العولمة البديلة في مواجهة العولمة الرأسمالية

العولمة البديلة في مواجهة العولمة الرأسمالية/ تحليلات

إبراهيم غرايبة

-العولمة ظاهرة قديمة متجددة
-الكون تهدده العولمة الرأسمالية

-مناهضة العولمة الرأسمالية أو العولمة البديلة

العولمة الرأسمالية تواجهها عولمة مقاومة ونضال، هذه هي فكرة الجماعات المناهضة للعولمة، وكما ترمز "دافوس" للعولمة الرأسمالية أضحت مدينة بورتو أليغري في البرازيل رمزا مركزيا لمناهضة العولمة.

وقد نجحت جماعات مناهضة العولمة في بناء شبكة عالمية تضم آلاف الجمعيات وملايين المتطوعين من المتضررين من العولمة أو المناهضين لها من جماعات اليسار والعدالة الاجتماعية ودعاة حماية الثقافات والصناعات الوطنية، وأنصار البيئة والسلام، ومجموعات وطنية تدعو إلى اقتصاد وطني قائم على دور كبير للدولة والقطاع العام خاصة في الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي، واتحادات ونقابات عمالية ومهنية ذهبت الأوضاع الاقتصادية الجديدة والشركات العابرة للقومية بحقوقها ومكتسباتها.

العولمة ظاهرة قديمة متجددة

"
أول تطبيقات العولمة كانت على يد الفينيقيين الذين طوروا وسائل النقل البحري والكتابة والتجارة وأنشؤوا أول قوة عالمية يعرفها التاريخ قائمة على التجارة والمواصلات والمعرفة
"

ربما تكون العولمة قد بدأت بالتشكل وفق معطيات جغرافية سياسية تعاملت معها الحضارة الإنسانية، وأول تطبيقاتها كانت على يد الفينيقيين، الذين طوروا وسائل النقل البحري والكتابة والتجارة، وأنشؤوا أول قوة عالمية يعرفها التاريخ قائمة على التجارة والمواصلات والمعرفة.

وتواصلت بعد الفينيقيين حضارات عالمية أخرى مثل اليونان والرومان والفرس والصين والهند والحضارة العربية الإسلامية، بدولها المختلفة وآخرها الدولة العثمانية، ثم ظهرت القوة العالمية الأوروبية بدءا بإسبانيا والبرتغال ثم هولندا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والاتحاد السوفياتي وأخيرا الولايات المتحدة التي كسبت جولة مهمة في الصراع العالمي في أواخر الثمانينيات، ومازالت هي الدولة الأكثر قوة وتأثيرا في العالم منذ ذلك التاريخ.

وبدأ الموجة الراهنة للعولمة منذ العام 1980 وارتبطت بتقدم تقنيات المعلوماتية والاتصال، وضاعفت أثناءها مجموعة من الدول يبلغ عدد سكانها 3000 مليون نسمة نسبة تجارتها ودخلها، واتسعت المشاركة في التصنيع العالمي، وارتفعت معدلات العمر والالتحاق بالمدارس.

الكون تهدده العولمة الرأسمالية
تظهر دراسات وتقارير دولية كثيرة جدا مثل تقرير التنمية البشرية وتقرير البنك الدولي وتقرير منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة أن العولمة الرأسمالية في حالتها القائمة والسائدة تهدد على نحو خطير الدول والمجتمعات والبيئة والكون، ويصل حجم هذا التهديد إلى الكارثة والخطر.

كما تكشف شبكات جماعات المناهضة للعولمة الرأسمالية عن معلومات مذهلة حول ما تلحقه الأنشطة التابعة للعولمة الرأسمالية من تدمير فظيع يلحق باقتصاديات الدول والمجتمعات وثقافتها ونمط حياتها ومواردها وأنظمتها الاجتماعية والسياسية، والبيئة والهواء والأنهار والأرض والغابات والصحارى والبحار والمحيطات والجزر وجوف الأرض والموارد العالمية.

وتتفق التقارير والدراسات الدولية مع كثير مما تدعيه جماعات مناهضة العولمة حول التدمير الذي ألحقته العولمة الرأسمالية بسيادة الدول واقتصادياتها وثقافتها وبالبيئة العالمية والمحلية.

حتى في الدول الغربية قائدة العولمة حدثت أضرار كبيرة بالاقتصاد والضمان الاجتماعي وحقوق العمال والديمقراطية، وربما تكون أقوى جماعات مناهضة العولمة وأشدها فعالية بعد أميركا اللاتينية في أوروبا والولايات المتحدة.

ففي الولايات المتحدة الأميركية نفسها تبدو بوضوح مؤشرات الفجوة والتراجع الاجتماعي، ذلك أن 400 أميركي يملكون 12% من الناتج المحلي الإجمالي، أي بقدر ما يمتلكه 100 مليون أميركي، وأصبحت القروض والديون منذ العام 1990 ثلاثة أضعاف ما كانت عليه.

"
في الدول الغربية قائدة العولمة حدثت أضرار كبيرة بالاقتصاد والضمان الاجتماعي وحقوق العمال والديمقراطية
"

فقد قفزت من 185 مليار دولار إلى 584 مليار دولار، كما هبط معدل الادخار الشخصي خلال الفترة نفسها من 7% إلى 2%، ويعادل متوسط أجر واحد من الرؤساء التنفيذيين للشركات 326 مرة الأجر المتوسط للعامل، وأصبح الحد الأدنى لأجر العامل أقل بنسبة 20% عما كان عليه عام 1968.

ويكشف تقرير البنك الدولي في استطلاع أجراه وشمل 20 ألف شخص في 20 دولة قلقا متزايدا بين الناس من تأثير العولمة على الثقافة وحقوق الإنسان والبيئة والعدالة الاجتماعية، وبؤكد البنك الدولي أنه دون سياسات ترعى التقاليد المحلية فإن العولمة تقود فعلا إلى هيمنة الثقافة الأميركية.

كما أن العولمة قد تضعف الحكم، وتجعل بعض أدوات السياسة غير فعالة، وثمة ادعاءات في بعض الدول النامية بأن بعض الشركات الأجنبية تلجأ إلى الضغط خلف الكواليس والرشوة للحصول على امتيازات معينة في مجال الاتصال والتعدين على سبيل المثال.

وتتسبب سبع دول صناعية في إطلاق أكثر من 70% من غاز ثاني أكسيد الكربون في العالم، والولايات المتحدة التي تشكل أقل من 4% من سكان العالم تطلق أكثر من 25% من الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، وهذا يحتاج إلى جهد عالمي لخفض إطلاق الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وكان بروتوكول كيوتو الذي رفضت الولايات المتحدة أن توقع عليه التزاما دوليا عالميا لمعالجة سخونة الأرض.

وتبدي الدول الفقيرة -حسب تقرير البنك الدولي- غير القادرة على الاندماج في الاقتصاد العالمي والتي يعيش فيها حوالي 2000 مليون نسمة قلقها من التهميش الاقتصادي، ومن قدرتها على السيطرة على أراضيها، فالفقر والاعتماد على تصدير المواد الأولية والتراجع الاقتصادي تغذي الصراعات المسلحة الداخلية، وغالبا ما تفتقر هذه الدول إلى الخدمات العامة، ما ينذر بتدهور الوضع الاجتماعي كما حدث في بعض الدول الأفريقية.

وأظهرت تقارير منظمة الأغذية والزراعة الدولية أن العولمة والتحرر الاقتصادي تزيد من التصحر والتلوث خاصة الأنشطة القائمة على قطع الأشجار كما يحدث على نطاق واسع في المناطق الاستوائية والاعتداء على الأراضي الزراعية..

وأدى النظام الاقتصادي العالمي الجديد إلى أزمة ديون مالية أثقلت كاهل الدول، ومن أخطر مفارقات قضية الديون أن قيمتها كانت عام 1980 تساوي 529 مليار دولار، وتزايدت عام 2001 إلى 1956 مليار دولار، لكن ما سدد في الفترة نفسها كان 3784 مليار دولار.

وتؤكد الحقائق الثابتة بالتجربة وجود عدم استقرار مالي في البيئة المحدثة مؤخرا لتحرير أسواق رأس المال أكبر بكثير من السابق، وقد حلت في السنوات الأخيرة اضطرابات مالية، مثل الأزمة التي حلت بأميركا اللاتينية في السنوات 1979–1981، وأزمة ديون الدول النامية التي بدأت عام 1982، والأزمة المالية في المكسيك في العامين 1994 و 1995، والأزمة الآسيوية في العامين 1997 و 1998, وتخلف روسيا عن سداد القروض المعلقة سنة 1998، والانخفاض الشديد في قيمة العملة في البرازيل عام 1999.

ويبدو أن حدة الأزمات المالية وتكرار حدوثها تزايدت في العشرين سنة الماضية، وقد أفضت هذه الأزمات إلى اضطرابات اقتصادية حادة، وارتفاع معدلات البطالة، حتى إنها في كثير من الأحيان تسببت في عودة الفقر إلى الكثير من الأسواق الناشئة.

ويعترف صندوق النقد الدولي أن تدفقات رأس المال غير المقيدة تعرض البلدان للاضطرابات الخارجية، وقد يكون لها أثر في حدوث عدم الاستقرار، والأخطار الناتجة عن التدفقات المفاجئة نحو الخارج فد تكون مفهومة، أما تدفقات رأس المال نحو الداخل تحمل معها أخطارا، فقد تسبب صعوبات في إدارة السياسية النقدية وصعوبات في ضبط التضخم إضافة لما قد يؤثر في استقرار سعر الصرف والتنافسية التصديرية.

"
كان أول ضحية للعولمة الرأسمالية أكثر من 5000 أمة فقدت لغتها وثقافتها وأرضها ومواردها وأدمجت قسرا في حياة لا توافق عليها ولا ترغب بها، ويقدر عدد قتلى الصراعات في الـ50 سنة الفائتة بخمسة ملايين نسمة
"

وجاء في دراسة للصندوق عام 1997 أن هناك سببين يؤديان لإضعاف التفاؤل بمحفظة التمويل، أحدهما: احتمال حصول تغيرات في السوق العالمية للاستثمار، والتغير الحاصل في دورة الأعمال في العالم المتقدم، أو الاضطراب المالي، مثل حصول هبوط مفاجئ في أسعار الأسهم قد يسبب تزايدا كبيرا في بيع الأسهم.

وفي مثل هذه الحال ربما تنضب فجأة تدفقات محفظة الاستثمار إلى دول العالم النامي، وقد تكون عواقب ذلك كارثية، أي تجد دولة نفسها فجأة دون موارد مالية هي بحاجة إليها للحفاظ على مستوياتها الحالية في الاستهلاك والإنتاج.

والسبب الثاني فيتمثل في احتمال أن تتعرض دولة ذات أسعار صرف ثابتة لاعتداءات المضاربين على عملتها، وإذا حدث مثل هذا الهجوم فقد تنشأ حالة من عدم الثبات، ما يؤدي إلى إغلاق الباب بوجه تدفقات رأس المال.

لقد كان أول ضحية للعولمة الرأسمالية أكثر من 5000 أمة فقدت لغتها وثقافتها وأرضها ومواردها وأدمجت قسرا في حياة لا توافق عليها ولا ترغب بها، ويقدر عدد قتلى الصراعات بين الأمم والدول في الـ50 سنة الفائتة بخمسة ملايين نسمة، وأكثر من 15 مليون لاجئ، وأرغم أكثر من 50 مليوناً على ترك مواطنهم وأصبحوا مشردين داخل دولهم وأوطانهم.

مناهضة العولمة الرأسمالية أو العولمة البديلة
يرى المفكر سمير أمين أن التاريخ الطويل للحركات العمالية ومناهضة الاستعمار، وأخيرا الحركة العالمية الاجتماعية صاغ مشاريع جديدة من أجل عولمة بديلة، فالهيمنة الرأسمالية ليست قدرا حتميا ومن أهم ملامح مشروع البدائل: البحث عن تنمية معتمدة على الذات كما هي حركة التنمية ومسارها عبر التاريخ.

فهي يجب أن تخضع لحركة العلاقات الاجتماعية الداخلية ومعايير التنمية الذاتية والتحكم المحلي في إعادة إنتاج قوة العمل، وهذا يفترض أن سياسة الدولة تتضمن تنمية زراعية تنتج فائضا من الطعام بكميات كافية وبأسعار تتناسب مع متطلبات ربحية رأس المال، والتحكم في وسائل تركيز الفائض بما يضمن استقلال المؤسسات المالية الوطنية وقدرتها على توجيه الاستثمار والسيطرة المحلية على الموارد الطبيعية، لتمتلكها الدولة وبقدرة حرة على الاختيار بين استغلالها أو الإبقاء عليها، والسيطرة المحلية على التكنولوجيا بمعنى إمكانية إعادة إنتاجها بسهولة دون الحاجة لاستيراد مدخلاتها الأساسية باستمرار.

ويظهر تقرير "عولمة المقاومة، أوضاع النضال" مجموعة من الأهداف والمجالات التي استهدفتها العولمة الليبرالية الجديدة، ومن أهمها بالطبع النفط، الذي يمثل تحديا سياسيا واقتصاديا وبيئيا وجيوإستراتيجيا، والماء الذي يدخل أكثر وأكثر في إطار منطق السوق النيوليبرالي، فقد أصبح رهانا عالميا، وديون العالم الثالث التي تبدو كقمة جبل الثلج الذي يخفي آليات الاستيلاء على ثروات الجنوب لصالح اللاعبين الماليين التابعين للشمال، وسمحت الأوضاع الدولية خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول بتسارع التسلح العالمي وتدخلات القوى المسلحة الأميركية ومضاعفة مخاطر الحرب والتهديد بها.

"
الهيمنة الرأسمالية ليست قدرا حتميا ومن أهم ملامح مشروع البدائل هو البحث عن تنمية معتمدة على الذات كما هي حركة التنمية ومسارها عبر التاريخ
"

وتهدف حركات النضال الاجتماعي في هذا السياق إلى معارضة الحتمية المفروضة حاليا في مجال الطاقة من أجل تحسين كفاءة استخدام الطاقة والحصول عليها بشروط معقولة، ويدور صراع اليوم بين وجهة النظر التقليدية التي ترى الماء حقا للجميع تشرف عليه السلطات العامة، واعتباره قيمة اقتصادية أو سلعة تخضع لظروف العرض والطلب.

والبنك الدولي أيضا يدعو في تقريره السنوي إلى مواجهة ما يصفه بالآثار الضارة للعولمة، ويدعو إلى برامج تراعي المعايير البيئية، والرعاية الاجتماعية، والحفاظ على الثقافة، وتطوير مناخ استثماري يصاحب الانفتاح الاقتصادي يجعله مفيدا وعادلا، مثل مكافحة الفساد، والتشريعات والسياسات المشجعة على الاستثمار والتنافس التي تمنع الاحتكار، والاستثمار في التعليم، وبناء مؤسسات ومرافق للصحة والضمان الاجتماعي والرعاية الاجتماعية.

ويدعو أيضا الدول الغنية إلى زيادة مساعداتها للدول الفقيرة، وإدارة هذه المساعدات على نحو أفضل لتتمكن هذه الدول والمجتمعات من إجراء التغييرات المطلوبة للتكيف مع الاقتصاد العالمي ومواجهة التداعيات المرافقة لها، مثل فقد كثير من الوظائف، وزيادة تكاليف السلع والخدمات الأساسية، وتخفيف المعاناة الموجودة في بعض الدول بسبب الأمراض والأوبئة كالملاريا والإيدز، وتوفير الأدوية والمبتكرات الصحية إلى من يمكن أن يفيدوا منها.

ويدعو التقرير إلى تخفيف عبء الديون، فالكثير من الدول الأفريقية -حسب التقرير- ترزح تحت أعباء من الديون لا يمكنها احتمالها، وسيؤدي تخفيف أعباء الدين عن هذه الدول إلى زيادة قدرتها على خفض الفقر والمساهمة في الاقتصاد العالمي مع ضرورة دفع هذه الدول إلى تطبيق سياسات إصلاحية في الحكم والإدارة والتشريع والقضاء لتحسين المناخ الاستثماري والخدمات الاجتماعية فيها.

وقد يؤدي الانخفاض الكبير الذي حدث في تكاليف الاتصالات والمعلومات والنقل لجعل العولمة ذات مزايا وفرص للناس للتعاون ومواجهة مشكلاتهم وزيادة الوعي والرقابة العالمية على أنشطة وأداء الحكومات والشركات الكبرى وحماية البيئة والحقوق الأساسية وتحقيق العدالة والمساواة ورفع الظلم والاعتداء عن المستضعفين.
ــــــــــــــ
كاتب أردني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.