أوكرانيا.. عودة إلى حلول الوسط

أوكرانيا.. عودة الى حلول الوسط

 
 
ستذكر الثلوج المتساقطة فوق رؤوس المتظاهرين في أوكرانيا أن قسوة ما هم فيه يرجع إلى أن روسيا دفعت مئات الملايين من الدولارات لدعم فيكتور يانوكوفيتش ليصبح رئيسا لأوكرانيا، بينما دفعت الولايات المتحدة أموالا مماثلة لدعم المعارضة برئاسة فيكتور يوشينكو.
 
لا تشعر موسكو بالخجل في هذه اللعبة، فواشنطن دعمت ماليا بوريس يلتسين ليتغلب في انتخابات الرئاسة الروسية عام 1996 على منافسه الشيوعي غينادي زيغانوف. كما أن الولايات المتحدة لا تقوم بعمل جديد، فالورقة التي ربحت بها في جورجيا عندما أطاحت بسياسي ماكر مثل شيفرنادزه آن لها أن تُجرب في أوكرانيا.
 
في نهاية العام 1991 حصلت أوكرانيا، بسبب السقوط المفاجئ للاتحاد السوفياتي، على ما يمكن تسميته باستقلال "السكتة القلبية" الذي لم تكن مستعدة له، لا ببلورة أفكار التحرر القومي ولا ببناء تيارات سياسية تنعش الحياة بعد عقود راكدة خلال الحقبة السوفياتية.
 
ومن ثم احتاجت أوكرانيا عشر سنوات أخرى لتنضج بها في نهاية التسعينيات الأفكار القومية والليبرالية التي كانت قد ظهرت تائهة بعد الاستقلال، وكانت 13 سنة منذ الاستقلال هدنة كافية ليتجمع بعدها 200 ألف في ميدان الاستقلال بالعاصمة كييف رافضين تزوير انتخاباتهم وعازمين على تكرار النموذج الجورجي.
 

"
كان طغيان جماعات المصلحة في أوكرانيا هو السبب الذي دفع عشرات الآلاف من الأوكرانيين لرفض نتائج الانتخابات ووصفها بالتزوير
"
كان الناخب الأوكراني أمام خيارين واضحين، اختيار يوشينكو الذي يعنى نجاحه تليين موقف الغرب تجاه انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، واندفاع الاستثمارات الغربية المتأهبة للسوق الأوكراني الضخم (أقل قليلا من  50 مليون نسمة)، وبالتالي رفع مستوى المعيشة وخلق اقتصاد سوق تحتاجه البلاد.
 

وأمام الناخب الأوكراني اختيار يانوكوفيتش الذي يضمن الوحدة المنتظرة مع الروس رفقاء التاريخ والثقافة، وذلك في مشروع اتحادي يفترض أن تنضم إليه روسيا البيضاء وكزاخستان لتكوين جبهة أوروآسيوية لا تقل تقدما –هكذا المأمول!- عن نظيرتها الغربية.
 
ووسط شهادات أوروبية وأميركية بتزوير الانتخابات مثل نجاح المرشح الحكومي والموالي لروسيا بمقعد الرئاسة خيبة أمل لمن بشّروا بعيد سقوط النظم الشمولية في أوروبا الشرقية من أن التاريخ الأيديولوجي قد انتهى لصالح الديمقراطية والرأسمالية.
 
وبعد أن حصلت أوكرانيا وغيرها من دول أوربا الشرقية على استقلالها حذر فلاديمير تيسمانينو -في بحثه التاريخي عن التطور السياسي لأوروبا الشرقية مطلع التسعينيات- من أنه "لا يجب أن يمرح بنا الخيال فنظن أن نهاية احتكار الأحزاب الشيوعية للسلطة ستؤدي حتما إلى ميلاد الديمقراطية، فلا بد أن يتبع عقود الكبت وقت كاف من الزمن يتوقف فيه خداع الجماهير الساذجة، حتى لا نجد أنفسنا ننتقل من طغيان الفرد إلى طغيان جماعات المصلحة".
 
كان طغيان جماعات المصلحة في أوكرانيا هو السبب الذي دفع عشرات الآلاف من الأوكرانيين لرفض نتائج الانتخابات ووصفها بالتزوير، فقد رُميت الحكومة الأوكرانية على مدى السنوات العشر الماضية بتهم جسام أهمها:
 
* تكوين عشائر مافيوية تحتكر اقتصاد البلاد وتنسج مصاهرة بين رجال المال ورجال السياسة بما يحبس أغلبية السكان في مستوى من المعيشة لا يليق بتاريخ وعراقة أمة كأوكرانيا (تقول المعارضة إن 2% من السكان يحتكرون ثروة الشعب).
 
* تفريخ الأتباع في الجهاز الحكومي بحيث يظل مستقبل أوكرانيا يدور في دائرة استنساخ نفسه، وذلك لصالح رجال يستلمون السلطة من رؤسائهم شريطة ألا يحاسبوهم على ما اقترفوا من فساد وتجاوزات قانونية.
 
وما أقسى ما نشرته وول ستريت جورنال الأسبوع الماضي من أن رئيس وزراء أوكرانيا المرشح للرئاسة ينظر إليه "لا كمناصر لروسيا بقدر ما هو مناصر للعصابات الإجرامية، إن الرجل ليس سوى أل كابو في نسخته الأوكرانية، بل إن الرئيس كوتشوما –كما تقول وول ستريت- المتهم بالفساد والمنتهية فترته الرئاسية ليس إلا لاعبا مبتدئا مقارنة بخلفه المحترف" (في مقال بتوقيع أوكسانا زابوشكا بتاريخ 22/11/2004)
 
الخريطة الإثنية واللغوية
تتسم أوكرانيا بخريطة إثنية ولغوية تصلح لإشعال فتيل الحرب الأهلية وقت الحاجة، إذ تتألف الدولة من 75% من الأوكرانيين و21% من الروس و4% من إثنيات أوروبية مجاورة، ويتحدث بالأوكرانية 40% من السكان وبالروسية 21% (وهم ذوو الأصول الروسية) إضافة إلى 33% من الأوكرانيين الذين يتحدثون الروسية نتيجة التأثر الثقافي المتتابع عبر عقود متتابعة من التاريخ القيصري والسوفياتي.
 
فى المقابل هناك نسبة تتراوح بين 1% و2% من الروس يعتبرون اللغة الأوكرانية بديلا لهم عن الروسية.
 
وهكذا فإن 55% من سكان أوكرانيا يتحدثون الروسية كلغة وطنية أو كلغة بديلة، وقد وضع بعض المراقبين قبل الانتخابات الأخيرة يده على أخطر مواقع هذه الخريطة حيث القسم الأوسط من أوكرانيا الذي يعيش فيه الأوكرانيون المتحدثون بالروسية، الذين بمقدورهم ترجيح كفة أي من الفريقين المتنافسين.
 
ومما تعتبرهم روسيا أبناءها ومناصريها صارت المعارضة اليوم قاب قوسين أو أدنى من أن تسميهم بالطابور الخامس أو ربما تنقل عن الصحف الغربية تسمية أكثر سخونة كالقول إنهم "رؤوس حراب لإعادة إحياء الإمبريالية الروسية".

تزداد الخريطة تعقيدا حينما نعرف أن الأوكرانيين يتمركزون في القسم الغربي من البلاد بينما يتركز الروس والأوكرانيون المتحدثون بالروسية وسط وشرق البلاد، وقد تغري الخصوصية المكانية للروس والأوكرانيين المتحدثين بالروسية ببزوغ مطالب الانفصال كرد فعل محتمل على تنامي التوجهات القومية لدى أوكرانيا الغربية، ويبدأ مسلسل العنف والقتال البيني.
 
أما في الجنوب –شبه جزيرة القرم- فيعيش المسلمون (تتار القرم) بعدد سكاني لا يزيد عن ربع مليون نسمة، ولمسلمي أوكرانيا مطالب بمراعاة حقوقهم، وعلى مدى 200 عام أظهر مسلمو أوكرانيا نزوعا للتعايش والاندماج، وقد صوت أغلبهم (60%-65%) لصالح المرشح المناصر لروسيا، ربما خوفا من تطرف النزعة القومية لمرشح المعارضة.
 
ومما تقدم يلاحظ أنه لولا السمعة السيئة للحكومة الأوكرانية أوروبيا والضجة التي أثارها مراقبو المفوضية العامة للاتحاد الأوروبي، مشككين في نزاهة الانتخابات، لكان من الممكن أن تقبل النتائج بهدوء على أساس ثقل الوزن الانتخابي لمناصري المرشح المدعوم من روسيا، كما أن الفارق الذي فاز به هذا المرشح لم يزد عن 3% من إجمالي عدد الأصوات بعد أن كان قد خسر في الجولة الأولى بفارق 1% لصالح مرشح المعارضة.
 
الفرضيات المباشرة تقول إن روسيا لا تهتم بتوجيه السياسة الأوكرانية لأسباب تقف عند البعدين الإثني واللغوي، فأوكرانيا تمثل أخطر بوابة جيوبوليتيكة يمكن أن تفقدها روسيا في الشرق الأوروبي بعد أن خسرت النافذة الحيوية على بحر البلطيق بانضمام أستونيا ولاتفيا وليتوانيا لحلف شمال الأطلسي، بل إن الخسائر ستصل إلى تهديد الأسطول الروسي في مياه البحر الأسود الأوكرانية، ولن يكون ممكنا عودته للشقة الضيقة لروسيا على ذلك البحر.
 
ورغم ما في هذا التقرير من حقائق تنطق بها الجغرافيا السياسية، فإن العلاقات السياسية بين هذه الدول قد لا تنطلق بالضرورة من تلك الفرضيات، الراجح أنه ما من سلطة في أوكرانيا كانت ستغفل مطامح أى من الغرب أو روسيا، وكان المنتظر التالي:
 

"
لو نجح مرشح المعارضة المدعوم من الغرب فليس بوسعه استبعاد مصالح روسيا في بلاده, ولو نجح مرشح الحكومة الموالي لروسيا فليس بوسعه أن يتغاضى عن طموحات بلاده في التقارب مع الغرب
"
* لو نجح مرشح المعارضة المدعوم من الغرب فليس بوسعه استبعاد مصالح روسيا في بلاده وبها أكبر أقلية إثنية ويتحدث بلغتها أكثر من نصف السكان وعليها يعتمد الإمداد بالغاز.


إن مسار فيكتور يوشنكا زعيم المعارضة الأوكرانية لم يكن ليختلف عن مسار ميخائيل ساكشفيلي الرئيس الجورجي، فبعد قليل من اللقطات الهوليودية لم تفلح طموحاته في توحيد جورجيا أو تحدي روسيا واستبعاد تأثيرها، بل إنه سرعان ما تودد إليها وطلب منها المساعدة في إقرار السلام في بلاده، وقد فعلت. وكان المتوقع في حالة فوز المرشح المدعوم من الغرب أن يقع نوع من حلول الوسط، تدعيم الشراكة مع الغرب لتحقيق نهضة اقتصادية مشروعة وفى ذات الوقت علاقات طيبة مع روسيا تحقق حصة من مصالحها استرضاء لها.
 
* ولو نجح مرشح الحكومة الموالى لروسيا –وهو ما حدث رسميا- فليس بوسعه في المقابل أن يتغاضى عن طموحات بلاده في التقارب مع أشقائهم في القارة الأوروبية بالسعي إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو إهمال طموحات العسكرية الغربية في عقد اتفاقات عسكرية تضمن لها مجالا حيويا في شرق القارة.
 
وكان المنتظر أن يتم نوع من الشراكة مع الناتو بشكل لا يصيب روسيا بصدمة الانضمام إلى الحلف ودون أن تضيع فوائد التعاون معه في ذات الوقت.
 
والأدلة على ذلك قائمة بالفعل، فأوكرانيا تتعاون مع الناتو منذ سنوات، وجنودها موجودون الآن في العراق، وقد خرجوا دون اعتراض من الرئيس الروسي.
 
ماذا يحمل الغد؟

"
الصدام الداخلي في أوكرانيا هو بديل عن الصدام بين روسيا والغرب، إنه شكل من ألاعيب الحرب الباردة التي ظن الكثيرون أنها انتهت
"

إن الممارسات السياسية لدول ما بعد الاتحاد السوفياتي مليئة بحلول الوسط، فأرمينيا مثلا المتحالفة مع روسيا ضد أذربيجان (المدعومة أميركيا عبر تركيا) وجدت أن البقاء في خندق واحد مع روسيا سيفقدها الكثير، فشرعت تبذل على مدى السنوات الماضية جهودا -تؤتى ثمارها- للتقارب مع واشنطن دون أن تفقد تحالفها مع موسكو، بل إن موسكو تقدر ذلك ولا تعترض عليه. 

 
وكذلك تجتهد أذربيجان للتقارب مع روسيا رغم تحالفها مع واشنطن التي تفهم أن روسيا يمكن أن تسبب مشكلات كبرى لأذربيجان والأفضل أن يكون هناك تقارب بينهما.
 
وكم هي مزدوجة هنا أيضا معايير مناصرة الشعوب لتحقيق الحرية، فبينما انتقدت واشنطن نتائج الانتخابات في جورجيا وهى تنتقد الآن نتائج انتخابات أوكرانيا وتتربص الدوائر بالسلطة في بيلاروسيا، لم تصغ مرة لمطالب المعارضة الآذرية التي سئمت من انتقال السلطة من علييف الأب إلى علييف الابن دون أن يحتج الاتحاد الأوروبي ولا وزارة الخارجية الأميركية ودون تهديدات بأي عقاب.
 
فليس معلنا ما الذي تريده واشنطن من كييف لكي يهدد بعض أعضاء الكونغرس بتوقيع عقوبات اقتصادية على كييف وعزلها سياسيا عقابا لتزوير الانتخابات، المحطة الحقيقية للردع هي روسيا وليست كييف.
 
عند البعض القضية ليست أكثر من منافقة روسيا حتى لا تدفعها المواجهة إلى تطوير أسلحتها وجيشها فيفيق الغرب على توسع روسي جديد يحيي الإمبراطورية.
 
إن ملامح النفاق تجدها في التحالف الفرنسي الألماني الروسي رغم الرفض الشعبي في ألمانيا وفرنسا لديكتاتورية روسيا، كما تجدها في التلاطف المشترك بين بوتين وبوش والدعوات المتكررة لبوتين للمشاركة في مناسبات دولية يتصدر فيها الظهور كتفا بكتف مع كبار قادة العالم، يسأل البعض: لماذا؟ ماذا يقدم بوتين للعالم؟ هل ديمقراطيته بمنح الشيشان حق تقرير المصير؟ أكانت انتخابات الرئاسة الشيشان أكثر نزاهة من الانتخابات الأوكرانية.
 
إن أراد الغرب حقا أن يوجه عقوبات اقتصادية فوجهتها معروفة، موسكو تصدر إلى أوروبا نحو نصف إجمالي صادراتها إلى العالم، كما تبيع لأوروبا 35% من حاجة أوروبا، هنا يمكن أن يحقق الغرب مقصده بدلا من مماحكة أوكرانيا.

إن الصدام الداخلي في أوكرانيا هو بديل عن الصدام بين روسيا والغرب، شكل من ألاعيب الحرب الباردة التي ظن الكثيرون أنها انتهت.

ـــــــــــــ
كاتب مصري 
 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.