نموذج للإصلاح من الداخل
على عكس ما توقع الأستاذ محمد حسنين هيكل قبل شهور قليلة فقط, أثبتت تركيا أنها لا تحاول أن تكون اللاعب الرئيسي في الشرق الأوسط, بل وأثبتت أنها تريد أن تنزع عن نفسها صفة الشرق أوسطية وتأخذ صفة الأوروبية.
والصفتان حتماً متناقضتان حالياً, فلكي تكون أوروبياً يجب أن تكون ديمقراطياً ترضى بحكم الأغلبية وتحافظ على حقوق الأقلية أوالأقليات وتحترم حقوق الإنسان عموماً, وحقوق المرأة بالذات, وتوقف عسكرة السلطة وحكم العسكر.
وهذا هو ما يسمى الآن "بالإصلاح", ويؤرق منام الحكام العرب !! يكرهون التغيير لأن معظمهم لا صلة له بالحداثة ويعتقد أنه لن ينكمش فقط إلى حجمه الطبيعي في ضوئها, بل سيموت حتماً .. وبالمقابل يخشون أن لا يتغيروا لينسجموا مع متطلبات الإصلاح فيتم تغييرهم (أي استبدالهم), كما حذر ولي عهد إمارة دبي, بجرأة وصراحة تثيران الإعجاب بقدر ما تبعثان على الأمل, ولو في ذلك الجزء القصي من جنوب الجزيرة العربية وخليجها الذي بدأت تظهر فيه منارات تبرز حجم الظلام الذي تعيشه الدول العربية الأكبر والكبرى شمالها, بعد أن كانت تلك المنارات والمحجات طلباً للحداثة والتنوير !!
" الإصلاح يؤرق منام الحكام العرب, إنهم يكرهون التغيير لأن معظمهم لا صلة له بالحداثة ويعتقد أنه لن ينكمش فقط إلى حجمه الطبيعي في ضوئها, بل سيموت حتماً " |
والطريف أن هذا الإصلاح الذي أنجزته تركيا, هو وحده "النابع من الداخل", لدرجة أن أوروبا بدت وكأنها تضع العراقيل أمام الإصلاح بدلاً من تشجيعه, انتهاء بربط هذا الإصلاح "البنيوي" بمتطلب سياسي آني كالاعتراف بقبرص, أما الغريب في الأمر الذي فاجأ العالم الغربي كما الإسلامي إلى حد ما, فهو أن هذا الإصلاح جاء على يد قيادة "إسلامية " في منبتها وتنشئتها الحزبية وفي نهج حياتها الشخصية.
وإذا كان بعض الاشتراكيين يقولون بأن الإسلام أكثر الدعوات العالمية اشتراكية, فقد أثبت زعيم (استحق اللقب بجدارة) تركيا الشاب أن الإسلام ليبرالي ديمقراطي أيضاً !! هذا لمن يريد من الحكام العرب أن يختبئ خلف "خصوصية الهوية الإسلامية" ليبرر نظامه الرجعي, أو يدعي شرعية حكم ديني يداري بها غياب الشرعية الديمقراطية عنه, أما لمن يتخفى لتجنب الإصلاح, وراء مزاعم الحفاظ على "الهوية القومية" أو الكيانية القطرية التي تسمى زوراً "وطنية", فإن ما فعله رجب طيب أردوغان هو من الأفعال الأكثر خدمة لقوميته ولوطنه تركيا.
بل إنه في الحقيقة يسير على نهج سلفه مصطفى أتاتورك (أبو الأتراك), دون السقوط في مثالب نهج أتاتورك التي أدت إلى تراجع مشروعه التحديثي وسهلت الطعن فيه, خاصة التغريب وإنكار حقوق الأقليات والحكم بالقبضة الحديدية مما أدى إلى عسكرة الحكم.
وحكم العسكر(التسمية التجميلية والتطمينية له في العالم العربي هي "المؤسسات الأمنية") أودى فيما بعد بكل ما حاول أتاتورك بناءه من صورة حضارية للأتراك, لكونه يناقض معايير الديمقراطية وحقوق الإنسان بل ينقضها تماماً !!
وفي ضوء غياب معارضة تذكر لنهج أردوغان, وحتى تراجع الدعم الكبير الذي كان يتمتع به سلفه الأصولي أربكان, فإن الحقيقة التي تفرض نفسها هي أن ما يسمى بالإسلام السياسي هو سياسة أولاً, تماما كما أن وجود أحزاب ترفق وصف "مسيحية " باسمها, أو تتضمن الإشارة الدينية بأي لفظ آخر, من مثل "المحافظين الجدد", هي أحزاب سياسية أولا وأخيرا.
فالدين شأن غيبي لا يخضع للعقل والمنطق بل "للإيمان" الذي هو حالة وحاجة وجدانية. وبالتالي لا يمكن أن يمثل الدين "أيديولوجية " سياسية, ناهيك عن برنامج عمل لمواجهة قضايا 90% منها لم يكن له وجود عند ظهور الأديان .. على الأقل ليس ضمن تشابكاتها وتفرعاتها وتعقيداتها الحالية.
" إذا كان بعض الاشتراكيين يقولون بأن الإسلام أكثر الدعوات العالمية اشتراكية, فقد أثبت زعيم تركيا الشاب أن الإسلام ليبرالي ديمقراطي أيضاً !! " |
وكل صورة تزمت أو تطرف لأي جماعة أوحزب ديني, سواء كان في أمر اجتماعي أو سياسي, هي محض استغلال وتوظيف للدين في غير إطاره ومجاله, وأحياناً كثيرة من جهات معادية له, أو غير مؤمنة أو غير عابئة به إلا من زاوية وبدرجة انتفاعها منه.
وإذا كان بعض هذا تم الاعتراف به نتيجة دعم وتوظيف أميركا لمؤسسات وأحزاب بل ومليشيات دينية إسلامية لأغراض التصدي بمد عقائدي ديني في مواجهة المد العقائدي الماركسي الدنيوي, فإن صورة أدق وأكثر إثارة للريبة تظهر في تدخل أميركا, ليس فقط باسم حماية الأقليات الدينية المسيحية, فهذا أمر يمكن أن يفهم ضمن حقوق الإنسان وحرياته, ولكن في شأن يسيء لصورة بعض الأقليات المسيحية في ما يتعلق بمحافظتها على تلك الحقوق الإنسانية الأساسية. وهذا ما حدث في مصر بخصوص زوجة الكاهن القبطي, السيدة "وفاء" حين حاولت إشهار إسلامها.
وهو أمر أجج فتنة طائفية تمت تغذيتها بشائعات متناقضة, وانتهت المظاهرات والاعتصامات باقتياد السيدة وفاء قسراً على أيدي قوات الدولة, إلى بيت معزول "للمكرسات" وضع تحت حراسة مشددة, ومنع الجميع من الدخول إليه باستثناء رجال الدين المسيحي طوال ستة أيام, أخرجت بعدها تلك السيدة مغطاة الرأس بوشاح يحمل صورة السيدة مريم وعلى صدرها يتدلى صليب كبير, برفقة قساوسة ومحامين أقباط فقط, لتمثل أمام المدعي العام بضع دقائق أعلنت فيها بصوت خفيض, أنها ولدت وستبقى طوال حياتها مسيحية.. وبعدها اقتيدت إلى الدير !!
ولا ندري ما جرى داخل بيت "المكرسات" المقفل, ولكن تعليق صليب كبير في رقبة "وفاء" يذكرني ببطلة رواية "الحرف القرمزي" التي حكمت عليها الكنيسة بارتداء الحرف الأول لكلمة "زنا" كبيراً على صدرها طوال حياتها.
واقتياد وفاء إلى دير بعد نطقها لتلك الكلمات القليلة التي تحمل معنى التوبة, تذكّر بإيداع من يتهمن بالزنا في الدير بقية حياتهن ليكفرن عن ذنبهن!! أي أن الكنيسة المصرية أعيدت, بفعل فاعل يهمه زرع الفتنة بين مسيحيي ومسلمي مصر, إلى ممارسات القرون الوسطى, والتي بسببها أسميت تلك القرون بعصور الظلمة!!
وهذا حتماً أضر بصورة الكنيسة والمسيحية لدى الناس العاديين على الأخص, كما لدى دعاة حقوق الإنسان, بأكثر مما كان للكنيسة والمسيحيين أن يتضرروا بتغيير سيدة لدينها!!
" رغم تناول تقرير التنمية البشرية للتطرف الديني الذي تزعم مصر, كالعديد من الأنظمة العربية الأخرى, أنه الإرهاب الذي يجعلها تحجم عن الإصلاح, فإن مصر تؤثر عدم نشر التقرير على أن تبقى فيه الإشارة إلى خطر توريث الحكم في مصر!! " |
المهم هنا أن تلك "الأيدي الخارجية" المجمع من عقلاء مصر, مسيحييهم ومسلميهم, على أنها وراء الفتنة, أعادت خلق أصولية مسيحية متطرفة, تماماً كما سبق أن خلقت أصولية إسلامية متطرفة تزعم الآن أنها تمثل "الإرهاب" الذي جاءت هي لبلادنا لتقتلعه من جذوره !! العيب إذنً فينا نحن, وأميركا وإسرائيل ستظل تستثمره لصالحها بغض النظر عن مصلحة المسلمين والمسيحيين !!
والحكومة المصرية التي سمحت بكل هذا, أو زعمت العجز عن منعه, لم تعجز عن منع صدور التقرير الثالث للتنمية البشرية عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وهنا يبدو التعاون والتوافق مع أميركا واضحاً, لدرء هذا الشر المتمثل في تقرير علمي لأكاديميين عرب مستقلين, يتناول موضوع الحكم وإساءة الحكم والمعوقات القانونية والمؤسسية والدينية التي تعيق الإصلاح السياسي والمشاركة السياسية في العالم العربي, ويدعو إلى الالتزام بقواعد الحكم الرشيد الذي من شأنه تخفيف حجم الفساد.
ورغم تناول التقرير للتطرف الديني الذي تزعم مصر, كالعديد من الأنظمة العربية الأخرى, أنه الإرهاب (موافقة أميركا بذلك) الذي يجعلها تحجم عن الإصلاح, فإن مصر تؤثر عدم نشر التقرير على أن تبقى فيه الإشارة إلى خطر توريث الحكم في مصر وحال حرية التنظيم في المجتمع المدني والسياسي !!
أما أميركا التي هددت, في حال نشر التقرير, بخفض مساهمتها في ميزانية برامج الأمم المتحدة الإنمائي البالغة 70% من تلك الموازنة, فاعتراضها هو على المقدمة التي تدين ممارسات الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية, وكذلك احتلال أميركا للعراق وأثر ذلك الاحتلال السلبي على الحريات في العالم العربي.
ولكن المفارقة تكمن في أن أميركا استندت إلى التقرير الأول من سلسلة تقارير البرنامج الإنمائي عن التنمية البشرية الصادر بتاريخ 2002 , لدعم دعواتها إلى الإصلاح في العالم العربي وفي صياغة مشروع الشرق الأوسط الكبير !!
ومعنى هذا أن أميركا ليست جادة أبداً في دعوتها تلك, وأن تحالفاتها لصالحها وصالح إسرائيل تطغى على كل اعتبار, ولو كان زوال مصداقيتها وتناقضها مع ذاتها .. و فيما يعني الشعب الأميركي بشكل خاص, كذبها بشأن حربها على "الإرهاب " الديني وحملاتها لخلع "الدكتاتوريات" في العالم العربي وإرساء ديمقراطيات "نموذجية" تحتذي بها بقية دول الشرق الأوسط. وهي حرب تخوضها بأبناء الشعب الأميركي الذين يقتلون كل يوم أو يشوهون جسدياً ونفسياً !!
" بعد أن تصبح تركيا دولة ديمقراطية حضارية تعيش في أمن ورفاه, ستعود حتماً للعب دور كبير في الشرق الأوسط والعالم العربي, ولكن من منطلق كونها دولة كبرى من دول الاتحاد الأوروبي " |
الدعوة للديمقراطية والإصلاح ثبت أنها لم ولن تأتي من أميركا ذات الصوت العالي. ولكنها أتت من أوروبا. ولكن الإصلاح لن يأتي من داخل أنظمة عربية تستقوي في عسفها وفسادها بأميركا, بل وتمارس نيابة عن أميركا قدراً غير مسبوق من البطش بشعوبها يصل حد إقامة معتقلات تعذيب خاصة لمن تريد أميركا استجوابهم أو عقابهم دون أن تتعرض لمساءلات أخرى كالتي أثارتها سجون أبو غريب وأفغانستان وغوانتنامو وغيرها.. لهذا يجب أن تتبنى الشعوب برامج الإصلاح والتطهير من العسف والفساد!!
أفضل ما حدث لتركيا أننا أخرجناها من عالمنا العربي, وهي حتما غير راغبة في العودة إليه, وزيارة أردوغان لسوريا ليست "لتحسين أو تعزيز العلاقات", بل لإقفال ملف الأكراد مما يشكل مصلحة للطرفين.
وإذا كان أول ما أدارت تركيا ظهرها له بعد خروجها من بلادنا هو الحرف العربي, رغم أنه لغة القرآن, فإن هذا قد يكون مؤشراً على خروج من نمط تفكير ومن نمط إفتاء وتبرير أورثنا كل أشكال الأصوليات المتطرفة والدكتاتوريات.
وأسوأ ما حدث لأميركا بالمقابل, هو السير إلى مستنقعنا بخيارها. وينطبق عليها المثل الإنجليزي القائل "الأغبياء يسيرون بمارش عسكري حيث لا يجرؤ الشجعان على وطء الأرض" !! أما أفضل ما يمكن أن يحدث لنا, فهو أن لا تظل أرضنا مستنقعات راكدة يحوم فوقها بعوض الحكام وتتعفن في جوفها جثث قناصي الفرص !!
أما تركيا, فبعد أن تصبح دولة ديمقراطية حضارية تعيش في أمن ورفاه, ستعود حتماً للعب دور كبير في الشرق الأوسط والعالم العربي, ولكن من منطلق كونها دولة كبرى من دول الاتحاد الأوروبي, ولكون زعمائها شرعيين وبالتالي كبارا, مثل أردوغان .. وليسوا ديوكاً على مزابل تخلفها أميركا وراءها !!
ــــــــــــــــــ
كاتبة أردنية
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.