أزمة حركة فتح.. عنوان الإصلاح وموقع المقاومة
– الإرهاصات
– الأهداف
– الأسلوب
– المقاومة الإسلامية
– الأفق
لم تكن أحداث غزة بما حملت من حوادث اختطاف وحرق مقرات وتظاهرات بمعزل عن العديد من المؤشرات السابقة التي كانت أقل حدة، وهي أحداث مرشحة للاستمرار دون شك ببقاء أسبابها وإرهاصاتها وشخوص أزمتها. ويذكي هذه الاحتقانات عدة عوامل ستبقى فاعلة في قابل الأيام، منها الحديث المتزايد عن خلافة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في ظل ضعفه الدولي وأحاديث الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من قطاع غزة.
الإرهاصات
” ما الداعي لبقاء المراهنة على التسوية إذا كانت إسرائيل تمعن باحتلالها ولا تعطي لأي حكومة فلسطينية أي آفاق للنجاح ” |
علينا ألا نعزو الأحداث إلى سبب بسيط، بل إلى جملة أسباب مركبة أحسن المناوئون لعرفات استغلالها، فهناك صراعات تعتصر في جسم حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) قبل وبعد مجيء السلطة، وعجل وجود السلطة بمناصبها ونفوذها في إفراز صراعات بين أجيال طامحة وقوى مستفيدة، ويدخل في إطار ذلك عنصرا المال والقوة.
فمثلا بعد انتفاضة الأقصى تخلت إسرائيل عن التسوية وعززت من احتلالها دون أن تدفع تكاليف حطامه، وفي الوقت نفسه ضربت وأنهكت السلطة وأضحت سلطة تدفع رواتب الموظفين فقط مع بعض الشكليات السلطوية.
ونظرا لرضا السلطة باحتلال إسرائيلي دون تخل واضح منها عن التسوية، تورطت بشكل أكبر في استحقاقات البطالة والفقر وإعادة تأهيل البنية المدنية ورعاية المعتقلين وأبناء الشهداء، وبذلك أصبح مطلوبا من السلطة المنهكة تأمين كل هذه الاحتياجات.
ومع مطالب ما يسمى بالإصلاح والضغوط الممارسة للتخلص من عرفات، ومع سوء إدارة السلطة لأجهزتها وتورط معظم مسؤوليها في الفساد، ومع وجود أطراف فلسطينية داخل الجسم الفتحاوي تشجع سياسيا وماليا التمرد ضد عرفات وسلطته.. كل هذا الخليط أدى وسيؤدي إلى كيمياء متفجرة تجمعها هذه الاحتقانات وتغذيها هذه المطالب. ونماذج ما جرى مؤخرا في غزة شيء بسيط لما يمكن أن يحدث.
أما علة تسارع الأحداث في غزة خلال ثلاثة أيام بهذه القوة فيدل على محاولة التيار المناوئ لعرفات الإفادة من الوقت المستقطع الذي تبقى لهم في ظل احتمالية سقوط رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون أو إمكانية قيام ما يسمى حكومة وحدة وطنية إسرائيلية، الأمر الذي سيؤدي إلى تقوية موقف وشرعية عرفات، كون اليسار يؤمن بإمكانية التنسيق معه أو مع من يمثله.
ولعل إصرار زعيم حزب العمل شمعون بيريز في إطار شروطه للانضمام إلى حكومة الوحدة على تنسيق مسألة الانسحاب من غزة مع السلطة الفلسطينية يؤكد ذلك. ثم إن احتمالية فوز الديمقراطيين في الانتخابات الأميركية، وما يحمل ذلك من احتمالية تغيير سياسات الرئيس الأميركي جورج بوش المتطرفة والاستبدال بها أخرى لينة، سيشغل الأميركيين نسبيا عن المسألة الفلسطينية، كما أن اضطرارها في إطار أي جهود تجاه العراق لانحياز أكثر لتدويل المسألة، سينعكس بدوره إيجابا على وضع عرفات بالضرورة في ظل الموقف الأوروبي المتمسك به حتى اللحظة.
الأهداف
لا أحد يصدق هنا أن مطالب الإصلاح هي الهدف الرئيسي للتمردات الصغيرة الذي حدثت، فكلا الطرفين المتصارعين متورط في الفساد حتى أذنيه، وحتى الولايات المتحدة التي تستغل هذه الغاية النبيلة يجب ألا يغيب عن بالنا للحظة أنها هي من شجع وقوى الفساد السلطوي الفلسطيني.
فعندما كانت السلطة تلبي مطالب واشنطن الأمنية والسياسية غضت الأخيرة النظر عن كل مساوئها. وكلنا يتذكر تقرير هيئة الرقابة الفلسطينية الأول عام 1996 حول أسماء رفيعة في السلطة متورطة في الفساد، وحتى استطلاعات الرأي الفلسطيني التي أجريت من قبل مؤسسات فلسطينية ممولة أميركيا أشارت وبشكل متتابع إلى أن 60-70% من الشعب الفلسطيني يرون أن السلطة تمارس الفساد أو هي فاسدة. وفي سنة 1999 صدر تقرير عن مجلس العلاقات الخارجية المقرب من الدوائر الرسمية الأميركية عن آليات محددة لمحاربة الفساد في السلطة الفلسطينية.
كل هذه الدلالات لم تدفع في حينه الولايات المتحدة لأي تحرك جدي، بل إنها كانت توظف للضغط على السلطة لمحاربة المقاومة ولدفعها إلى المزيد من التنازلات، مثلما توظف اليوم بشكل أكبر.
أما على الصعيد الفلسطيني فالسؤال المهم هو: عن أي إصلاح يجري الحديث؟ فمثلا يعرف العقيد محمد دحلان في مقابلة له مع صحيفة الحياة (25 يوليو/تموز 2004) الفساد بالقول "عندما تتاح الفرصة السياسية للحلول ويلقى بها جانبا فهذا فساد"، وعليه فإن التسوية وتلبية مطالبها أصبحت إصلاحا.
والتساؤل المباشر هنا عن موقع المقاومة بالنسبة لدعاوى "الإصلاح"، فالجدل حول المسائل الوطنية يختلف بالضرورة عن جدل مغانم السلطة، وإذا كانت إسرائيل تمعن باحتلالها ولا تعطي لأي حكومة فلسطينية أي آفاق للنجاح، فما الداعي لبقاء المراهنة على التسوية. وإذا بقيت هذه المراهنة فإننا لا يمكن أن نفهم مطالب الإصلاح إلا في إطار شهوة السلطة والاقتراب بالتالي من الأفكار الشارونية كخطوة تنازلية أخرى. وإنهاء الانتفاضة لا يمكن أن يكون مقدمة إلا للهلاك وليس إلى الإصلاح.
الأسلوب
” لا يمكن وصف أحداث غزة بأنها عفوية إذ إن ما جرى تحرك منسق ومبرمج واع لخطابه مدرك لأساليبه ” |
إن أحداث غزة إذا ما درست من زاوية الأسلوب وليس فقط الهدف الذي سعت إليه لا يمكن وصفها بالعفوية، كون ما جرى هو بالفعل تحرك منسق ومبرمج واع لخطابه مدرك لأساليبه. والدليل على ذلك اختياره عنوانا كبيرا مثل العقيد غازي الجبالي متهم بالفساد ووجود حالة شعبية فلسطينية تتقبل بقوة إزالته من موقعه.
كما أن التركيز في الخطاب الإعلامي على عناوين مثل قضايا الفساد والإصلاح تحظى بالإجماع الشعبي دلالة أخرى على تنسيق أصحاب الحدث لخطابهم الإعلامي.
ولعل حرصهم على عدم تطوير الأحداث إلى سفك الدماء يعد إدراكا لحساسية الشعب الفلسطيني لذلك في ظل ما يتعرض له من عدوان، واستخدامهم تسمية كتائب شهداء الأقصى لقيادة هذه الأحداث رغم تضارب بياناتها تجاه مسؤوليتها يبرز ذكاء المحركين لها، كون هذه الجهة تحظى بالاحترام الشعبي لنضالها، ولكن تورطها في الأحداث أساء بالضرورة إليها كونها جهة مهمتها الرئيسية مواجهة الاحتلال.
أما حرصهم على عدم مهاجمة عرفات بشكل سافر انقلابي والتمسك بشرعيته الانتخابية فيبرز إدراكهم لرمزية عرفات بالنسبة للتيار الفتحاوي وتخوفهم من أن يقال إنهم استغلوا حصار إسرائيل له للانقلاب عليه ومهاجمته. وأتى في سياق ذلك غياب العقيد دحلان المتهم بقيادة الأحداث عن تصدر الأحاديث الإعلامية في البدايات، كون ظهوره سيؤدي حتما إلى خسارة متصدري الأحداث ويظهرها منسقة تخدم التغيير الذي تريده الولايات المتحدة وإسرائيل التي سربت في أحاديث وتقارير صحفية عن رؤيتها لدحلان كخليفة محتمل لعرفات.
كما أن استخدامهم سلاح الاختطاف الذي أظهر فاعليته وحضوره الدولي في مشابهة الحالة مع العراق يبرز حاجتهم إلى تصدير الحدث بشكل قوي وفاعل ومستمر، واختيارهم لاختطاف فرنسيين أصدقاء للسلطة الفلسطينية فيه إحراج مباشر للجهة الدولية الوحيدة التي تساند بقوة شرعية عرفات.
في سياق ذلك تجنبت إسرائيل والولايات المتحدة -المستفيد الرئيسي من الأحداث- إعلان نصرتها لأي طرف، مكتفية بتأكيد أن هذه الأحداث تثبت وجهة نظرها بفوضى السلطة وحاجتها للإصلاح، بل إن وزير الخارجية الأميركي كولن باول تحدث عن الأحداث بصورة غريبة حين اعتبرها شأنا داخليا فلسطينيا، وكأن الولايات المتحدة تفرق بين الشأن الداخلي والخارجي لأي كان. والصحيح القول إن هذا الخطاب الذكي تعلم الدرس من أحداث سابقة أن تدخلهم لصالح طرف يحبط عمله فلسطينيا بالضرورة.
أما حياد الدور المصري باستثناء أحاديث إعلامية عابرة من مسؤولين صغار بالدعوة إلى الوحدة الوطنية الفلسطينية، إشارة مهمة إلى عدم رضا المصريين عن مماطلة ورفض عرفات لمطالبهم في تخليه جزئيا عن الأجهزة الأمنية.
وإذا عدنا لتصريحات لارسن التي تحدثت عن فوضى السلطة وصلاحها وخلافة عرفات، التي إما وظفت في تبرير الأحداث أو نسقت لإنجازها، وسواء أكانت المسألة توظيفا أم تنسيقا فالمحصلة أنها تصريحات خدمت الأزمة وأعطت إشارة بدايتها. كل ذلك التركيب يجمع صورة لا يمكن أن تكون بحال عفوية أو غبية أو ذات أهداف قصيرة الأمد.
المقاومة الإسلامية
” خيارات المقاومة الإسلامية تحديدا إما ضبط الفتنة أو تصعيد المقاومة أو كلاهما معا بما يمنع التفاقم والضرر الأكبر مع تحمل الضرر الأصغر ” |
الإشكال هنا هو حياد فصائل المقاومة عن أحداث غزة وتحديدا الحركات الإسلامية ذات الوزن والثقل الشعبي، بشكل سلبي، وحتى التحرك الإيجابي كان متأخرا. والخطأ هنا تصور الموقف كصراع بين تيارين يمكن الحسم لصالح أحدهما أو الظن أن التزام الحياد سيؤدي إلى سلامة موقف المقاومة من التورط في نصرة تيارين كلاهما متورط أصلا في الفساد.
إن هذا التحليل مفرط في خطئه تماما مثلما هو الحياد السلبي منقلب على صاحبه، كون المتأذي والمستهدف في النهاية مما يجري في غزة هو المقاومة ومشروعها، وعليه فتطور الموقف سلبا أو إيجابا نتائجه وخيمة على فصائل المقاومة.
فالفتنة الداخلية تؤدي إلى إرباك ساحة المقاومة من جهة والإساءة إلى مشروعيتها من جهة أخرى، وامتداد الأحداث مؤكد في ضوء الطبيعة العائلية التي تحكم البنية الاجتماعية الفلسطينية التي تؤدي إلى توسع الفتنة وانتشارها. وفي حال تغلب طرف على طرف فإن المؤكد أن مهمته لتأكيد سلطته رهن بمدى ضبطه لفعل المقاومة في غزة ولاحقا في الضفة. وخيارات المقاومة الإسلامية تحديدا إما ضبط الفتنة أو تصعيد المقاومة أو كلاهما معا، بما يمنع التفاقم ويمنع الضرر الأكبر مع تحمل الضرر الأصغر.
الأفق
لقد نجحت الأحداث الأخيرة في انتزاع جزئي للصلاحيات الأمنية من عرفات، ورغم أن ذلك يأتي في إطار المناورة والانحناء للعاصفة من المهم القول إن عرفات تنتزع منه الصلاحيات تباعا.
فمرة عندما عين رئيس وزراء مستحدث، ولاحقا عندما جمع المال في حقيبة وزير مستقل، ومؤخرا وليس أخيرا عندما انتزع الأمن جزئيا منه. وهكذا تختزل كل مرة القضية الفلسطينية إسرائيليا وأميركيا بصلاحيات عرفات كونها السبب الرئيسي في عدم القدرة على إنهاء المقاومة، مع إهمال تام لعامل الاحتلال ومسبباته، وهكذا دواليك حتى يتحقق الهدف إما معه أو بسببه ممثلا إما بإنهاء الانتفاضة أو الاتساق أكثر مع شروط الاحتلال.
ومكمن الخطر هنا أن تجري تسوية الأزمة داخل حركة فتح على حساب مشروع المقاومة الفلسطينية، حيث المقصد الكبير لما يجري، وحتى لا نضيع في عناوين فرعية يجري تصديرها والنفخ بها لتكون الهم الرئيسي، وبالمناسبة فإنه لا يمكن لأحد أن يستفيد مما يجري، لكن المؤكد أن الكل خاسر.
_________
كاتب فلسطيني
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.