له لا بالواقع ولا بالتاريخ, ويأسفون على الكذبة الحلوة التي لم يعد بالإمكان تصديقها, تماما كما يأسفون على سانتا كلوز!!
أما في التاريخ العربي, فإن الماضي متصل بالحاضر على امتداد أكثر من أربعة عشر قرناً. فمن الخليفة العادل عمر الفاروق, إلى عمر بن عبد العزيز (الذي يقرن بابن الخطاب رغم الفروق الجذرية!!) إلى المعتصم (الذي لبى نداء امرأة واحدة على حدود بلاده وسيّر لها الجيوش وقهر جحافل الروم!!) إلى هارون الرشيد (الذي بدت أوروبا بدائية في ظل الحضارة التي أوصل إليها إمبراطوريته العربية) إلى صلاح الدين (محرر بلاد العرب من الغزاة التتار) إلى محمد علي (صاحب رسالة التنوير وأبي النهضة العربية) إلى عبد الناصر(رمز الوحدة العربية ونظافة اليد في الحكم) إلى صدام حسين (مجسد حلم أن نفط العرب للعرب ووريث صلاح الدين عسكرياً في نظر الشعوب حتى اقترن الاسمان).. والأخير شارف حد الأسطورة وهو حي وفي أواخر القرن العشرين وليس في خرافات موروثة من قرون مضت.
فقد عمت العالم العربي روايات عن ظهور اسمه مضيئاً في السماء, حين كانت جيوش التحالف الثلاثيني تحشد ضده. أما من كانت لهم تحفظات عليه من الكتاب السياسيين, فقد عاد و"تطهر" في نظرهم, بل وباتت سيرة عائلته تقرن بمأساة الحسن والحسين, حين قتل ولداه في قتال غير متكافئ لم يستسلما فيه وآثرا "الشهادة".
وصدام نفسه أصبح "شيخ الأسرى" العرب عند المحتلين لأرض العرب في العراق وفلسطين, واستحضر معارضوه السابقين قصائد رثاء قيلت في عبد الناصر عند وفاته من قبل شعراء كانوا معتقلين في سجونه أثناء حياته, وفي مقدمتها قصيدة الشاعر الشعبي أحمد فؤاد نجم التي يقول فيها "إن كان جرح قلبنا, كل الجراح طابت" (أي شفيت)!!
هذا التراث يتشارك فيه التياران الأقوى على الساحة العربية: القوميون والإسلاميون، وهما لا يختلفان فيه إلا حديثاً جداً, على عبد الناصر وصدام بالذات. والسبب ليس لأن لهذين الزعيمين خلافات وصدامات مع الإسلام السياسي, فلهما صدامات مع غيره وأحدثوا جراحاً كلها "طابت".
" حلم الشعوب العربية في الديمقراطية هو أكبر من مجرد "أزمة" بالنسبة لأميركا, وهو أسوأ كوابيسها على الإطلاق, وعندما يتحقق ستكتشف أميركا أن النهج الكيسنجري في "إدارة الأزمات" قد ورطها خطوة خطوة فيما هو أكبر من حرب فيتنام " |
الصدام هو لأن الإسلاميين بالذات ليسوا معارضة "ديمقراطية" كما يحتم الحكم الشمولي لهذين أن تكون المعارضة (فالنهج القومي لا يجرؤ أحد على الجهر بالاعتراض عليه), وإنما هم معارضة "إحلالية".. يريدون الحلول محل هذين ومحل كل الحكام العرب, ويزعمون أنهم المؤهلون أكثر ليكونوا "الحكام الصالحين" أي "الديكتاتوريات العادلة"!! وتبقى المعارضة العربية الحقيقية هي تلك الفئة المتنورة التي تأثرت بالحضارة الغربية في مكونيها الرئيسيين: العلم (العقلانية) والديمقراطية, وعلى يدها بدأت النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر وتوارثتها عبر أجيال مثقفيها.
هذه الأقلية تمكنت في العقود القليلة الماضية من حشد أغلبية كبيرة في الشارع العربي, تضم الليبراليين والقوميين واليساريين وحتى رجل الشارع البسيط, وراء مطلب واحد مشترك هو الديمقراطية.
هؤلاء عمر دعوتهم الحداثية قرن واحد, ولكنهم قووا وانتشروا بفعل إقناع العقل وقوة المنطق, وليس بهالة قداسة أو سحر أسطورة تجيّش "مجاهدين" إسلاميين أو "فدائيين" قوميين.
الآن حين يخذل العالم الديمقراطي هؤلاء, ويقال لكل من ساروا وراءهم إن الديمقراطية عندما تترجم للعربية تصبح "الحكم الصالح لحكام فاسدين".. فإنهم لا يملكون إلا سحب دعوتهم الفتية, وانتظار "خليفة" مهدي منتظر, أو زعيم قومي مخلّص, يضيء اسمه سماء ليل الأمة المظلم!!
حلم الشعوب العربية هذا, هو أكبر من مجرد "أزمة" بالنسبة لأميركا, هو أسوأ كوابيسها على الإطلاق.. وعندما يتحقق ستكتشف أميركا أن النهج الكيسنجري في "إدارة الأزمات" قد ورطها, خطوة خطوة, فيما هو أكبر من حرب فيتنام التي استنزفتها لأربع سنوات دامية.. ستكتشف أنها على امتداد خمسة وثلاثين عاماً قد استنزفت بنفسها كل ما يلزمها للعب دور ذي شأن في "السياسة الخارجية" حين أضاعت بوصلتها!!
ـــــــــــــ
كاتبة أردنية
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.