أعادت النهاية المأساوية لأزمة رهائن مدرسة مدينة بيسلان في أوسيتيا الجنوبية القضية الشيشانية إلى واجهة الأحداث كما لم يعدها أي حدث آخر.
فبعد أيام من قيام مسلحين، يرجح انتماؤهم لإحدى المجموعات الشيشانية، باحتجاز ما يزيد على ألف من التلاميذ والأمهات في مدرسة المدينة، اقتحمت القوات الروسية المدرسة في ظروف غامضة مما أدى إلى مقتل زهاء 400 من الرهائن الأبرياء، أغلبهم من الأطفال، إضافة إلى ثلاثين من المسلحين.
بالنسبة لمدينة صغيرة وادعة في جمهورية صغيرة من جمهوريات الحكم الذاتي التابعة للاتحاد الروسي، لا شأن لها بالصراع الدائر في الشيشان، يعتبر هذا الحدث فاجعاً بكل المقاييس.
" ينبغي ألا تمر مأساة مدينة بيسلان دون أن تفتح باب النقاش حول ما يجري في الشيشان وشمال القوقاز كله باسم الشعب الشيشاني والإسلام والأمة الإسلامية " |
لقد وجهت للسلطات الروسية السياسية والأمنية انتقادات واسعة لمسؤوليتها الجزئية عن مأساة مدينة بيسلان، وهي انتقادات محقة بلا شك، بغض النظر عن الظروف التي أفضت إلى اقتحام المدرسة.
فمن حادثة إلى أخرى، سواء تلك المتعلقة بأعمال إرهابية أو غيرها، أظهرت الدولة الروسية وأجهزتها المختلفة استهتاراً فادحاً بحياة المدنيين.
ولكن هذه المأساة ينبغي ألا تمر دون أن تفتح باب النقاش حول ما يجري في الشيشان، وشمال القوقاز كله، باسم الشعب الشيشاني وباسم الإسلام والأمة الإسلامية.
ثمة عناصر متعددة للمشكلة الشيشانية، أحدها بالتأكيد هو السياسة الروسية الرسمية تجاه الشيشان والاحتلال الروسي العسكري البشع للجمهورية، وهو ما يراه مسلمو الشيشان حلقة جديدة في تاريخ العلاقة المثقلة بين موسكو وشعوب شمال القوقاز.
فمنذ بدء التراجع العثماني من شمال القوقاز وشبه جزيرة القرم خلال سلسلة من الحروب العثمانية-الروسية في القرن الثامن عشر، وشعوب هذه المنطقة، المسلمون في أغلبيتهم العظمى، يحرصون على توكيد هويتهم الاستقلالية عن المركز الروسي كلما أتاحت لهم الظروف ذلك.
وقد ولدت هذه النزعة الاستقلالية ردود فعل متفاوتة من الدول الروسية المتعاقبة، اتسمت في أغلبها بدرجة عالية من العنف، سواء في مواجهة المقاومة القوقازية بالقرن التاسع عشر، أو أثناء الحملة الستالينية على القوى المحلية والميراث الديني الإسلامي لشعوب شمال القوقاز، وهي الحملة التي توجت بالتهجير الجماعي لمئات الآلاف من أبناء المنطقة.
وإذ أطلق انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية العنان للحركات القومية، شهدت الشيشان أكثر حركات الاستقلال حدة وتبلوراً بين الشعوب القوقازية، وهو ما انعكس في انتخاب رئيس شيشاني من المؤيدين للاستقلال عن روسيا.
ولكن موسكو كانت تدرك أن السماح باستقلال الشيشان سيفتح الباب لتفكك الاتحاد الروسي، المشكل أصلاً من العديد من القوميات والأعراق التي يتمتع بعضها بالحكم الذاتي كما هو الحال في جمهورية الشيشان.
ومنذ مطلع التسعينيات، والشيشان ساحة صراع مستمر بين الحكومة الروسية المركزية في موسكو وحركة استقلالية محلية، يصعب تقدير مدى الدعم الشعبي لها، راوحت بين الغزو الروسي المسلح للجمهورية، وجهود التفاوض والاتفاق.
ولكن أوساطاً نافذة في موسكو لم تكن ترغب في التوصل لحل سياسي دائم يفضي إلى تقديم تنازلات جوهرية للحركة الشيشانية على مستوى درجة الاستقلال المسموح به عن موسكو.
" استمرار هذه الحرب ليس في مصلحة روسيا ولا الشعب الشيشاني ولا العرب والمسلمين، فهي اندلعت لاعتبارات خاطئة وحسابات قومية لا تتسم بالحكمة " |
ومما فاقم الأوضاع أن الحركة الشيشانية تحولت إلى حركة مقاومة للقوات الروسية، وأصبحت حركة المقاومة ميداناً لنزعات عنف شيشانية متطرفة ولمتطوعين إسلاميين مرتبطين بشبكة القاعدة والقوى الإسلامية السلفية المسلحة، الشيء الذي زاد في توسيع نطاق الصراع ليطال أهدافاً مدنية في المدن الروسية بما في ذلك موسكو.
وهذا ما أدى في النهاية إلى الحملة العسكرية الهائلة، التي أمر بها الرئيس الروسي الحالي بوتين خلال المرحلة الانتقالية التي تولى فيها الرئاسة من الرئيس السابق يلتسين بعد استقالة الأخير المبكرة من منصبه.
خلال السنوات القليلة الماضية، نشرت القوات الروسية في الشيشان عنفاً غير مسبوق وارتكبت من الجرائم ما يصعب حصره، وذلك في الوقت الذي حاولت موسكو فيه تأسيس شرعية جديدة في الجمهورية عن طريق إقامة مؤسسة حكم من الشيشان الموالين لموسكو وانتخاب رئيس تلو الآخر من بينهم.
العنصر الرئيس الثاني في المشكلة الشيشانية هو حركة المقاومة الاستقلالية، التي يمكن القول إنها لم تعد قوة سياسية موحدة تلتزم بقيادة واحدة، بالرغم من عداء فئاتها المشترك للوجود الروسي العسكري ومقاومتها له.
وربما كان من الممكن في منتصف التسعينيات، عندما كان الرئيس الشيشاني السابق أصلان مسخادوف وتياره يشكلون عماد الحركة الشيشانية، التوصل إلى اتفاق سياسي، يضع حداً لمأساة الاقتتال الدموي، يستجيب لمخاوف موسكو، ويلبي في الآن نفسه قدراً من المطالب الشيشانية.
ولكن بروز شامل باسييف كمرجعية قيادية مستقلة، غذتها بشاعة الاحتلال الروسي، واندفاع العديد من المتطوعين العرب والإسلاميين إلى المنطقة؛ بل وتحول الساحة الشيشانية إلى ميدان لتدخلات قوى جورجية ذات ارتباطات وثيقة بالأوساط الأميركية، جعل احتمالات التسوية السياسية أضعف مما كانت.
إنه من غير الواضح ما إن كان مسخادوف مستعداً للقبول بحل يبقي الشيشان ضمن الإتحاد الروسي، أو إن كان ما زال يمثل تيار الأغلبية في الحركة الشيشانية؛ كما أنه من غير الواضح ما إن كانت القوى الأخرى ستقبل بتسوية سياسية أصلاً، أو أنها تخوض معركة طويلة تستهدف استنزاف روسيا ودحرها من كل شمال القوقاز.
" الإسلام جزء لا يتجزأ من تاريخ وثقافة وميراث روسيا، ومن الخطأ الفادح أن تتولد لدى المسلمين في روسيا نزعة للانسحاب بدلاً من أن يندفعوا في طريق الشراكة " |
أما ما أصبح واضحاً الآن فهو أن استمرار هذه الحرب ليس في مصلحة روسيا، ولا الشعب الشيشاني، ولا العرب والمسلمين، وأنها اندلعت لاعتبارات خاطئة وحسابات قومية لا تتسم بالحكمة.
إن سيطرة روسيا على الشيشان وشمال القوقاز قد تمت في عصر ما قبل القوميات وفي زمن لم يكن فيه من المستغرب أن يؤدي تدافع الإمبراطوريات إلى ضم أقوام من إثنيات أو أديان مختلفة.
وإذا كانت المقاومة المبكرة التي خاضتها شعوب شمال القوقاز ضد الروس مقاومة إسلامية، فإن الإسلام نفسه لم يكن غريباً عن المجال الروسي، فقد دخل الإسلام روسيا قبل دخول المسيحية إليها بنصف قرن على الأقل.
ومهما كان الأمر، فإن ماضي روسيا المعاصرة ما زال حياً، بينما انتهى النظام الشيوعي الشمولي، وباتت روسيا أكثر عرضة وحساسية تجاه انتقادات الرأي العام العالمي.
وبالرغم من أن طبيعة النظام الشيوعي لم تكن تسمح بالتمييز بين عناصر الإثنيات المختلفة، طالما كانوا شيوعيين وموالين للنظام السوفياتي، فإن حرص القيادة الروسية الحالية على بقاء الاتحاد الروسي ومنع تفتته كان سيسمح للقوميات المختلفة بقدر ملموس من الحرية في إدارة شأنها الذاتي وإحياء ثقافتها وميراثها التاريخي.
المشكلة في الشيشان أن القادة المحليين أظهروا من البداية نزعات انفصالية ما كان لموسكو أن تقبل بالسكوت عليها.
أما إذا نظرنا للأمر من زاوية التمايز الديني، فإن الشيشان ليسوا المجموعة الإسلامية الوحيدة في روسيا الاتحادية، فشعوب شمال القوقاز الأخرى أغلبها من المسلمين، وكذلك تتار شبه جزيرة القرم وحوض الفولغا، بل إنه يعتقد أن المسلمين يشكلون خمس سكان الاتحاد الروسي، منهم مليون على الأقل يقطنون العاصمة موسكو.
إن الإسلام جزء لا يتجزأ من تاريخ وثقافة وميراث روسيا، ومن الخطأ الفادح أن تتولد لدى المسلمين في روسيا نزعة للانسحاب بدلاً من أن يندفعوا في طريق الشراكة والمطالبة بحقوق هذه الشراكة.
لقد أوضحت تجربة القرن العشرين المريرة أن التميز الإثني أو الديني عن الأكثرية يجب ألا يكون بالضرورة مدعاة للانفصال والانقسام، بعد أن أدت الحروب الأهلية إلى سفك الكثير من الدماء، أو إلى التسبب في حروب طاحنة، واسعة النطاق، لتفشل في النهاية في حل إشكالية الانقسام.
وتعتبر حالات باكستان ولبنان والأكراد والبوسنة أمثلة على عقم خيار الانقسام، حيث ترك الباكستانيون والبوسنيون خلفهم من المسلمين ما لا يقل عمن نجحوا في احتوائهم تحت راية الدولة المستقلة.
وقد وجد اللبنانيون أنه لا مناص من العودة إلى الإطار الوطني؛ وسرعان ما سيصل الأكراد إلى إدراك حقيقة أن الانفصال عن العراق أو إيران أو تركيا دونه هلاك الملايين من أبناء المنطقة.
وحتى لو نجح الشيشان في تحقيق الانفصال، فأي مستقبل سينتظرهم؟ إن القوقاز لا يستطيع أن يهرب من قدره الجغرافي، ولن تجد دولة مستقلة صغيرة في القوقاز، في عداء مع الجار الروسي الكبير، مناصاً من الارتماء في أحضان الولايات المتحدة.
بكلمة أخرى، فإن المشروع القومي الشيشاني سينتهي إلى كسب الاستقلال عن روسيا والشعوب الروسية للإلقاء بهذا الاستقلال في القبضة الأميركية.
وبالتالي فعلى الشيشان، وعلى العرب والمسلمين أن ينظروا إلى المشكلة من زاوية الوضع العالمي ومصالح الأمم الكبرى.
إن روسيا، الخارجة من حقبة الدولة القائدة لكتلة أيديولوجية وعسكرية عظمى، تبحث الآن عن موقع لها في العالم، وعن دور، وعن تحالفات جديدة، خاصة بعد أن اختار أغلب دول أوروبا الشرقية التحالف مع الولايات المتحدة والدخول في الحلف الأطلسي.
" من واجب القوى العربية والإسلامية أن تتحرك لإقناع الدولة الروسية بالتفاوض مع القادة الشيشان وإقناع أولئك القادة بأن يطالبوا بحقوقهم في إطار وحدة الاتحاد الروسي " |
ولم يكن مستغرباً أن يحضر الرئيس بوتين مؤتمر منظمة الدول الإسلامية وأن يطالب بمقعد لبلاده في المنظمة، باعتباره رئيساً لدولة تضم عشرات الملايين من المسلمين.
إن مصلحة العرب والمسلمين، في عالم سريع التغير والاضطراب، ألا يستعدوا روسيا والشعوب الروسية، بل أن يسعوا للتحالف معها وتعزيز العلاقة بشعوبها.
إن روسيا دولة جارة، ودولة ذات تاريخ قريب في الصداقة مع الكثير من الشعوب العربية والإسلامية، وهي دولة تخرج الآن من أزمة التحول، وتعج بالخبرات التي يحتاجها العرب والمسلمون.
لهذا كله، ينبغي ألا يقف العرب والمسلمون، حكومات وقادة رأي وعلماء، موقف المتفرج من هذه المجزرة التي تدور رحاها في الشيشان، وفي أنحاء أخرى من روسيا، وينبغي ألا يسمح العرب والمسلمون لحفنة من الشبان عديمي الخبرة والوعي، تحركهم دوافع إسلامية بدائية، أن يجروا الأمة جميعها إلى معركة تضر بمصالحها الكبرى وبمصلحة الشعب الشيشاني.
وقد آن الأوان للفعاليات الرسمية والشعبية أن ترفع صوتها ضد ما يجري في الشيشان، ليس فقط ضد الجرائم التي ترتكبها قوات الأمن الروسية بل أيضاً ضد الأعمال العبثية التي ترتكبها فئات المقاومة الشيشانية، وضد أهداف الاستقلال غير الواقعية التي تسعى هذه الفئات لتحقيقها.
إن من واجب القوى العربية والإسلامية أن تتحرك بجدية لإقناع الدولة الروسية بالتفاوض مع الحركة الشيشانية، ولإقناع القادة الشيشان بأن مصلحة شعبهم ومصلحة أمتهم الإسلامية أن يطالبوا بحقوقهم القومية والإسلامية من خلال الحفاظ على وحدة الاتحاد الروسي وبالشراكة مع شعوبه.
ـــــــــــــــــــ
كاتب فلسطيني
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.