العمليات الفدائية.. ماضيا وحاضرا ومستقبلا
-تحول في الأهداف
–غيابها بسبب التعاون الأمني
–عودة قوية مع انتفاضة الأقصى
–استنزاف غير محتمل
–ماذا بعد؟
لو أردنا وضع عنوان ما لمسلسل التحركات السياسية خلال الأسابيع الأخيرة لوجدنا أن عنوان "العمليات الاستشهادية" هو الأنسب دون منازع، سواء لجهة الموقف الشعبي العربي والإسلامي أم لجهة الموقف الأميركي وتاليا الموقف العربي الرسمي.
تبدأ القصة بذلك الإصرار الأميركي على دفع الأنظمة العربية إلى إدانة العمليات الاستشهادية، حيث طالبها الرئيس الأميركي أولا بعدم استخدام مصطلح الاستشهاديين في وسائل الإعلام الرسمية لأن الاستشهاديين مجرد "قتلة" حسب وصفه. ثم تواصلت الضغوط وصولا إلى الموقف الرسمي العربي الذي تبلور خلال قمة شرم الشيخ التي عقدت يوم 11 مايو/أيار الجاري بحضور الرئيسين المصري حسني مبارك والسوري حافظ الأسد إلى جانب ولي العهد السعودي عبد الله بن عبد العزيز.
” إدانة العمليات الاستشهادية أصبحت موضع توافق في أوساط الأنظمة العربية استجابة للضغط الأميركي ” |
لم يذكر بيان القمة مصطلح العمليات الاستشهادية، ويبدو أن "تحفظ" الرئيس السوري كان سببا في ذلك حيث تمت الإشارة إلى "رفض العنف بجميع أشكاله". بيد أن ذلك لم ينف أن الرسالة قد وصلت، إذ توالت المواقف العربية مثل الموقف الأردني على لسان وزير الخارجية واليمني على لسان نائب رئيس الوزراء. والحال أن إدانة العمليات الاستشهادية قد أصبحت موضع توافق في أوساط الأنظمة العربية استجابة للضغط الأميركي. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد ذكر أن السعودية ستتدخل للوساطة بين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وحركة المقاومة الإسلامية "حماس" في مسعى يستهدف وقف تلك العمليات، وإن نفت الحركة ذلك.
تاريخ الظاهرة فلسطينيا
قبل تحليل الموقف العربي الجديد وتداعياته وتحولاته، لابد من محاولة رصد للظاهرة منذ بداياتها على الساحة الفلسطينية على وجه الخصوص.
يمكن القول إن المحاولة الأولى على هذا الصعيد كانت عام 1986 من خلال ما كان يعرف بـ"سرايا الجهاد الإسلامي" وكان من المقرر أن تقود السيارة المفخخة المجاهدة عطاف عليان، غير أن العملية كشفت قبل التنفيذ.
في 17 ديسمبر/كانون الأول 1992 أبعدت السلطات الإسرائيلية (415) من القيادات الإسلامية في فلسطين (25 من الجهاد والباقي من حماس) إلى مرج الزهور في لبنان، وهنا قررت كتائب القسام القيام بعملية استشهادية تهدى إلى المبعدين في مرج الزهور بمناسبة قيامهم بمسيرة نحو حدود الوطن أسموها مسيرة الأكفان. وقد جرى ترتيب أكثر من محاولة لم تنجح إلى أن كانت البداية الناجحة.
قام الشهيد يحيى عياش الذي يعد رائد هذا النوع من العمليات بتجهيز سيارة مفخخة قادها الشهيد ساهر حمد الله التمام، وفجرها بين حافلتين عسكريتين في مستوطنة ميحولا على بعد 15 كم من نهر الأردن، وكان ذلك في 16 أبريل/نيسان 1993. وقد أدى الانفجار إلى قتل وجرح عشرات الجنود الإسرائيليين.
من الممكن القول إن السبب الجوهري خلف هذا التحول في نمط العمليات من إطلاق الرصاص كما كان عليه الحال في قطاع غزة أعوام 1991 و1992 و1993 هو إيقاع مزيد من الخسائر في صفوف الاحتلال لجعله مكلفا إلى أبعد مدى، إذ كانت حصيلة القتلى في صفوف الجيش من خلال عمليات إطلاق الرصاص محدودة رغم كلفتها، نظرا للترتيبات الأمنية العالية عند الحواجز. ثم إن منطق الاستشهاد حاصل في كل الأحوال، إذ إنه أمر طبيعي مع كل من حمل السلاح ضد الاحتلال مادام موجودا داخل الأراضي المحتلة، مع أن الملاحقة قد تشمله في الخارج في بعض الأحيان.
بعد عملية "التمام" بستة أشهر وتحديدا في 4 أكتوبر/تشرين الأول 1993 أصر أحد الشيوخ في الضفة الغربية الذي طلب إليه انتقاء أحد تلاميذه لقيادة سيارة مفخخة أعدها المهندس يحيى عياش.. أصر على قيادتها بنفسه، وكان سليمان زيدان في السادسة والأربعين من العمر وأبا لستة أطفال. وقد توجه الشهيد بالسيارة نحو حافلة عسكرية وفجرها فيها موقعا قتيلين وعشرات الجرحى.
تحول في الأهداف
في 25 فبراير/شباط 1994 نفذ أحد المستوطنين بتواطؤ من الجيش الإسرائيلي مذبحة الحرم الإبراهيمي، فقررت حماس الرد على المذبحة، وهذه المرة ضد ما يسمى المدنيين الإسرائيليين كرد على استهداف المدنيين الفلسطينيين.
الرد الأول كان في العفولة بسيارة مفخخة قادها الشهيد رائد زكارنه يوم 6 أبريل/نيسان 1994 وأوقع ثمانية قتلى وعشرات الجرحى. وكان الرد الثاني في الخضيرة بحزام ناسف للشهيد عمار عمارنه وأوقع خمسة قتلى بينهم جنود إضافة إلى عدد من الجرحى.
أما الرد الثالث فكان في تل أبيب بتاريخ 19 أكتوبر/تشرين الأول 1994 من خلال حقيبة متفجرات حملها الشهيد صالح صوي وأوقعت 22 قتيلا وعشرات الجرحى، في حين كان الرد الرابع من الجهاد الإسلامي بعملية مزدوجة للشهيدين صلاح عبد الحميد وأنور سكر وأوقعت 22 قتيلا وعشرات الجرحى بين الجنود.
بعد ذلك توالت العمليات الاستشهادية بيد أن أهمها جاء ردا على اغتيال الشهيد يحيى عياش في 5 يناير/كانون الثاني 1996، وذلك من خلال أربع عمليات كبيرة في القدس (مرتان) وعسقلان وتل أبيب كانت حصيلتها 64 قتيلا وحوالي 300 جريح.
وعلى أثر الرد عقدت قمة في شرم الشيخ بحضور زعماء دول العالم أجمع في مهرجان لإدانة هذا النوع من العمليات التي اعترف رئيس جهاز "الشاباك" السابق يعقوب بيري في كتابه "القادم لقتلك" بأنها كانت أول "تهديد وجودي" تواجهه الدولة العبرية منذ نشأتها حتى ذلك التاريخ.
غيابها بسبب التعاون الأمني
في هذه الأثناء كان اتفاق أوسلو يتمدد نحو الضفة الغربية التي كانت موئلا لتلك العمليات أكثر من قطاع غزة، وكان التعاون الأمني جزءا من استحقاقات الاتفاق، وقد أدى ذلك التعاون إلى ضرب معظم الخلايا العاملة في هذا الإطار، مما سبب غيابها على نحو شبه كامل طيلة عامي 1998 و1999 وحتى اندلاع انتفاضة الأقصى في نهاية سبتمبر/أيلول 2000.
لا شك أن الكلفة السياسية والأمنية كانت سببا من أسباب غياب تلك العمليات، إضافة إلى قضية القدرة على التنفيذ، فقد كان اتفاق أوسلو لا يزال وعدا بالدولة القادمة، وانحازت حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" إليه مما جعل الانقسام في الشارع الفلسطيني جزءا من عوامل تجفيف ينابيع الظاهرة في تلك الفترة رغم بقاء التأييد الكبير لها في الأوساط الشعبية.
عودة قوية مع انتفاضة الأقصى
مع اندلاع انتفاضة الأقصى وانحياز السلطة لحد ما إلى خيار المقاومة، ازدهرت ظاهرة العمليات الاستشهادية على نحو لم يسبق له مثيل. وتضمنت دراسة لنعومي بدهتسور من مركز دراسات الأمن القومي في جامعة حيفا تركزت حول ظاهرة العمليات الاستشهادية، قراءة في أرقام الظاهرة ودلالاتها.
منذ انطلاقتها مع عملية ساهر التمام عام 1993 وحتى ما قبل اندلاع انتفاضة الأقصى، سجلت 30 محاولة تم تنفيذ 24 منها. أما الفترة من سبتمبر/أيلول 2000 وحتى نهاية عام 2001 فقد سجلت 48 عملية، في حين تضاعف الرقم خلال الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام، حيث سجلت 153 محاولة حتى الأول من أبريل/نيسان 2002 نفذ منها 102 وتم ضبط 51 قبل التنفيذ.
” تقول دراسة إسرائيلية إن متوسط عدد المصابين في العملية الاستشهادية هو 17.6، في حين أنه لم يتجاوز في العملية غير الاستشهادية 2.4، أي ثمانية أضعاف تقريبا ” |
ولا تشمل هذه الأرقام العمليات التي يكون الاستشهاد فيها مرجحا وليس محتوما، أي عمليات إطلاق الرصاص الاستشهادية داخل المستوطنات أو على الحواجز.
ويعتقد معد الدراسة أن ثمة 600 شاب سجلوا أنفسهم لتنفيذ عمليات استشهادية، وأن المشكلة في الحالة الفلسطينية هي توفير الحزام الناسف وليس الشخص كما كان عليه الحال في لبنان.
بالنسبة لتأثير العمليات وقوتها، تقول دراسة بدهتسور إن متوسط عدد المصابين في العملية الاستشهادية هو 17.6، في حين أنه لم يتجاوز في العملية غير الاستشهادية 2.4، أي ثمانية أضعاف تقريبا.
وحسب الدراسة فإنه وحتى نهاية ديسمبر/كانون الأول 2001 كان جميع الاستشهاديين رجالا، وفي هذا العام كان هناك أربع استشهاديات. وحتى نهاية 2001 كانوا جميعا من حركتي حماس والجهاد، لكن العام 2002 شهد انضمام نشطاء من فتح والجبهة الشعبية لقائمة منفذي هذا النوع من الهجمات، إلا أن المتدينين ظلوا في الصدارة.
ويبدو عدد القادمين من الضفة أكبر، إذ من بين 153 استشهاديا قدم 92 من الضفة الغربية و54 من غزة وستة من شرق القدس واثنان من فلسطينيي الأردن وواحد من العرب في إسرائيل.
ومن بين الاستشهاديين 53 استشهاديا ذوي دراسة عليا، و58 تعليمهم ثانوي، وفقط 42 غير متعلمين. و103 استشهاديين ممن شملتهم الدراسة هم من الفئة العمرية 17-23 سنة، وثلاثة من 30-48. ومن بين الاستشهاديين 134 كانوا غير متزوجين، في حين كان 13 فقط متزوجين.
استنزاف غير محتمل
لقد بات واضحا أن هذا الاستهداف الأميركي الإسرائيلي للعمليات الاستشهادية على وجه التحديد لم ينبع من فراغ، وإنما جاء بسبب قدرتها على استنزاف المجتمع الإسرائيلي بكل فئاته خلافا للعمليات على الحواجز وضد الجنود التي تكون خسائر الفلسطينيين فيها أكبر دون أن تؤثر على الجانب الإسرائيلي سوى على عائلات الجنود القتلى والجرحى.
ثم إن تطور المقاومة في إعداد العبوات قد بات مخيفا إلى حد كبير، ففي آخر أربع عمليات لكتائب عز الدين القسام التابعة لحركة حماس من 27 مارس/آذار إلى 7 مايو/أيار الماضيين وكانت في نتانيا وحيفا وريشون لتزيون في تل أبيب، خسر الإسرائيليون 81 قتيلا وحوالي 300 جريح وهو رقم كبير في حسابات الدولة العبرية. ويشار هنا إلى أن عملية نتانيا سجلت كأعنف عملية في تاريخ الاحتلال إذ وصل عدد قتلاها إلى 32 أما الجرحى فكانوا 160.
إن ثقافة الاستشهاد التي سادت في المجتمع الفلسطيني باتت رعبا يدق في رأس المجتمع الإسرائيلي وقادته، وكان لابد من إيجاد حل سياسي للمشكلة بعد أن تعذر الحل الأمني، فجاء الضغط الأميركي الهائل الذي أسفر عن خضوع عربي بدأ في قمة شرم الشيخ.
” لقد بات واضحا أن هذا الاستهداف الأميركي الإسرائيلي للعمليات الاستشهادية على وجه التحديد لم ينبع من فراغ وإنما جاء بسبب قدرتها على استنزاف المجتمع الإسرائيلي بكل فئاته ” |
لا شك أن العمليات الاستشهادية والجهات التي تتبناها قد دخلت في مأزق كبير يشبه ذلك الذي دخلته بعد عام 1996، من زاوية غياب القبول الرسمي العربي والاستهداف من طرف السلطة، مع أن الانقسام الشعبي لا يبدو واردا إلا في نطاق محدود هذه المرة بسبب غياب الأفق السياسي، إضافة إلى حجم تجذر خيار المقاومة إثر التضحيات التي قدمت والبطولة التي تجلت في الأشهر الأخيرة.
كل ذلك لا يعني بحال أن هذه الظاهرة قد انتهت أو دخلت مجاهل النسيان، فعطاؤها سيبقى في ذاكرة الأمة في كل الأحوال. بيد أن الأهم هو أن هذا المأزق الجديد لن يعني النهاية، فقد دخلت مثله من خلال قمة شرم الشيخ عام 1996 التي اجتمع فيها قادة العالم أجمع، ثم كان التعاون الأمني الذي أودى بها بعد ذلك، غير أنه ما إن اصطدم قطار التسوية بالحائط المسدود في كامب ديفد حتى عادت إلى الحياة على نحو أكثر قوة وعطاء، مما يبشر بعودتها ثانية لأن رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون لا يحمل أي برنامج سياسي يملك الحد الأدنى من القبول وهو الذي يرى أن ما قدم في كامب ديفد كان "تنازلات كارثية".
الاستشهاديون هم السلاح الأقوى بيد الفلسطينيين وهم الذين سيكونون عدة النصر القادم، وما جرى قد كشف أنهم سر قوة الشعب الفلسطيني، ولذلك فإن هذا الشعب لن يتخلى عن سر قوته.
_______________
* كاتب صحفي فلسطيني
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.