آلام المسيح وآلام السجين العراقي


undefined
بقلم/ عبد الله رمضان

– مبادئ كلامية وأفعال إجرامية
– التعذيب في الوطن العربي

– ما الحل؟

بمجرد أن رأيت صورة السجين العراقي لدى قوات الاحتلال الأميركي في سجن "أبو غريب" ببغداد قفزت إلى مخيلتي صورة الممثل الأميركي James Caviezel الذي تقمص شخصية سيدنا عيسى بن مريم عليهما السلام في الفيلم الأخير "آلام المسيح" للمخرج الأسترالي ميل جيبسون، وهو معلق على صليب خشبي وقد سالت الدماء من أنحاء جسده.

وصورة السجين العراقي التي تم عرضها على شاشات التلفاز العالمية وواجهات الصحف في كل مكان تذكرنا كذلك بالصورة التي تمثل السيد المسيح مصلوبا كما نراها في الكنائس واللوحات الدينية المسيحية.

في فيلم آلام المسيح نرى تعذيبا وحشيا مرعبا يقع على إنسان بريء من جنود مستهترين لا يمتلكون أي مشاعر إنسانية، وفي الجانب الآخر نرى السجين العراقي وقد اعتلى صندوقا ومد ذراعيه وقد تدلت أسلاك الكهرباء من يديه وتغطى رأسه بشيء مستطيل -هو في حد ذاته ربما يعتبر جريمة حرب- لا ندري كنهه، وفي لقطة قريبة نرى الجنود الرومان وهم يضحكون ويسخرون، فتدور الكاميرا في حركة بانورامية لتستقر على مجند أميركي برفقة زميلته المجندة وقد وقفا يبتسمان استعدادا لأخذ بعض الصور التذكارية بجانب بعض الأسرى العراقيين الذين تم تصويرهم عراة.

أما السيد المسيح فما يزال يجتهد في حمل صليبه، فنراه ممددا وقد وقع الصليب الضخم فوقه ثم يفرض الرومان المتوحشون على أحد النظارة مساعدته في حمل الصليب، فتصدر الأوامر للأسرى العراقيين أن يتمدد كل منهم أعلى زميله حتى يبدو المشهد وكأنه لقطة من لقطات أفلام البورنو الأميركية.

أعتقد أن الإثارة في مشاهد آلام المسيح ومشاهد السجناء العراقيين هي قاسم مشترك، لكن أتذكر أنني شاهدت آلام المسيح مرة واحدة فقط ولم أثنّها من قسوة ما رأيت رغم أنني شاهدت العديد من أفلام الرعب إلا أن الرعب في آلام المسيح لا يطاق لأنه يؤذي المشاعر، وكذلك الرعب في صور الأسرى العراقيين يؤذي مشاعر أي إنسان حتى لو كان من نوعية الرئيس الأميركي جورج بوش أو رئيس الوزراء البريطاني توني بلير.


لا غرابة أن تحتل القوات الأميركية أي بلد تريد احتلاله ثم تفعل فيه ما تشاء طالما أنها تمتلك القدرة العسكرية التي تحقق لها ما تريد، ولا قيمة لأي احتجاج أو تنديد سواء كان شعبيا أو رسميا يصدر من هنا أو هناك!!

مبادئ كلامية وأفعال إجرامية
لن ألعن أميركا ليل نهار لما سببته وتسببه للعرب والمسلمين، ولن أصب جام غضبي على بريطانيا التي سببت لنا الكثير من المآسي والمتاعب التي نعاني منها منذ الحقبة الاستعمارية القديمة وحتى الحقبة الاستعمارية الجديدة.

ولن أتحدث كثيرا عن التناقض الصارخ بين المبادئ الكلامية والورقية التي تدعو لها أميركا من حقوق الإنسان وتحرير الشعوب، وبين أفعالها التي لم تجلب سوى الاعتداء المبين على حقوق هذا الإنسان. كلنا نعلم ذلك ولا نحتاج إلى الكثير للتدليل عليه، لكن ما هو "الإنسان" الذي تتشدق أميركا بالدعوة إلى حقوقه؟

أعتقد أن تعريف "الإنسان" سيلقى نفس الإشكالية التي لاقاها تعريف "الإرهاب": هل الإنسان يتمثل في ذلك الكائن الذي له عينان وأذنان ويدان ورجلان وقامة وعقل، هل هو الكائن المفكر؟ هل هو الكائن الذي يتميز بأنه يستطيع أن يعبر عن انفعالاته الخاصة كالضحك والبكاء؟ هل هو ذلك الكائن الذي خلقه الله من صلب آدم ومن رحم حواء؟

لو كان الأمر كذلك لما كان هناك أي إشكالية!! لكننا في عصرنا الحاضر بإزاء أنواع متعددة من الإنسان: الإنسان الغربي، الإنسان العبري، الإنسان العربي، الإنسان الأفريقي، الإنسان الصيني، الإنسان الياباني, ولكل نوع من هذه الأنواع سمات خاصة ومواصفات تميزه عن الباقين.

فدم الغربي أهم من أي دم، وإذا تم أسر رجل أو امرأة ينتسب إلى إحدى الدول الغربية تقوم الدنيا ولا تقعد، أما إذا كان أميركيا فربما تحركت البوارج والغواصات لفك أسره، وإذا كان عبريا فإن تنديدات المسؤولين الغربيين لن تكف والتهديد الأميركي لن ينقطع وربما يصل الأمر إلى أكثر من ذلك، أما إذا كان عربيا فكأن شيئا لم يكن، وكأن البشر لم ينقصوا واحدا منهم، والواقع يدعم هذه الرؤية، وما دم الشعب الفلسطيني الذي يسيل يوميا منا ببعيد.

كل هذا رغم أن اتفاقيات حقوق الإنسان لم تفرق بين جنس وجنس أو بلد وبلد، فهي قد اعتمدت على مبدأ المساواة، لكن للأسف فإن هذه المساواة لا تلقى أي صدى ذي قيمة في الواقع المعاش، لأن القوة هي المبدأ السائد وهي التي تفرض رؤيتها على كل المبادئ.

ويصدق ذلك ما نراه بأعيننا، وما صرح به المدير التنفيذي لمنظمة حقوق الإنسان كينيث روث حيث قال "واشنطن قوية جدا الآن لدرجة أنها حين تنتهك حقوق الإنسان تضر بالقضية على مستوى العالم" وهو يقصد قضية حقوق الإنسان.

لذلك فلا غرابة أن تحتل القوات الأميركية أي بلد تريد احتلاله ثم تفعل فيه ما تشاء طالما أنها تمتلك القدرة العسكرية التي تحقق لها ما تريد، ولا قيمة لأي احتجاج أو تنديد سواء كان شعبيا أو رسميا يصدر من هنا أو هناك!!

وأقول ثانية لن نلعن أميركا أو غيرها من الدول التي تسومنا العذاب والتعذيب، لكن هل نظرنا إلى أنفسنا وفتشنا عما يحدث لنا وفي أوطاننا؟


بالاطلاع على تقارير العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان المختلفة فيما يتعلق بالدول العربية نجد ألوانا متعددة من التعذيب والانتهاكات ربما فاقت انتهاكات الأميركان للسجناء العراقيين

التعذيب في الوطن العربي
إن تقارير حقوق الإنسان، وخاصة ما يتعلق منها بالتعذيب داخل السجون، تسم الكثير من بلادنا العربية بالمعاملة غير الإنسانية للسجناء، وتندد بالتعذيب الذي لا يتحمله بشر في معتقلات الأنظمة الحاكمة. فهل تعلم الشعوب العربية حقيقة ذلك؟ أم أن الأمر لا يعدو من قرأ هذه التقارير من بعض السادة المثقفين والمهتمين بمثل هذه الموضوعات والذي لا يمثل شيئا يذكر إذا ما قارناه بالكثرة الكثيرة في أوطاننا التي تجهل ذلك!

بالاطلاع على تقارير منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان المختلفة فيما يتعلق بالدول العربية، نجد ألوانا متعددة من التعذيب والانتهاكات، أعتقد أنها ربما فاقت انتهاكات الأميركان للسجناء العراقيين، وهي نوعان: تعذيب جسدي وإيذاء نفسي، ونجملهما فيما يلي:

– الاحتجاز دون تحقيق لفترات طويلة وكذلك الاعتقال دون تهمة معينة، وقد يصل الاعتقال لسنوات وربما لعشرات السنين، لأن أعمار الأنظمة في أوطاننا تقاس بالقرون، وكذلك احتجاز الأقارب لمحاولة الضغط على المعتقلين وخاصة سجناء الرأي.

– احتجاز المتهمين بمخافر الشرطة في ظروف غير حيوانية، لأنها لا تناسب الحيوانات وبالطبع فإنها لن تناسب الإنسان. فربما يتم حشر الخمسين شخصا في غرفة لا تسع بعض الأشخاص، مما يسبب في الأغلب العديد من الوفيات الناتجة عن الاختناق، وبالطبع لا يعلم عنها أحد لأن مبدأ القوة الذي يسود علاقات الدول ببعضها يسود كذلك علاقة الحكام بشعوبهم، وبالطبع فإن الأقوى من يملك الدبابات والطائرات. أي أن الكفة ليست في صالح الشعوب لكنها في صالح الجيوش، لذلك لا يستطيع المتهم الاعتراض أو اللجوء إلى محكمة وإلا زاد عذابه وتقطعت أوصاله تحت السياط.

– التهديد باغتصاب السجناء والتهديد بالاعتداء الجنسي على أعراض نسائهم وبناتهم وأمهاتهم!!

– التعليق من الأرجل لساعات طويلة وكذلك الصعق بالكهرباء، ومن قبل هذا الضرب القاسي بمؤخرة الأسلحة النارية، وقبل كل ذلك الطريقة الهمجية التي يتم القبض بها على أحد الأشخاص وكأن هذا الشخص يمتلك أسلحة نووية سيفجر بها العالم!! والحقيقة أنه في الغالب يكون صاحب رأي حر أو موقف سياسي مغاير أو عقيدة مختلفة.

– الحرق بالسجائر أو الأدوات المحماة، والمس بالاحتياجات الطبيعية مثل الحد من النوم، وعدم الانتظام في توفير الطعام والماء أو تقديمهما ملوثين، والحرمان من استعمال المراحيض والاستحمام والنشاط الحركي والرعاية الطبية والاتصال الاجتماعي، والعزل داخل السجن وفقدان الاتصال بالعالم الخارجي.

– الإهانات والتعدي اللفظي والحبس الانفرادي حيث يخضع السجناء للعزلة الشديدة والحرمان من التمتع باستخدام الحواس. فهم يقضون في العادة ما بين 22 و24 ساعة في اليوم محبوسين في زنازين صغيرة انفرادية، يأكلون فيها وينامون ويقضون حاجتهم.

وغير ذلك الكثير مما لا يتسع المجال لتعداده، لكنني أنصح القارئ أن يبحث عن إنسان ذاق مرارة السجن في أي بلد من بلداننا، وأعتقد أنه لن يتعب كثيرا في ذلك، ثم يسأله عما كان يحدث له -إذا وجده على قيد الحياة- فسيخبره بأكثر من ذلك. هذا الكلام ليس تلفيقا أو ادعاء، لكن تقارير المنظمات الدولية والحقوقية وربما بعض المنظمات الحكومية لا تخلو من ذكر مثل هذه الانتهاكات.

ولا يسع القارئ الكريم إلا أن يكتب بعض الكلمات الخاصة بالتعذيب في أي موقع من مواقع البحث على شبكة المعلومات الدولية، وسيجد آلاف النتائج الخاصة بالتعذيب والانتهاكات.

ومن هذه الكلمات المفتاحية: التعذيب داخل السجون، أساليب التعذيب، انتهاك حقوق الإنسان. ويمكن كذلك الاطلاع على موقع منظمة العفو الدولية، وقراءة التقارير الخاصة ببلدان العالم.


لمواجهة انتهاكات حقوق الإنسان لابد من تنشيط مؤسسات المجتمع المدني وتفعيل دور الأمم المتحدة في معاقبة الدول المنتهكة لهذه الحقوق، ونشر الوعي الحضاري وقيم التعايش السلمي بين الشعوب

ما الحل؟
– يكمن الحل في تفعيل دور المجتمع المدني ودعم المنظمات الحقوقية والعمل على تكاثرها، وأن تركز كل منظمة على أنواع محددة من الانتهاكات، تحصيها وتستقصيها وتنشرها على الملأ بكافة اللغات وبكافة السبل، حتى يعلم من يقوم بهذه الأفعال الشائنة أنه تحت مراقبة العالم، طالما أنه لم يراقب الله عز وجل من قبل.

– وأن يكون للأمم المتحدة دور فاعل أكثر من مجرد نشر التقارير، يتمثل في فرض عقوبات أو غير ذلك، ولا سيما إذا ما تم استحداث عقوبة "سحب العضوية" من دولة طالما أنها تنتهك حقوق مواطنيها. وفي رأيي أنها ستكون عقوبة رادعة، لأنها تعني أن العالم لن يعترف بدولة تتخذ من الوحشية شعارا لها، دون تفريق بين دولة متخلفة أو أخرى تدعي التقدم.

– الاهتمام بمحو الأمية سواء أمية القراءة والكتابة أو أمية الوعي الحضاري الخاص بحقوق الإنسان والتعايش السلمي بين الشعوب والطوائف العرقية والدينية المختلفة، حتى يكون المواطن على وعي بحقوقه وحقوق الآخرين.

– وفي أوطاننا العربية، يجب الاهتمام بنشر القيم الإسلامية النبيلة، وأن يرتبط المواطنون بحضارتهم الإسلامية العظيمة التي قدمت الخير لكل الناس، وضربت أروع الأمثلة في التسامح والتعايش مع الآخر وحفظ حقوقه، وإشراكه في البناء الحضاري.
ـــــــــــ
كاتب مصري

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.