نقد وهم التكلفة التي ستنهي الحروب الأيديولوجية
عندما قرأت ما أورده بيتر غراير في الصحيفة المعروفة كريستيان ساينس مونيتور عرفت أن أحداً من العارفين في واشنطن ليس لديه أوهام عن أن الولايات المتحدة الأميركية باتت تغرق في رمال الحرب أقله اقتصادياً؛ وأن أوهام البعض عن أن قدوم الأميركيين إلى العراق طمعاً في نفط العراق؛ ذلك أن تكلفة الحرب لا يمكن أن يغطيها نفط العراق لسنين طويلة، لكن النتيجة ليست دائماً هي توقف العمليات العسكرية.
فأرقام غراير تقول: إن نشر قوات إضافية والحاجة إلى تصفيح جديد للمركبات وتغييرات أخرى لمجابهة طرق المتمردين، قد تؤدي إلى زيادة النفقات العسكرية بما لا يقل عن 25% للسنة المالية 2005، فيما أن إجمالي تكلفة الحرب خلال العام المقبل سوف يتجاوز 200 مليار بشكل شبه أكيد.
«هذه التكاليف الواضحة أو الضمنية قد تقطع بقية الموازنة الدفاعية في نهاية الأمر»، وفق ما يقول ستيفن كوزياك، مدير دراسات الموازنة في مركز تقييمات الإستراتيجية والموازنة في واشنطن.
" نشر قوات إضافية أميركية قد يؤدي إلى زيادة النفقات العسكرية بما لا يقل عن 25% للسنة المالية 2005، فيما إجمالي تكلفة الحرب خلال العام المقبل سوف يتجاوز 200 مليار " |
ووفقاً لمدير مكتب الموازنة في الكونغرس، دوغلاس هولتز إيكين، فإنه في بداية هذه السنة تراوحت تقديرات الكونغرس والحكومة لتكلفة الحرب في السنة المالية 2005 بين 60 مليار و70 مليار دولار. لكن ذلك الرقم ارتفع بشكل أكبر، لأن البيت الأبيض قرر زيادة قدرها 80 مليار دولار كمخصصات إضافية لتمويل عمليات 2005 في العراق.
وهذا المبلغ هو زيادة عن الـ25 مليار دولار لنهاية السنة المالية 2004 وبداية 2005 التي وافق عليها الكونغرس كجزء من قانون المخصصات العسكرية العامة.
فالحاجة إلى زيادة عدد الجنود إلى 000ر150، وهو أعلى رقم خلال الحرب، قبل الانتخابات المقررة، تشكل عملياً اعترافاً بأن تخطيط الحرب بعديد قليل كما أفاض في إلزامه مدنيو المحافظين الجدد في البنتاغون للعسكريين، وهي التي ترفع التكاليف، كما أن استسهال الحرب بالمعدات الإلكترونية قد أدى إلى مصاعب في استمرار تشغيل المعدات في الصحراء وهي بدورها تحولت سبباً آخر لزيادة تكاليف الحرب على ورق المحافظين الجدد؛ حيث هنالك تكاليف لإجراء الصيانة غير العادية وتكاليف المستودعات، وهي متعلقة بالطقس الصعب في العراق.
اليوم باتوا يقرون في واشنطن بأن القوات الأميركية في العراق لم تكن مستعدة لمواجهة ما باتوا يدعونه بدون تردد تهديد الاحتلال المتواصل من القنابل التي تزرع على الطرق والتفجيرات الانتحارية على سبيل المثال، وهو ما يحتاج إلى تأمين التصفيح الضروري للمركبات الأميركية وإلى حماية 000ر35 مركبة أميركية بتصفيح إضافي، وفق ما قاله مسؤولون من الجيش في مؤتمر صحفي في البنتاغون، واللافت أنه من هذه المركبات تم تصفيح نحو 60% فقط. وبلغت تكاليف هذا العمل نحو أربعة مليارات دولار، حسبما ذكر الجيش الأميركي.
لقد اكتشف الأميركيون الذين دخلوا حرباً يسهل دخولها بدون إستراتيجية بقاء أو خروج أو أي مخرج سياسي، أنه كان عليهم أن يعدلوا كثيراً من النظم التي ينتجونها، لأن التهديدات تبدلت وطبيعة النظم التي يستهدفها عدوهم تبدلت أيضاً، حسبما يقول الجنرال ستيفن سبيكس، نائب الجنرال الذي تسلم العمليات، في الجيش الأميركي الثالث.
" أي مصلحة نفطية أو إستراتيجية تقتضي دفع العديد من المليارات؟ إنه ثمن الأيديولوجية المنفلتة من عقالها التي تدعي أنها تبشيرية على الطريقة الويلسونية، في انقلاب جذري على لغة السياسة الروزفلتية " |
ومع أن الأميركيين من أمثال غراير يقرون بأن المسؤولين في الحكومة الأميركية يرفضون أن يتكلموا علانية عن المبلغ الذي سيطلبونه لقانون تمويل الحرب الإضافي لعام 2005، لكن تقديراً للتكاليف العراقية على المدى البعيد، وفق ما يقول إنتوني كوردسمان، وهو خبير عسكري في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، فإنها على النحو التالي:
* تكاليف الحرب حتى نهاية 2004 ستكون نحو 128 مليار دولار، وهذا لا يتضمن الصيانة الأساسية واستبدال المعدات المدمرة والتكاليف المتعلقة بالحاجة إلى تجنيد المزيد من الجنود وإعادة تدريب المنتشرين في العراق.
* خلال عام 2005، ستكون تكاليف العمليات العسكرية على الساحة العراقية ما بين 212 مليار و232 مليار دولار، ومع نهاية عام 2007 يمكن أن تصل التكاليف إلى 316 مليار دولار.
فأي مصلحة نفطية أو إستراتيجية تقتضي دفع هذه المليارات؟! إنه ثمن الأيديولوجية المنفلتة من عقالها والتي تدعي أنها تبشيرية على الطريقة الويلسونية، في انقلاب جذري على لغة السياسة الروزفلتية (نسبة إلى روزفلت) التي رسمت الواقعية السياسية كأساس في التعاملات السياسية بخلاف لغة الأخلاق والمشاريع التبشيرية التي نادى بها الرئيس ويلسون عندما تحدث عن مسؤولية أخلاقية للولايات المتحدة الأميركية بنقل الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان على خلفية ما تم فعله في ألمانيا وإيطاليا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.
هذه اللغة الأخلاقية هي نفسها التي يطرحها اليوم المحافظون الجدد خصوصاً أنهم قد انتقلوا من التروتسكية؛ أي من الثورة المستمرة اليسارية إلى الثورة المستمرة الديمقراطية، ولهذا وكأيِّ أيديولوجيين، فإنهم يستسهلون كل شيء ولا يرون أهمية للنفقات التي تدفع للحروب ماداموا يخدمون بها هدفاً إستراتيجياً أيديولوجياً يتمثل في إشاعة الديمقراطية بين الشعوب.
صحيح أنهم قد تعرضوا لانتكاسة جديدة بعدما ضربت الفضيحة عقر دارهم؛ أي في البنتاغون, عندما كشف مكتب التحقيقات الفيديرالي (أف بي آي), وجود أدلة على تورط مسؤول يعمل في مكتب وزير الدفاع دونالد رمسفيلد بالتجسس لمصلحة إسرائيل، وصحيح أنهم انقلبوا مؤخراً على رمسفيلد بهدف حثه على الذهاب بعيداً في مخططاتهم التي تقوم على مبدأ "اضرب واترك" بدون الظهور بمظهر قوة الاحتلال على اعتبار أن مشروعهم تبشيري، إلاّّ أن المسألة أعقد من القول بأن العد التنازلي لعبثهم الحربي-السياسي قد بدأ.
" يجب علينا ألا نراهن بعقلية مشرقية على تراجع عن لغة الحرب الأيديولوجية جراء هذا الثقل المالي للحرب، فهي في رأي المحافظين الجدد تبشيرية بالديمقراطية وحقوق الإنسان وتكاليفها محدودة بالقياس التاريخي " |
السؤال يطرح نفسه بقوة: هل يتحمل الأميركيون طويلاً هذا الحجم الهائل من النفقات لقاء الأيديولوجية التي يأتيهم بها المحافظون الجدد، حتى وإن غطيت بغطاء فوبيا الحرب على الإرهاب؟!
يشير بعض المحافظين الجدد إلى ضآلة ما نراه هائلاً، ربما بمقاييسنا على اعتبار أن الحرب بالمقاييس التاريخية ليست عبئاً كبيراً، فحتى إذا تم إيراد تمويل الحرب فإن موازنة الدفاع يمكن أن تصل إلى نحو 4% من إجمالي الناتج المحلي مقارنة مع 6 % التي وصلتها خلال سنوات ريغان.
ولهذا لا يتوقع كوزياك من مركز تقييمات الإستراتيجية والموازنة أن تكون التكاليف العنصر المحرك لوقف هذه المغامرة العسكرية، وهذا ما يفسر حسب تقديرنا المضي قدما في خفض العملة الأميركية؛ لأنه لن يكون هنالك من توقف للحرب رغم كل ما يحدث، فمن يرد أن يخوض الحروب سيخفض تكاليفها بتخفيض قيمة عملته.
يجب علينا ألا نراهن بعقلية مشرقية على تراجع عن لغة الحرب الأيديولوجية جراء هذا الثقل المالي للحرب فهي في رأي المحافظين الجدد تبشيرية بالديمقراطية وحقوق الإنسان وتكاليفها محدودة بالقياس التاريخي فضلاً عن وهم ربطها بمحاربة الإرهاب، إضافة إلى أن تخفيض العملة الأميركية يقلل من قيمة النفط المرتفعة ويزيد من حجم التجارة الأميركية عبر البحار.
ــــــــــــــــــ
كاتب سوري
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.