– لوبن من حروب الاستعمار إلى طريق الإليزيه
– الجبهة الوطنية.. الأيدولوجيا والبرنامج
– أسباب نجاح أقصى اليمين في رئاسيات 2002
-أزمة الديمقراطية التمثيلية في فرنسا والعنصرية
–أزمة الديمقراطية الأوروبية
–العرب وغياب التقاليد السياسية وضعف التعبئة
–القضية الفلسطينية ومحددات التصويت العربي الإسلامي
–اليهود والتأرجح بين اليسار واليمين
لم يكن فوز الرئيس الفرنسي جاك شيراك وحصوله على حوالي 82% من أصوات الناخبين الفرنسيين مقابل حوالي 20% لمنافسه من أقصى اليمين جان ماري لوبن حدثا انتخابيا عاديا بالنسبة للفرنسيين، فقد تفاجأ الجميع في فرنسا مساء الأحد 21 أبريل/نيسان 2002 بنتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية وحضور ممثل أقصى اليمين الفرنسي.
إنها صفعة ما بعدها صفعة للجمهورية الفرنسية ومبادئها الإنسانية. فرنسا التي حشدت أوروبا ضد النمسا وإيطاليا عقب مشاركة أقصى اليمين في الحكم فيهما، ها هي تُضرب في عقر دارها. إنها الإهانة كما علقت إحدى الصحف الفرنسية الأكثر نفوذاً. ها هي فرنسا التنوير والديمقراطية الراقية تُلقَّن أقسى درس في تاريخها من جانب قسم من مواطنيها.
لوبن من حروب الاستعمار إلى طريق الإليزيه
ولد لوبن عام 1928 في شرق فرنسا (لابروتان على الشاطئ الأطلسي) وانخرط في منظمات يمينية بدءا من عام 1947 وتميز بأسلوبه الاستفزازي والعنيف. وفي عام 1953 التحق بقوات المظلية الفرنسية في الهند الصينية. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1955 انضم إلى حركة صغيرة تدافع عن مصالح صغار التجار تسمى بيار بوجاد وشارك في انتخابات يناير/كانون الثاني 1956 التشريعية ليصبح أصغر نائب في البرلمان الفرنسي. لكن في يوليو/تموز 1956 التحق من جديد بالجيش الفرنسي ليشارك في حرب السويس ثم حرب الجزائر، ثم عاد إلى العمل السياسي عام 1957 ليشارك عام 1960 في تأسيس "الجبهة الوطنية من أجل الجزائر الفرنسية".
الجزائر عقدة لوبن
بعد استقلال الجزائر واصل نشاطه السياسي في تشكيلات متطرفة فيشية (نسبة إلى نظام فيشي في الحرب العالمية الثانية) ومناهضة لديغول. ونشط في الحملة الرئاسية لعام 1965 مسانداً مرشح أقصى اليمين (ممثل الذين يتحسرون لفقدان "الجزائر الفرنسية") الذي لم يحصل إلا على 5.27% من الأصوات.
وفي 1972 أنشأ لوبن الجبهة الوطنية وشارك في الانتخابات الرئاسية عام 1976 ولم يحز إلا على 0.7% من الأصوات، فخفت صوته السياسي ولم يعد إلى الواجهة إلا بعد عام 1981 حيث لم يتمكن من المشاركة في انتخابات تلك السنة لأنه لم يتمكن من جمع 500 توقيع من قبل المنتخبين المحليين كما ينص القانون على ذلك.
ولما وصل اليسار بقيادة فرانسوا ميتران إلى الحكم استغل ميتران الجبهة الوطنية لتقسيم اليمين. لكن لوبن بخطاباته الشعبوية والمناوئة لليسار ولعبه على أوتار الفرنسيين الحساسة (الهجرة، البطالة، اللاأمن) مكن حزبه من السيطرة على بلدية درو جنوب غرب باريس في انتخابات عام 1983.
وفي عام 1988 حصل لوبن على 14.4% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية وعلى 15% من الأصوات في انتخابات 1995. أما في عام 2002 فإنه حاز على 16.86%، أي أنه ربح حوالي 900 ألف صوت إضافي مقارنة بانتخابات 1995. أما في الانتخابات البرلمانية فإن أعلى نسبة حصلت عليها الجبهة الوطنية كانت في الدور الأول عام 1997 بنسبة 15% من الأصوات. لكنها شهدت تراجعاً (9% من الأصوات) في الانتخابات الأوروبية (البرلمان الأوروبي) عام 1999. بعد هذه المسيرة التاريخية يتبين أن الشيء الأكيد فيها أن تيار أقصى اليمين في تصاعد مستمر في الانتخابات الرئاسية منذ عام 1974.
غولنيش القانوني العنصري!
يحيط بلوبن مجموعة من مساعديه الأوفياء، أبرزهم برونو غولنيش المندوب العام للجبهة والنائب في البرلمان الأوروبي (52 عاما، أستاذ القانون الدولي في جامعة ليون 3)، وهو الرجل الثاني في الجبهة والمرشح لخلافة لوبن. غولنيش هو المنظر الأيدولوجي للجبهة الوطنية. هناك أيضاً أوليفي مارتينيلي (32 عاما) مدير ديوان لوبن ومحرر خطاباته ويعتبر المنظر الأيدولوجي الشاب للحزب. ومارين لوبن ابنة لوبن العضوة في المكتب السياسي للجبهة بدل شقيقتها الأكبر سناً منها والتي التحقت بميغري بعد انشقاق 1999.
الجبهة الوطنية.. الأيدولوجيا والبرنامج
” لوبن ليس مفكرا أو منظرا للجبهة الوطنية، بل يترك ذلك لغيره، واختصاصه إتقان الخطاب الشعبوي العاطفي والتخويفي والتلاعب بالألفاظ والهجوم على الطبقة السياسية والتهريج السياسي ” |
منذ تأسيسها عام 1972 عملت الجبهة الوطنية على توحيد مختلف القوى اليمينية المتطرفة في فرنسا. ومنذ بدايتها وبحكم ماضي زعيمها لوبن تسيطر عليها ما يمكن أن نسميه "عقدة الجزائر" ليس فقط على توجهات الحزب بل على الخلفية السياسية والاجتماعية للمنخرطين فيه حيث يضم قدماء المحاربين وكل الذين يشعرون بخيانة الدول الفرنسة لهم وللمجد الاستعماري الفرنسي.
الجبهة الوطنية تعتبر أن فرنسا في خطر محدق يتمثل أساساً في العرب والمسلمين الذين يغزونها يومياً. ومثل باقي التشكيلات اليمينية المتطرفة في أوروبا تعتبر بطريقة أو بأخرى في النازية مرجعية أيدولوجية وعملية. وتأثرها بالنازية يظهر جلياً في تحديدها للأعداء الذين هم على التوالي: اليهود، العرب والمسلمون والماسونيون (أتباع الحركة الماسونية). ويتحدث أنصار اليمين المتطرف عموماً والجبهة الوطنية خصوصاً عن "المؤامرة اليهودية الماسونية". أما زعيمها لوبن فقد أدين من قبل العدالة الفرنسية عدة مرات بتهم العنصرية واللاسامية والتحريض على الكراهية العرقية خاصة بعد أن اعتبر في 1987 ثم في 1991 أن الغرف الغازية التي أُقحم فيها اليهود إبان الحرب العالمية من تفاصيل تاريخ هذه الحرب، وفي 1996 لما قال إن "الأجناس غير متساوية".
حضور نقابي هامشي
ورغم محاولاتها المتكررة التغلغل والتسلل داخل مختلف البنى الاجتماعية فإن الجبهة الوطنية لم تنجح في حشد المزيد من الأنصار وبقيت الجمعيات القريبة منها تمثل أقلية لا وزن لها مقارنة مع الجمعيات الأخرى المناوئة لليمين المتطرف عموماً. لكن هذا لم يمنع هذا الحزب من مد شبكاته داخل المجتمع حيث سعى لأن تكون له نقابات في مختلف القطاعات، وله بالفعل نقابات في سلك التعليم من الابتدائي حتى الثانوي (لكنها لم تحقق نجاحاً يذكر)، وفي الشرطة (الفدرالية المهنية الحرة للشرطة ذات الوزن الضعيف)، والهيئات التمثيلية لأجراء المساكن الاجتماعية (التي تتمركز فيها الأسر المهاجرة). لكن أنصار الجبهة الوطنية في هذه الجمعيات بقوا هامشيين عددياً، كما أن قانون 1998 أصر على استقلالية هذه الجمعيات عن كل الأحزاب السياسية مما أقصى أنصار الجبهة.
هناك أيضاً نشاطات لهذا الحزب المتطرف في صفوف رجال الأعمال والعمال في مختلف المؤسسات. وللجبهة أيضاً تنظيمات طلابية في بعض الجامعات، لكنها تفتقر إلى القاعدة الواسعة التي تحظى بها التنظيمات الطلابية الأخرى. ومن أنشط تنظيمات هذا الحزب المتطرف "الجبهة الوطنية للشباب" المعروفة بسلوكها العنيف وعملها على إثارة البلبلة أثناء اجتماعات خصومها.
الخطر النائم
وحتى وإن كانت النقابات والجمعيات الجمهورية قوية وتقف حازمة أمام شبكات الجبهة الوطنية فإن الخطر حسب ما أوردته صحيفة "لوموند" يتمثل في إمكانية تحريك "الشبكات النائمة" للجبهة والتي تتشكل من هؤلاء الذين يتسللون في النقابات والجمعيات الجمهورية دون الإفصاح عن انتمائهم والذين شكلوا جمعيات اختفت منذ سنوات.
وللإشارة فإن شبكات الجبهة الوطنية تعرضت لهزة عنيفة في 1999 عقب الانشقاق، لكن اليمين المتطرف وخاصة ميغري زعيم الحركة الوطنية الجمهورية يحاول إعادة تنظيم هذه الشبكات لأنه -على عكس لوبان- من أنصار إستراتيجية التغلغل في المجتمع والعمل من الأسفل للوصول إلى السلطة، وعليه فهو يولي أهمية كبيرة للانتخابات البلدية فيما يهتم لوبن بالانتخابات الرئاسية أساساً. وبحكم رفضه المطلق لاقتسام السلطة لا يثق لوبن بأجهزة الحزب.
نشاط إعلامي
للجبهة الوطنية أسبوعية "ناسيونال هيبدو"، إلى جانب مجموعة من العناوين تسير في فلكها أو تعبر عن فكرها، منها ما يصدر عن مختلف التيارات الأيدولوجية داخل الحزب، ومنها ما يصدر عن شباب الجبهة الوطنية أو التنظيمات الجامعية الموالية لها. وما يميز الجبهة الوطنية هو إنتاجها النظري الغزير لا سيما العمل التنظيري الذي قام به ميغري (قبل أن يشكل حزبه الخاص به) وغيره، حيث دأب ميغري منذ التحاقه بالجبهة الوطنية رسمياً في 1985 (كان في التجمع من أجل الجمهورية، حزب شيراك) على تنظير فكر الجبهة الوطنية وإعادة تحديد جملة من المفاهيم الأساسية مثل فرنسا، الديمقراطية، الأمة والشعب (الذي يعطيه بعداً عرقياً) وأوروبا.
أيدولوجياً تتجاذب الجبهة الوطنية -كما يقول روني مونزا المتخصص في شؤون اليمين المتطرف الفرنسي- تيارات متعددة (وطنية، وطنية كاثوليكية تقليدية، كاثوليكية متطرفة..) لا تتفق دائماً على بعض القضايا مثل العلاقة بين فرنسا وأقاليمها ذات الخصوصيات المحلية، والعلاقة بين فرنسا وأوروبا.
” يرى منظرو الجبهة أن تحالفاً بين فرنسا تحت راية الجبهة وأنظمة عربية تسلطية سيسمح بترحيل المهاجرين العرب إلى بلدانهم، وأنه على الجبهة أن تطور العلاقات مع الأنظمة العربية المتسامحة مع المسيحيين مثل العراق والمغرب ” |
العولمة والإسلام خطران
والشيء نفسه يلاحظ في مواقفها الخارجية، فمثلاً انقسم كوادرها حول الأزمة اليوغسلافية، فمنهم من ساند الصرب (باسم الكفاح ضد الإسلام) ومنهم من عارض أي تدخل للقوات الفرنسية في صراعات لا تعنيها خاصة إذا كان ذلك تحت قيادة أميركية. لوبن وحزبه يرون أن الجيش الفرنسي عليه أن يتدخل في ضواحي المدن الفرنسية الخارجة عن القانون وليس بعيداً في الخارج. العولمة هي العدو الدولي للجبهة بعد اختفاء الشيوعية.
أما الإسلام فكان وسيبقى الخطر على فرنسا أوروبا. يرى منظرو الجبهة أن تحالفاً بين فرنسا تحت راية الجبهة وأنظمة عربية تسلطية سيسمح بترحيل المهاجرين العرب إلى بلدانهم، وأنه على الجبهة أن تطور العلاقات مع الأنظمة العربية المتسامحة مع المسيحيين مثل العراق والمغرب.
أمن وعداء للباحثين
ما يميز الجبهة الوطنية أيضاً هو وجود تنظيم أمني خاص (مصلحة الحماية والأمن) الذي يتولى ضمان أمن مظاهرات ومسيرات الجبهة، ويتميز أفراد هذه المصلحة بالعنف والأسلوب الخشن في التعامل مع الناس بمن فيهم الصحفيين. كما ينفرد أنصار الجبهة بعداء للباحثين الذين يدرسون الجبهة حيث تعرض أحد المختصين في هذه التشكيلة السياسية إلى تهديدات بالقتل والشتم والاستفزاز.
برنامج لوبن الرئاسي
أما البرنامج الرئاسي للوبن (وهو صورة صادقة لأيدولوجية حزبه المتطرف) فيمكن تلخيصه في النقاط التالية:
أسباب نجاح اليمين المتطرف في رئاسيات 2002
الحقيقة أنه رغم الضجة الإعلامية والصدمة السياسية التي أحدثها فوز لوبن في الدور الأول من الانتخابات فإنه لا يمكن الحديث عن صعود قوي لليمين المتطرف في فرنسا، ذلك أن ما حدث هو أساساً هزيمة للحزب الاشتراكي (حزب جوسبان) وتراجعاً قوياً للتجمع من أجل الجمهورية (حزب شيراك) وليس انتصاراً ساحقاً لليمين المتطرف.
أسباب فوز لوبن متشعبة، فمنها ما هو دولي كأحداث 11 سبتمبر/ أيلول وانعكاساتها محلياً والعلاقة مع المهاجرين العرب، حيث يرى غلاة اليمين أن في هذه الأحداث مواجهة بين الغرب المسيحي والإسلام. ومنها ما هو إقليمي شرق أوسطي ويتعلق بانتقال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى فرنسا التي أصبحت مسرحاً لمظاهرات ومظاهرات مضادة بين اليهود والعرب والمسلمين، مما أثار دون شك حفيظة المتطرفين الحاقدين على اليهود والعرب. لكن الأسباب التي كانت حاسمة في تحديد نتيجة الانتخابات هي فرنسية/فرنسية، ونسرد أهمها في الآتي:
إلى هذه الأسباب (وأخرى) تضاف مناورات لوبن المكيافيلية في الأيام الأخيرة الثلاثة من الحملة والتي أثمرت بنجاح وجلبت له أصواتاً كانت مترددة. إذ تعمد تجنب الحديث عن الهجرة وأدخل بعض الاعتدال في خطابه الملتهب عادة. كما دأب على ترديد عبارة "اجتماعياً أنا من اليسار، اقتصادياً من اليمين، ووطنياً من فرنسا". ومثل هذه العبارات الرنانة التي تجد جذورها في خطاب اليمين المتطرف الفرنسي في الثلاثينيات من القرن الماضي تجد صدى واسعاً لدى الطبقات الشعبية الفرنسية التي يصعب عليها فك تشفير الخطاب الأيدولوجي للجبهة الوطنية، خاصة وأن المصوتين للوبن يتميزون بضعف مستواهم التعليمي أو بمحدوديته الكبيرة (فئة الكوادر العليا والمهن الحرة لم تصوت للوبن إلا بنسبة 9%).
كما رفع لوبن شعارات تعود إلى عهد فيشي مثل "العمل والأسرة والوطن" الذي يلقى تأييداً في بعض الأوساط المحافظة التي يبدو وأنها لم تسترح لسياسة الحزب الاشتراكي فيما يخص بعض القضايا الاجتماعية مثل زواج الشاذين جنسياً، فيما يعد لوبن مثلاً بالمحافظة على الأسرة ومنع الإجهاض (الذي يعمل به في فرنسا منذ منتصف السبعينيات).
أزمة الديمقراطية التمثيلية في فرنسا والعنصرية
الجدير بالملاحظة هو أن الأحزاب البرلمانية (التي لها نواب في البرلمان) شهدت تراجعاً كبيرا في هذه الانتخابات. الأحزاب اليمينية مجتمعة لم تحصل إلا على 33.7% من الأصوات مقابل 32.4% للأحزاب اليسارية. بصفة عامة اليمين فقد أربعة ملايين صوت مقارنة مع عام 1995 واليسار المتعدد (الحزب الاشتراكي، الخضر، الحزب الشيوعي، حركة المواطنين التي يتزعمها شوفنمان الذي استقال العام الماضي من الحكومة) فقد مليون ونصف مليون من الأصوات مقارنة مع 1995.
من حيث العدد ما خسره اليسار البرلماني هو ما ربحه اليسار المتطرف وتقدر بأكثر من مليون و385 ألف صوت. لكن هذا لا يعني أن هذا الأخير أخذ أصواتاً كانت محسوبة على اليسار الحكومي، لأن المشهد السياسي الفرنسي تميز بنوع من الخلط في التوجهات السياسية في سلوك الناخبين؛ عدد كبير ممن كانوا يصوتوا للحزب الشيوعي صوتوا للجبهة الوطنية.
تصويت بين الاحتجاجية والعنصرية
انحسار الأحزاب التقليدية البرلمانية عبر عنه بما سمي بـ"التصويت الاحتجاجي"، أي التصويت لصالح اليمين المتطرف (الجبهة الوطنية والحركة الوطنية الجمهورية) واليسار المتطرف (حزب العمال، النضال العمالي، الرابطة الشيوعية الثورية وكلها تشكيلات تروتسكية). ويظهر التدقيق في النتائج أن هزيمة جوسبان (18.16% من الأصوات فقط) حجبت هزيمة شيراك الكبيرة (88.19% من الأصوات) لأن هذا الأخير سجل أسوأ نتيجة يحصل عليها رئيس مرشح في تاريخ فرنسا.
وعلى عكس ما يقال فإن التصويت لليمين المتطرف ليس احتجاجاً على الأحزاب السياسية التقليدية (اليمينية واليسارية) ومعاقبة لها، وإنما يعبر في حقيقة الأمر عن اقتناع سياسي راسخ لدى الذين أدلوا بأصواتهم لهذا التيار المتطرف، فهناك مجموعة من المعطيات تثبت صحة ما نقول، ونلخصها في النقاط التالية:
وعليه فإن التصويت الفرنسي لليمين المتطرف يعبر عن قناعات سياسية راسخة.
أزمة الديمقراطية الأوروبية
انتصار الجبهة الوطنية الفرنسية لا يأتي من فراغ بل يندرج ضمن سياق سياسي أوروبي، حيث تشهد أوروبا الغربية صعوداً لقوى اليمين المتطرف لا مثيل له منذ الحرب العالمية الثانية. طبعاً اليمين المتطرف ليس ظاهرة جديدة في أوروبا، لكن الجديد هو هذه النقلة النوعية الخطيرة التي تكمن في مشاركته في السلطة في العديد من الدول.
أما الدول الأوروبية الأخرى التي بقيت إلى حد الآن في منأى عن المد اليميني المتطرف فهي بريطانيا وألمانيا وإسبانيا. ويبدو أن هذا يُفسر بتربع الأحزاب الكبرى على المعارضة أو على الحكم بقوة مما سمح لها بالمناورة دون الحاجة لتحالفات سياسية غير طبيعية، بينما ضعف الأحزاب اليمينية التقليدية في دول مثل إيطاليا والنمسا جعلها تعجز عن الحصول على الأغلبية وبالتالي القبول بائتلافات حكومية يلعب فيها اليمين المتطرف دور الحكم. مختلف الأحزاب الأوروبية اليمنية المتطرفة تسعى للتحالف لا سيما في البرلمان الأوروبي، لكن إلى حد الساعة لم تتمكن من إنشاء ما يمكن أن نسميه بـ"أممية يمينية متطرفة". أما القاسم المشترك للأحزاب اليمينية المتطرفة الأوروبية فيبقى دون منازع الهجرة.
العرب وغياب التقاليد السياسية وضعف التعبئة
رغم أن الناخبين الفرنسيين من أصل عربي أو بربري (مغاربة أساساً) يمثلون حوالي مليون ونصف مليون ناخب، فإنهم لا يشكلون ثقلاً سياسياً في الانتخابات وذلك لجملة من الأسباب نلخصها في عاملين:
اهتمام انتخابي بالعرب
تولي الطبقة السياسية الفرنسية منذ مدة قصيرة اهتماماً بالفرنسيين من أصل عربي طمعاً في أصواتهم. وتعد الانتخابات الرئاسية الحالية مقياساً لمدى وعي التشكيلات السياسية بالثقل الانتخابي للفرنسيين من أصل عربي. وقد سعى أغلب المرشحين إلى كسب أصواتهم.
أول من وجه حملته الانتخابية قبل الأوان باتجاههم هو جان بيار شوفنمان (وزير الداخلية المستقيل من حكومة جوسبان) الذي زار الجزائر والمغرب وتونس بحثاً عن دعم انتخابي خاصة وأن المغرب وتونس تتحكمان بطريقة أو بأخرى في السلوك الانتخابي لمواطنيهما الذين يحملون الجنسية الفرنسية. أما على المستوى الداخلي فقد قام شوفنمان بزيارة مسجد باريس يوم عيد الأضحى 2002 (نقلت القنوات التلفزيونية صوراً عنها) وهي المبادرة الأولى من نوعها في فرنسا.
المرشح الآخر الذي حاول جلب أصواتهم هو جاك شيراك. ويبدي بعض الفرنسيين من أصل جزائري تقديراً له بعد زيارته حي باب الوادي الشعبي بالعاصمة الجزائرية المنكوب بعد الفيضانات التي تعرض لها.
عموماً كان التصويت العربي الإسلامي في السابق يساري التوجه، لكن الوضع تغير حيث يصوت البعض لأحزاب يمينية جمهورية. ويبدو أن شيراك يعي هذه النقلة النوعية حيث تبنى إستراتيجية واضحة تهدف إلى كسب تعاطفهم ومن ثم أصواتهم حيث استقبل بمناسبة السنة الجديدة 2002 ممثلين عن الجمعيات والهيئات العربية الإسلامية في قصر الإليزيه (رئاسة الجمهورية) لتهنئتهم.
غفلة سياسية وأيدولوجية
رغم أن الجالية العربية الإسلامية من أول المستهدفين من قبل اليمين المتطرف فإنها تتصرف وكأن الأمر لا يهمها. هذه اللامبالاة أسهمت في تقوية التيار انتخابياً مما جعله لا يهدد الأجانب فحسب بل المبادئ المؤسسة للجمهورية الفرنسية. ورغم أن الفرنسيين من أصل عربي يمقتونه (ولو أن قلة قليلة جداً منهم تصوت لصالحه!)، فإنهم لا يترجمون مواقفهم إلى ممارسات عملية.
كما أن البعض منهم يخلط بين الأمور ويبدي حالة من اللاوعي السياسي لا تبشر بخير، إذ وقع بعض الفرنسيين من أصل عربي في الخطأ نفسه الذي وقع فيه بعض اليهود، إذ يتفهم بعضهم مواقف اليمين المتطرف مادام ضد اليهود! إنها غفلة سياسية تعبر عن جهل لأيدولوجية هذا التيار العنصري. الحقيقة أن اليمين المتطرف عندما يبدأ باليهود يصل حتماً إلى العرب إن عاجلاً أو آجلاً، وعندما يبدأ بالعرب يصل حتماً إلى اليهود إن عاجلاً أو آجلاً. ويعد هذا من الثوابت المركزية في أيدولوجيته.
أغلبية الجالية اليهودية تعي هذه المسألة جيداً وقد اعتبرت وتعتبر بعض الأوساط اليهودية المعتدلة -في نقاشات شخصية غير علنية- أن الجالية العربية الإسلامية تشكل الدرع الواقي الذي سيمنح الوقت الكافي لليهود لحزم أمتعتهم والرحيل في حال وصول اليمين المتطرف إلى السلطة. والجدير بالملاحظة أن الجبهة الوطنية تعمل على استغلال الإدراك الخاطئ لبعض العرب واليهود لأيدولوجيتها الحقيقية للتمظهر بأنها غير معادية لليهود مثلاً كما فعل لوبن في حملته الانتخابية لزرع الشك في صفوف بعض العرب مستهدفاً بذلك المزيد من الانقسام بين يهود فرنسا وعربها. هذا الانقسام يخدم بطبيعة الحال اليمين المتطرف بتدعيم صفوفه بفرنسيين ملوا من الخلافات اليهودية العربية بسبب فلسطين والتي أصبحت فرنسا مسرحاً لها.
القضية الفلسطينية ومحددات التصويت العربي الإسلامي
الحقيقة أنه من الصعب في فرنسا معرفة لصالح من تصوت مختلف الجاليات ومنها العربية، ذلك أن القانون يمنع عمليات سبر الآراء على أساس عرقي أو ديني وعليه سنحاول تحديد السلوك الانتخابي العربي عن طريق بعض المؤشرات.
منذ اندلاع انتفاضة الأقصى أصبحت القضية الفلسطينية محدداً لحكم الناخبين من أصل عربي على مختلف المرشحين. ومع تصعيد العدوان الإسرائيلي في مناطق الحكم الذاتي الفلسطينية وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة أصبحت القضية الفلسطينية محدداً رئيسياً لسلوكهم الانتخابي. ويبدون ميلاً لشيراك الذي يرون في مواقفه دعماً للفلسطينيين، ويتذكرون مناوشته مع الجنود الإسرائيليين في القدس المحتلة، بينما ينتقدون جوسبان الذي كان قد وصف في زيارته لإسرائيل أعمال حزب الله بالإرهابية، ويعتبرون مواقفه موالية لإسرائيل.
وقد ظهر هذا الميل لشيراك وضد جوسبان في المسيرات التي شهدتها باريس تضامناً مع الشعب الفلسطيني منذ مارس/آذار 2002. ولمعاقبة جوسبان على مواقفه أعطت بعض الجمعيات القريبة من التيار الإسلامي وأئمة بعض المساجد (بل بالأحرى قاعات صلاة) تعليمات (غير رسمية) بالتصويت ضد جوسبان، لكنها لم تحدد اسم المرشح الذي يجب دعمه.
وقد تكون الأزمة التي عرفتها الجزائر قد أثرت في السلوك الانتخابي للفرنسيين من أصل جزائري. فإلى جانب القضية الفلسطينية فإن الحزب الاشتراكي عُرف بمواقفه المنتقدة للحكم الجزائري ومساندته لأنصار الإسلاميين عبر الأممية الاشتراكية. وعليه فالتصويت ضد جوسبان قد تكون حكمته اعتبارات عربية إسلامية (فلسطين) وأصلية (الموطن الأصلي، الجزائر).
جون بيار شوفنمان الذي كان قد استقال من منصب وزير الدفاع أثناء أزمة الخليج مما ترك أثراً في نفوس العرب المسلمين من مساندي الشعب العراقي قد يكون حصل هو الآخر على أصوات عربية.
مامير مرشح الخضر قد يكون أيضاً استفاد من أصوات عربية، خاصة وأنه انفرد في الحملة الانتخابية بدعمه للشعب الفلسطيني حيث شارك في المسيرة الضخمة التي نظمت في باريس تضامناً مع الفلسطينيين، فترك انطباعاً حسناً لدى الفرنسيين من أصل عربي. وقد أسهم في شعبية مامير في الأوساط العربية الإسلامية حدث هام فريد من نوعه، إذ اعتدى مجموعة من الشباب الفرنسيين اليهود على مامير أثناء حملته الانتخابية في لوماري (حي يهودي) في باريس. وقد مارس الإعلام الفرنسي تعتيما على هذا الاعتداء ومر بسرعة فائقة عن هذه الحادثة فيما تأخرت بعض القنوات التلفزيونية في نقل الحدث وبث صوره، وتلك التي بثت هذه الصور رافقتها بتعليقات منحازة مقللة من أهمية هذا الاعتداء الذي تعرض له مرشح للانتخابات الرئاسية!
ومن خلال ملاحظتنا للسلوك الانتخابي العربي الإسلامي يمكن القول إن العرب والمسلمين صوتوا في معظمهم لكل من شوفنمان ومامير واليسار المتطرف وشيراك وبنسبة ضعيفة لجوسبان. لكن من الصعب جداً تحديد من هو المستفيد الأكبر من أصواتهم، أما الخاسر الأكبر فهو الحزب الاشتراكي.
اليهود والتأرجح بين اليسار واليمين
” المثير للانتباه أن المسؤولين الإسرائيليين الذي هاجموا هايدر النمساوي لزموا الصمت تجاه لوبن لامتناعه في حملته الانتخابية عن أية مواقف معادية للسامية حسبما يقول بعضهم ” |
بعض المعطيات والمؤشرات تظهر أن اليهود الأرثوذكس الفرنسيين لا يشاركون كثيراً في الانتخابات، أما باقي اليهود فإن سلوكهم الانتخابي يبدو وأنه يتأرجح بين اليسار واليمين. مواقف جوسبان تجاه إسرائيل تلقى ترحيباً في أوساطهم، لكن هذا لا يعني أنهم لا يصوتون لشيراك، خاصة وأنه أول رئيس فرنسي اعترف رسمياً بمسؤولية الدولة الفرنسية عن مأساة اليهود الفرنسيين الذين أُبعدوا إبان الحرب العالمية وأُرسلوا إلى المراكز النازية. وقد كان ميتران طوال حكمه (14 سنة) قد رفض الاعتراف بمسؤولية الدولة الفرنسية في هذه القضية واكتفى بالقول إن ما حدث من مسؤولية نظام فاشي وليس فرنسا. ومن هنا فاليهود لا ينسون قرار شيراك التاريخي هذا، كما أن حملة شيراك تميزت بزيارة لكنيس يهودي ولمراكز يهودية أخرى.
لكن يبدو -وقد نخطئ في هذه النقطة- أن بعض المؤسسات والجمعيات اليهودية النافذة قد تكون حثت بصفة غير رسمية للتصويت لصالح جوسبان. وللتذكير فإن عدداً كبيراً من أبرز المثقفين اليهود الفرنسيين هم من اليسار، لكنهم ليسوا بالضرورة من أنصار جوسبان، كما أن البعض منهم أكثر دفاعاً (وفاعلية) في مناصرة الفلسطينيين من الكثير من العرب.
لكن الكثير من يهود فرنسا لا يشاطرونه الرأي ويعتبرون أن لوبن يستهدف اليهود والعرب على حد سواء. واستياء بعض اليهود من تصريحاته جعله يدعي بأن كلامه لم يُفهم وأخرج عن إطاره الصحيح، لكنه لا يحتج على الصحيفة الإسرائيلية ولا يصدر تكذيباً في هذه الصحيفة وهذا ما يعني أنه نطق فعلاً بهذه العبارات. وحتى يبعد الشكوك نادى (في مقالة قصيرة في جريدة "لوموند" الفرنسية) بالتصويت لشيراك من أجل قطع الطريق أمام لوبن الذي يعرف الجميع خطابه العنصري والمعادي للأجانب على حد قوله.
يبدو أن كوكيرمان الذي يقود حملة دعم واسعة لإسرائيل في فرنسا قد تأثر بمواقف لوبن المساندة لإسرائيل، حيث كان لوبن السياسي الفرنسي الوحيد الذي ساند شارون، وبإدراج لوبن الاعتداءات ضد المعابد والمؤسسات اليهودية في فرنسا في ظاهرة العنف التي تعرفها البلاد والتي يرى لوبن أن سببها الهجرة العربية الإسلامية. وهذا يعني أن كوكيرمان يؤمن بأن كل هذه الاعتداءات هي من فعل العرب والمسلمين وهذا غير صحيح.
في إسرائيل مع لوبن
إذا كان المشهد الانتخابي الفرنسي لا يسمح بمعرفة مدى التصويت اليهودي لليمين المتطرف (بسبب القانون المشار إليه)، فإن تصويت الفرنسيين في إسرائيل -أي اليهود الفرنسيين في إسرائيل- يعطينا إجابة لا ريبة فيها. تشير الأرقام التي أوردتها يومية "لاكروا" الفرنسية الكاثوليكية التوجه (لم تعلق وسائل الإعلام الفرنسية على هذه الأرقام!) أن لوبن (مرشح الجبهة الوطنية) حصل على 4.57% من الأصوات، وميغري (مرشح الحركة الوطنية الجمهورية) حاز على 2.83%. بمعنى أن اليمين المتطرف حصل على 7.40% من أصوات اليهود الفرنسيين في إسرائيل. فيما حصل جوسبان على 34.96% وآلان مادلان (مرشح الديمقراطية الليبرالية؛ من أقطاب الليبراليين الفرنسيين) على 4.31%. ولم يشر إلى النسبة التي حصل عليها شيراك.
تقارب تكتيكي
مواقف لوبن العنصرية والمعادية للسامية لا شك فيها، بل إن القضاء الفرنسي أدانه مرات عديدة بسبب مواقفه هذه. لكن حملته الانتخابية هذه المرة خلت من أي تهجم على اليهود أو إسرائيل بل يبدو أنه استغل الاعتداءات على المؤسسات اليهودية للتقرب من اليهود ومحاولة إخفاء مواقفه الحقيقية، إذ أكثر من التصريحات للصحافة الإسرائيلية كما دافع عن إسرائيل مؤكداً أنه غير معاد للسامية وأن يرغب في أن يدعى لزيارة القدس لوضع رسالة سلام في الحائط الغربي. كما برر لوبن وساند اجتياح مدن الحكم الذاتي الفلسطينية من قبل الجيش الإسرائيلي عندما صرح في حوار مطول أدلى به لهآرتس الإسرائيلية (نُشر غداة الدور الأول من الانتخابات) أنه "يتفهم جيداً إسرائيل التي تسعى للدفاع عن مواطنيها ضد الإرهاب". وللدفاع عن سياسة شارون يذكّر لوبن بحربه في الجزائر عندما حارب الإرهاب على حد قوله.
والمثير للانتباه أن المسؤولين الإسرائيليين الذي هاجموا هايدر النمساوي لزموا الصمت تجاه لوبن لامتناعه في حملته الانتخابية عن أية مواقف معادية للسامية حسبما يقول بعضهم. لكنهم ليسوا كلهم على الموقف نفسه، فبعضهم دعا صراحة يهود فرنسا للرحيل لإسرائيل. وقد يفهم من الموقف اليهودي هذا استياء من شيراك وجوسبان على حد السواء حيث إن شارون كان قد صرح في مارس/آذار 2002 أنه "في مواجهة ستة ملايين عربي ومسلم قد يصبح 700 ألف يهودي في خطر". وكانت "جيروزالم بوست" (1 مارس/ آذار 2002 ص 9) قد اعتبرت أن شيراك وجوسبان لا يتخذان المواقف اللازمة لأنهما بحاجة لأصوات الملايين من العرب. وإبان الاعتداءات التي تعرضت لها مؤسسات يهودية فرنسية طالب وزراء إسرائيليون من يهود فرنسا الرحيل لإسرائيل. وقد أنشأت حكومة شارون لجنة وزارية خاصة بهجرة اليهود الفرنسيين. لكن لم يستقر في إسرائيل عام 2001 إلا 1200 من يهود فرنسا.
طبعاً التصويت الانتخابي والرفض الشعبي (مسيرات تلقائية ثم منظمة) الواسع لطروحات اليمين المتطرف سيحولان دون وصوله إلى الحكم، لكن في تاريخ فرنسا سيكون هناك ما قبل وما بعد الأحد الأسود. إنها بداية لنقاش فرنسي/ فرنسي طويل بشأن مؤسسات الجمهورية الفرنسية ومصير مبادئها الكونية التوجه.
_______________
*كاتب وباحث جزائري مقيم في فرنسا