الانتخابات الرئاسية الفلسطينية.. الانقلاب الأبيض
ما جرى في الساحة الفلسطينية بعد تغييب عرفات كان ترتيبات تساكن بين مراكز القوى في حركة فتح، ولم يكن بحال سلاسة تنظيمية في النقل والصلاحيات، فليس لدى الفلسطينيين ملك أو دولة يتقاتلون عليها.
أما مراكز القوى المتساكنة فيمكننا الحديث هنا عن تيارين:
الأول منهما يميل إلى تعزيز الوحدة الفلسطينية والتنسيق العربي ويملك هذا التيار شرعيته الوطنية وقوته التنظيمية ولاسيما لدى اللاجئين الفلسطينيين، وهو يؤيد استمرار المقاومة أو غض النظر عنها لحين تحقيق تسوية تتفق مع حدود الرابع من حزيران، ويمثل هذا التيار فاروق القدومي رئيس حركة فتح وبقية المحسوبين على عرفات.
" هناك تضافر دولي وعربي يخشى من انهيار حركة فتح وبالتالي انهيار لاحق لتسوية هشة مع تصاعد مواز لمد إسلامي فلسطيني مقاوم " |
أما الثاني منهما فهو تيار يميل إلى التجاوب مع الشروط الإسرائيلية، واستمرار التفاوض ومحاولة تحصيل ما أمكن من حقوق فلسطينية مع رفضه الصريح للمقاومة المسلحة، وهذا التيار يملك العلاقات السياسية ومفاتيح المال والعسكر في السلطة الفلسطينية ويمثله محمود عباس وفريقه المناوئ لعرفات من قبل.
بالعموم كلا التيارين لهما قوتهما وحضورهما في حركة فتح، ورغم وجود أطراف أكثر تطرفا نحو اليمين واليسار في حركة فتح فإن الاستقطاب يتمركز في هذين التيارين الذين جمعتهما حاليا جملة مصالح أهمها:
-الحاجة لإبقاء حركة فتح مهيمنة على القرار السياسي والمالي والأمني، أي استبدال هيمنة الزعيم المتماهي بالحركة بسطوة ومصلحة الحركة.
– الحاجة لإبقاء رجالات مراكز القوى قابضة على القرار والمال في مناصبهم، وكلا التيارين يستفيد من ذلك.
وساعد في تأكيد هذه المصالح تضافر دولي وعربي يخشى من انهيار حركة فتح، وبالتالي انهيار لاحق لتسوية هشة مع تصاعد مواز لمد إسلامي فلسطيني مقاوم، ولذا كان التدخل الخارجي سافرا بدء من إخفاء وضعية عرفات الصحية، مرورا بترهيب وترغيب الفلسطينيين من عواقب أو ميزات اختيار محمود عباس.
ولكن ترشيح أبي مازن من مختلف قطاعات حركة فتح وعلى رأسهم القدومي، لا يعكس رضا فريق القدومي عن عباس بقدر ما يعكس مراهنة أكثر على فشله وحرق أوراقه ومرحلته المفروضة دوليا، نظرا لوقائع الاحتلال الإسرائيلي التي لا يمكن لأبي مازن مهما قدم من تنازلات أن يغيّرها.
عموما سيبقى التساكن قائما على الأقل لحين انتهاء الانتخابات الرئاسية، ولكن التجاذبات محتمة في ضوء أن شرعية السلطة وعلاقتها مع إسرائيل تعتمد إلى حد كبير على الموقف تجاه المقاومة والحقوق الفلسطينية، وكل هذه العلاقات ستؤدي إلى إشكالات واجتهادات ستبرز الخلاف وتطوره.
على صعيد الانتخابات الرئاسية من الواضح أن استعجال حركة فتح ليس منصبا على احترام الدستور الفلسطيني، إذ إنه لو كانت هناك جدية قانونية لكان من الأولى إجراء انتخابات تشريعية وليس رئاسية، لكون المجلس التشريعي وشرعية الرئاسة منتهية الصلاحيات منذ ست سنوات.
" ترشيح أبي مازن من مختلف قطاعات حركة فتح وعلى رأسهم القدومي لا يعكس رضا هذا الأخير عن عباس بقدر ما يعكس مراهنته على فشله وحرق أوراقه ومرحلته المفروضة دوليا " |
وبالتالي ما يتولد قانونا على أساس باطل فهو باطل، لأن الرئيس مهما كانت قوته فإن قدرته يمكن شلها بمؤسسة البرلمان في ضوء إشكالية النظام الأساسي الفلسطيني وتشابكه وتضارب صلاحياته.
أما الجدية السياسة فهي غائبة من قبل كونها تتطلب البحث عن قواسم مشتركة تعزز الرؤية الفلسطينية الموحدة التي يسبقها تقييم لما سبق ولما هو آت، بدل فرض أجندة طرف أو حركة مهما كانت شرعيتها وقوتها وعلاقاتها الدولية.
وحتى الجدية المؤسساتية مغيبة لكون الأولى هو إصلاح نظم وآلية إدارة منظمة التحرير الحاضنة لمؤسسة السلطة الفلسطينية بدل البقاء في الآلية القديمة بل وإعادة دمج شخص رئاسة المنظمة برئاسة السلطة.
واللافت والمحير في آن هو تجاهل هذه الحركة أحاديث قتل عرفات ومؤشراتها القوية مما يشير إلى تهرب فلسطيني يغلب التسوية على أي خلل ولو كان إستراتيجيا.
مروان البرغوثي من الجيل الثاني الطامح إلى استبدال القيادة التقليدية، وقد أدت شهرته في الانتفاضة الحالية مع ظروف اعتقاله واستطلاعات الرأي التي أعطته تفوقا انتخابيا إلى محاولته فرض شروطه لإنجاز تغييرات حركية وسياسية وربما ضمان الإفراج عنه.
ولكن الأطر الرسمية في حركة فتح ماطلت في تلبية هذه الشروط باستثناء وعدها بعقد المؤتمر السادس لحركة فتح في شهر آب المقبل، وحتى مراهنة البرغوثي على الإفراج عنه قد تبددت حاليا في ضوء استثنائه بشكل غريب من صفقة إطلاق سراح الجاسوس عزام عزام.
عموما ترشح البرغوثي في اللحظات الأخيرة لإغلاق الصناديق هو نتيجة طبيعة لعدم تلبية شروطه التي انسحب لأجلها، وترشيحه اليوم هو محاولة منه لفرض شروطه، لكن اللافت هو تأييد الأطر الرسمية في حركة فتح بمن فيهم رجالات كتائب شهداء الأقصى لعباس مع استنكار مبطن ومعلن لترشح البرغوثي، وهذا لا ينفي فرضية التساكن والمصالح المؤقتة الناشئة بل يعززها، وعلة ذلك أن البرغوثي هو حالة خارجة أصلا عن حسابات التيارين القويين المتنفذين من الحرس القديم القدومي وعباس.
وفي الأفق من الممكن أن يستمر ترشح البرغوثي مع أننا نرجح عكس ذلك حتى وإن لم تجر تلبية شروطه نظرا لضعف التجاوب التنظيمي وحجم الضغوط الممارسة عليه، مع أن بقاءه مرشحا سيضر في المقابل بشرعية أبي مازن ويضعفها ويؤثر تاليا على حركة فتح.
تعكس حالة البرغوثي من جانب آخر التحكم الإسرائيلي ليس فقط في ظروف الترشح، بل في تحديد المرشحين اعتقالا أو اغتيالا أو مطاردة، وهذا دون شك دليل على إشكالية هذه الانتخابات في ظل الاحتلال.
من الواضح أنه يمكننا تمييز موقفين في هذا الاتجاه، موقف الاتجاهات اليسارية التي طالبت بداية بإنجاز القيادة الوطنية الموحدة، إلا أنها قبلت لاحقا مجرد تعهد من السلطة بإنجاز انتخابات تشريعية وبلدية بعد الرئاسة مع تغييرات في آلية النظام الانتخابي من "الدوائر" إلى "المختلط" بين النسبي والدوائر.
كان ذلك مقابل هدنة في وتيرة المقاومة مع مشاركتها أو ضمان صمتها في الانتخابات الحالية، وهذه المواقف تختلف عن المواقف السابقة لليسار الفلسطيني الذي قاطع الانتخابات لارتباطها باتفاقية أوسلو وواقع الاحتلال.
" اللافت للنظر والمحير في آن هو تجاهل فتح لأحاديث قتل عرفات ومؤشراتها القوية مما يشير إلى تهرب فلسطيني يغلب التسوية على أي خلل ولو كان إستراتيجيا " |
أما القوى الإسلامية وعلى رأسها حركة حماس، فقد كانت مرتبكة في قطع رأي تجاه هذه المسألة وأبقت الغموض على مواقفها حتى آخر لحظة، وجاءت مبررات مقاطعتها للانتخابات الرئاسية اقل حدة من المرة السابقة حيث تحدثت هذه المرة عن أسباب رفض أقرب للتكتيكية والإجرائية منها للسياسية والإستراتجية.
ومن المرجح أن تمتنع حماس عن تنفيذ عمليات نوعية ضخمة في الوقت الحاضر حتى لاتتهم بتعطيل الانتخابات الفلسطينية رغم عدم اشتراكها فيها.
وتحاول حماس من خلف كل ذلك تأكيد مبدأ الانتخاب كحق لصناعة القرار بالتوازي مع تأكيدها لثوابتها السياسية في ظل أصوات داخلية لديها تريد الاشتراك بالانتخابات الفلسطينية.
ولذا فإن ارتباك حماس تجاه ملف الانتخابات سيبقى حاضرا، وتساعد في ذلك أسباب موضوعية تتعلق أساسا بوضعية السلطة ناقصة السيادة وتاليا الانتخابات في ظل الاحتلال.
أما الإشكالية الثانية فتتعلق بالخلل الدستوري والسياسي الذي يراد تكريسه من خلال تجزئة عملية الانتخاب إلى رئاسي مؤكد وتشريعي مأمول.
الإشكالية الثالثة لدى حماس هي أن الانتخابات ما زالت ترتبط فعليا باتفاقية أوسلو في ظل نظام أساسي مختل السيادة ومزدوج الصلاحيات، وبحاجة فعلية لإجراء نقاش حوله ولاسيما في قضية تمثيل الخارج الفلسطيني تحديدا.
الإشكالية الرابعة تتعلق بالآلية التي تدار بها الانتخابات بدءا من تفرد حركة فتح بتشكيل لجنة الانتخابات وموعدها ولاحقا في شطب سجل انتخابي أنفق عليه ملايين الدولارات واعتماد السجل المدني بدلا له، والإعلان عن ذلك في وقت ضيق لا يمكن الطاعنين من مراجعة السجلات.
وأخطر من كل ذلك تجيير وسائل الإعلام الرسمية لصالح مرشح حركة فتح. كل ذلك يشير إلى احتمالات تزوير ممكنة وسهلة.
وعليه يبدو أن حماس اختارت الحفاظ على موقفها القديم مع مراقبتها لإجراءات الانتخابات وانتظار نتائجها والتصرف لاحقا تجاه الانتخابات التشريعية سلبا أو إيجابا بشكل يبقي غموضها ويحكي ترددها.
إسرائيل لا تريد أن تظهر بحال كمعيق لمطالب الانتخابات لكن ما من طرف دولي حصل منها حتى اللحظة على قرار بخصوص انسحابها لخطوط ما قبل الانتفاضة الحالية، وواضح هنا أن إسرائيل لم ترهن سياستها من قبل بزعامة تاريخية مثل عرفات.
والآن وحتى لو انتخب عباس، فإنها لن ترهن سياستها وسلوكها على أشخاص مهما كانوا يحوزون من الرضا مثلما يحوزه عباس لكون الإستراتيجية الإسرائيلية الآن تقوم على المراهنة على ما لديها في الواقع من جدار واستيطان وعدوان، وهي ماضية في ذلك كي تفرض على الفلسطينيين حلا لا يمكنهم الإفلات منه.
ولكنها طبعا مستعدة لتجميل اقتراحاتها بتنسيق هروبها من غزة مع السلطة مثلا، وتقديمه لاحقا كإنجاز فلسطيني فيكون الفلسطينيون بذلك كمن يشتري ما بيع له بالأمس بلا ثمن، بل وبإجراءات ضد المقاومة الفلسطينية التي حصلت هذا الإنجاز.
وسيترافق مع ذلك أو يأتي قبله إزالة بعض الحواجز هنا أو هناك والإفراج عن معتقلين قاربت مددهم على الانتهاء، وكل هذه الخطوات الصغيرة سترتبط بتعهد القيادة الفلسطينية الجديدة بإنهاء كل مظاهر المقاومة الفلسطينية.
" الانتخابات الرئاسية لا تعكس بحال الشرعية التي تعرفها النظريات السياسية بل هي أقرب إلى انقلاب بتغليف قانوني " |
ورغم ذلك فلن تذهب إسرائيل بعيدا في دعم أبي مازن ولن تعطي الفلسطينيين شيئا يمكن السلطة من اكتساب شرعيتها الشعبية والوطنية ولو بالقليل، وهذا ما سيدفع حركة فتح إلى التمزق حينما يفشل مرة أخرى محمود عباس.
وعندها سيبقى الاحتلال جاثما أو عائدا إلى غزة وشمال الضفة بآليات الحصار والتضييق، مما يبقي السلطة خدماتية، والجديد ربما سيكون توريط مصر والأردن في تحمل أثمان الاحتلال الاقتصادية.
وفي غمرة كل ذلك تصبح الانتخابات الحالية واللاحقة لا قيمة لها مادامت تجري في ظل الظروف الأمنية والسياسية والجغرافية المفروضة والمتحكم بها، وهي لن تنتج بالقطع واقعا فلسطينيا انتخابيا ذا حالة وطنية جدية، وهذا ما سيجعل المقاومة الفلسطينية أكثر حضورا وواقعية.
الانتخابات الرئاسية لا تعكس بحال الشرعية التي تعرفها النظريات السياسية، بل هي اقرب إلى انقلاب بتغليف قانوني، حيث أن أصولها وظروفها وتمويلها والقائمين عليها لا يمثلون ولا يعكسون إجماع ورضا الفلسطينيين وطموحاتهم، وإن بريق الانتخابات سيأخذ بعضا من الناس، إلا أنه سيبقى سردابا لا ضوء فيه، وتبقى القضية الفلسطينية في صحراء الاحتلال الموحشة.
__________________
كاتب فلسطيني
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.