إسرائيل.. دولة يملكها جيش

صالح محمد النعامي

رفض تنفيذ تعليمات الحكومة وفرض سياسات مستقلة
احتكار التأثير على دائرة صنع القرار السياسي
التدخل في الشؤون الداخلية للأحزاب
الترقيات و"الاصطفاء" وفق معايير "الشللية"
عسكرة السياسة والمجتمع
دعوات "لإنقاذ" إسرائيل من جيشها

لا يختلف اثنان على أن أحد أهم معالم الديمقراطية في أي نظام سياسي هو أن ينقاد الجيش والمؤسسة الأمنية في ذلك النظام للحكومات التي أفرزتها انتخابات، بحيث يكون الجيش هو منفذ السياسات التي ترسمها الحكومات. لكن عندما يتحول الجيش إلى مبلور السياسات ومنفذها في آن معا فلا يمكن وصف هذ النظام بـ"الديمقراطي". ونحن هنا بصدد اختبار "ديمقراطية" النظام السياسي في إسرائيل، وفق الاعتبار آنف الذكر.

وفق كثير من الشواهد فإنه يمكن القول إن المؤسسة الأمنية في الدولة العبرية لا تقرر فقط السياسات وتنفذها، بل إنها ترفض في كثير من الأحيان تطبيق التعليمات المباشرة الصادرة عن الحكومة بشكل فج، ناهيك عن احتكار التأثير على دوائر صنع القرار السياسي في الدولة، فضلا عن رفضها أن يكون لأي إطار مدني تأثير على المستوى السياسي الحاكم. إلى جانب ذلك فإن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تلعب دورا واضحا وجليا في الشؤون الداخلية للأحزاب السياسية، بما يتناسب مع تطلعات قادتها المسقبلية. ونحن هنا بصدد التدليل على ما تقدم.

رفض تنفيذ تعليمات الحكومة وفرض سياسات مستقلة
في أواخر العام 1998 طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه بنيامين نتنياهو من هيئة أركان الجيش تحضير خطة لانسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، بعد أن تعاظمت الدعوات الجماهيرية للانسحاب من المنطقة، إثر الخسائر الفادحة التي كان يتكبدها الجيش. ويكشف الصحافي الإسرائيلي بن كاسبيت النقاب عن أن رئيس الأركان في ذلك الوقت شاؤول موفاز (وزير الدفاع الحالي)، رفض بإصرار تنفيذ تعليمات نتنياهو، وأصر على عدم تقديم أي مساعدة له في ذلك السياق (1).

وحذر نتنياهو خلفه باراك -كما كشف كاسبيت- من أن عليه أن يدفع الجيش للانسحاب من جنوب لبنان بالقوة. باراك، وعلى الرغم من معارضة قادة الجيش، نجح في سحب قواته، لأنه سبق له أن ضمَّن حملته الانتخابية وعدا للجمهور بالانسحاب من هناك. لكن قادة الجيش لم يقفوا مكتوفي الايدي إثر ما اعتبروه "تجاوزا لوجودهم"، فردوا لباراك الصاع صاعين، فعندما حاول باراك التفرغ لدفع المفاوضات على المسار السوري، قام الجنرلات بتسريب وثيقة لقادة المعارضة الليكودية في حينه، أطلق عليها وثيقة "تشاوبر"، تدعي أن باراك يعد لتقديم تنازلات "قاتلة لإسرائيل" في هضبة الجولان. ويتهم يوسي بيلين الذي شغل منصب وزير القضاء في حكومة باراك صراحة قادة الجيش بتسريب الوثيقة من أجل إحراج باراك سياسيا (2).

لكن انتقام الجيش من باراك –الذي تجرأ على تجاوزهم– لم يعرف حدودا، فعشية توجهه لحضور مؤتمر "كامب ديفد"، الذي جمعه مع عرفات والرئيس كلينتون في أواخر العام 1999، للبحث عن حل لقضايا الحل الدائم مع السلطة رفض الجيش التعاون مجددا مع باراك، لدرجة أن هيئة أركان الجيش رفضت تزويد باراك بخرائط ليحملها معه إلى "كامب ديفد"، الأمر الذي دفع نائب وزير الدفاع الإسرائيلي في حينه أفرايم سنيه إلى أن يوجه رسالة تنطوي على مرارة كبيرة، حيث قال له بالحرف الواحد "العسكريون من رئيس هيئة الأركان وحتى أصغر ضابط لا ينفذون أوامرك وكل واحد منهم يفعل ما يحلو له" (3). وعلى الرغم من كل هذا، فقد جبن باراك عن مواجهة قادة الجيش، إذ إن الانتخابات كانت قد اقتربت وخشي أن يؤدي أي خلاف علني من قادة الجيش إلى خسارته الانتخابات.

وفي عهد حكومة شارون الأولى، ظل قادة الجيش يرفضون تنفيذ تعمليات الحكومة، فقد تباهى رئيس الأركان موفاز بأنه أمر باعتقال أمين سر حركة "فتح" في الضفة الغربية مروان البرغوثي، على الرغم من معارضة الحكومة لذلك (4).

وحسب إقرار وزراء في حكومة شارون فقد لعب الجيش دورا بارزا في إجهاض الهدنة مع الفصائل الفلسطينية التي تبلورت بوساطة مصرية أواخر يونيو/ حزيران 2003. ويقر وزير البنى التحتية الاسرائيلي يوسي بيريتسكي أن وزراء في الحكومة كانوا يعلمون أن الجيش هو المسؤول عن انهيار الهدنة التي منحت إسرائيل 45 يوما من الهدوء، وهو الذي أحبط حكومة أبو مازن، لكنهم خشوا الاعتراض على سياسة الجيش (5).

اللافت للنظر أن إدراكا متزايدا لدى الساسة والنخب المثقفة في إسرائيل أن الكثير من الاعتبارات التي يقدمها الجيش تنطلق من ثقافة الكذب المستشرية في الأوساط القيادية للجيش والمخابرات، فها هو عكيفا الدار كبير معلقي صحيفة الصفوة "هارتس" يقول "إن قادة المخابرات عندنا يعرفون أنه ليس كل الفلسطينيين الذين تمت تصفيتهم دون محاكمة يستحقون لقب "قنبلة متكتكة". لقد اعتاد هؤلاء القادة على "تدوير الزوايا" والعيش مع الأكاذيب بسلام" (6).

احتكار التأثير على دائرة صنع القرار السياسي
إن كانت المؤسسة الأمنية ترى أن من حقها رفض تنفيذ سياسات الحكومة بعد إقرارها فإن هذه المؤسسة في معظم الأحيان تنفرد بالتأثير على الحكومة قبل أن تعلن الأخيرة سياساتها العامة. ويمثل جهاز المخابرات الداخلية "الشاباك" وشعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" أكثر الأجهزة الأمنية تأثيرا على دائرة صنع القرار السياسي.

وعلى الرغم من أنه لا يوجد قانون ملزم لها بذلك، فقد جرت العادة على أن تقوم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بالتشاور مع هذين الجهازين تحديدا قبل اتخاذ أي قرار ذي طابع إستراتيجي، وفي كثير من الأحيان لا تتجرأ الحكومات على تجاهل توصيات "الشاباك" و"أمان".

وحتى في اسرائيل نفسها هناك شعور بالذهول إزاء الدور الذي يعلبه هذان الجهازان في إملاء تقييماتهما على الحكومة، رغم أن هذه التقييمات في كثير من الأحيان ذات منطلقات أيديولوجية وليست مهنية، كما يؤكد عوزي بنزيمان، أحد كبار المعلقين في الدولة العبرية. ويقول بنزيمان "الإيديولوجيا هي العامل الحاسم في تحديد توصيات ومواقف الأجهزة الامنية وليس الاحتراف المهني" (7). ويعتبر بنزيمان أن الجنرلات "مجرد سياسيين في زي عسكري".

اللافت للنظر أنه حتى قادة الاستخبارات المتقاعدون يقرون أن التوصيات التي يحاول العسكر تسويقها كوجهات نظر مهنية هي في الأغلب "تخمينات"، كما يؤكد الجنرال شلومو غازيت، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية (8). أما إبراهام تيروش سكرتير الحكومة الإسرائيلية في عهد مناحيم بيغن، فيؤكد أن بيغن لو أنصت لقادة الجيش لما تم التوقيع على اتفاقية "كامب ديفد"، التي لا ينكر أحد مدى مساهمتها في تحسين الوضع الإستراتيجي لإسرائيل (9). ويرجع المعلق العسكري الجنرال زئيف شيف التاثير الواسع للاستخبارات على دائرة صنع القرار لضعف القيادة السياسية (10).

التدخل في الشؤون الداخلية للأحزاب
التطلعات الشخصية المستقبلية للجنرالات تجعلهم في كثير من الأحيان طرفا مباشرا وغير مباشر في المناكفات السياسية بين الأحزاب بعضها وبعض وفي داخل الحزب الواحد، فبعد أن أعلن شارون مؤخرا عن خطته لإخلاء مستوطنات قام رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون زئيفي بتحريض نواب اليمين في الكنيست على شارون، بالقول إن تنفيذ مثل هذه الخطة "يمثل تشجيعا للإرهاب".

وبالفعل أصبحت تفوهات زئيفي هذه مادة دسمة يستخدمها نواب اليمين في تبرير مهاجمتهم لخطة شارون. ليس هذا فحسب، بل ثبت أن الجيش يتجسس على قادة المعارضة من أجل توفير مبررات لشارون لمهاجمتهم. وقد تجلى ذلك عندما زودت المخابرات قبل شهر شارون بمعلومات تؤكد أن رئيس المعارضة شمعون بيريز التقى سرا رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع، وقد استخدم شارون هذه المعلومة من أجل مهاجمة حزب العمل (11).

الكاتبة ياعيل باز ملميد تفسر هذا السلوك بتطلع قادة الجيش لكسب رضا جمهور اليمين، عبر طرح مواقف متطرفة تلقى استحسانا لديه، وهذا يساعدهم في الفوز بمواطئ قدم في هذه الأحزاب بعد تسرحهم من الجيش.

الترقيات و"الاصطفاء" وفق معايير "الشللية"
قادة الجيش الإسرائيلي وإزاء هذا القدر الهائل من التأثير سمحوا باستشراء معايير هي أقرب إلى معايير العالم السفلي منه إلى جيش منظم يخضع لرقابة أجهزة الدولة والتشريعية. قد يبدو هذا غريبا في ظل الانطباع السائد والمضلل حول هذا الجيش وثقافته. صحيفة "معاريف" في عددها الصادر بتاريخ (13-9-2002) نشرت أن قادة الجيش إبان حكم باراك غضبوا عندما اكتشفوا أن عميدا في الجيش يدعى شاؤول أرئيلي وافق على اقتراح باراك بتولي المسؤولية عن ملف الأمن في المفاوضات مع السلطة. وكما تؤكد الصحيفة فإن رئيس الأركان في ذلك الوقت شاؤول موفاز حاول إغراءه ووعده بترقيته إلى رتبة جنرال، فما كان منه إلا أن استقال وكتب رسالة شخصية لموفاز قال فيها "أنا لا أحترمكم، فأنتم في نظري مثابة خلل شديد وكارثة وطنية، أنا أرغب في التسرح".

عسكرة السياسة والمجتمع
تأثير العسكر لا ينتهي بمجرد خلعهم الزي العسكري، ففد دلت التجربة على أنه منذ تأسيس الدولة تبوأ مقاعد في الحكومة والبرلمان 40 جنرالا (12). في حين تبوأ أكثر من 100 ضابط كبير تتراوح رتبهم بين مقدم وعميد مقاعد في الحكومة والبرلمان. هذا ناهيك على أن معظم الشركات الحكومية والمؤسسات المرتبطة بها وبالوكالة اليهودية يقودها جنرالات متقاعدون. وأخيرا وصل كبار الضباط المتقاعدين إلى سلك التعليم، حيث أخذت وزارة التعليم تستخدم وزارة المعارف ضباطا تتراوح رتبهم بين مقدم وعميد كمدراء مدارس ومدرسين (13).

دعوات "لإنقاذ" إسرائيل من جيشها
الذي يرصد ما يشهد به الساسة والصحافيون وحتى بعض قادة الجيش والمخابرات المتقاعدين والحاليين، يفاجأ بحجم الدعوات إلى للتخلص من تأثير الجيش على تصميم سياسات الدولة. فالصحافي بن كاسبيت يقول "السلطة التنفيذية الحقيقية في إسرائيل لا تمثلها الحكومة المنتخبة، وإنما الجيش (14). وحتى أفرايم هليفي، الرئيس السابق لجهاز الموساد فيحذر من دور الاستخبارات "الزائد" في تحديد السياسات (15). أما القائد الحالي لشعبة التخطيط في الجيش الجنرال إسحاق هارئيل، فقد أطلق صرخة غير مسبوقة عندما دعا إلى "توقف الجيش عن تصميم الدولة" (16). أما عوفر شيلح كبير معلقي "يديعوت أحرونوت" فيذهب بعيدا في دعوته لمواجهة تأثير الجيش، فيقول "ليس هناك أسوأ من اختيار الجيش لإدارة الأزمات العنيفة، هذا الأمر يشبه تعيين المصاب بهوس السرقة لإدارة شبكة متاجر أو تعيين مختلس لإدارة الصندوق المالي للسجن، لأن الأزمات العنيفة تعتبر جوهر قوة الجيش، والجيش كغيره من التنظيمات القوية يطمح إلى تضخيم قوته وموارده إلى أقصى حد" (17).

خلاصة
وفق المعطيات آنفة الذكر التي تكشف حجم التأثير الطاغي للجيش على صياغة القرارات في الدولة فإنه يتوجب التريث قبل الحكم على مدى قدرة شارون على تنفيذ خطة إخلاء المستوطنات في غزة، في ظل تململ الجيش إزاء الخطة في هذه الدولة التي يملكها جيش.
هوامش
(1) تحقيق بعنوان "الجيش يقرر ويصادق"، نشر في معاريف، بتاريخ 13-9-2002
(2) الإذاعة الإسرائيلية العامة باللغة العبرية، 22-11-2003
(3) معاريف، 13-9-2002
(4) المصدر السابق
(5) القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي، 25-8-2003
(6) هآرتس، 24-11-2003
(7) هآرتس، 12-2003
(8) هآرتس، 12-12-2002
(9) معاريف 8-8-2002
(10) هآرتس، 17-11-2003
(11) معاريف، 20-1-2004
(12) معاريف، 8-8-2002
(13) أرنا كازين، "التربية على العسكرة، فصلية "قضايا إسرائيلية"، العدد 3، صيف
(14) معاريف، 6-9-2002
(15) هآرتس، 12-5-2003
(16) يديعوت أحرونوت، 2-1-2004
(17) يديعوت أحرونوت، 9-10-2002