قراءة في ثقافة الوصاية

* بقلم/أكرم البني

من لوازم السيطرة في مجتمعاتنا ومن أسرار مهنة السيادة، تغذية الإحساس لدى الطرف المسود بأنه قاصر أو دون سن الرشد، عاجز عن اتخاذ القرارات السليمة ويحتاج إلى راع لمصالحه أو وصي ينوب عنه في إدارة شؤونه العامة، مما أنتج نوعاً خاصاً من الثقافة عرف باسم " ثقافة الوصاية ".

تنزع ثقافة الوصاية في جوهرها إلى تعميم وعي زائف يخلق لدى الإنسان شعوراً ملازماً بالقصور والدونية وبأنه عاجز أمام نخب مسؤولة عنه وشخصيات كاريزمية تكون موضع رعب وتهيب كبيرين مما يقوده إلى إهمال حقوقه المدنية والسياسية وازدراء دوره في الحياة العامة.

وإذ تحصر هذه الثقافة علاقتها بالسلطة الوصائية بصفتها مرجعاً أحادياً فهي تتنكر لمفاهيم الاختلاف والتباين والصراع والنقد والمواجهة، لا مكان في دنياها لطرح الأسئلة أو إبداء الشك والريبة لأنها تعني أن العقل يعمل والوصي لا يريد للعقل أن يعمل، كما أنه لا مجال لإظهار أي امتعاض أو استنكار أو رفض لأن ذلك يكشف بعض إنسانية الإنسان ويدل على بقايا دور وإرادة يفترض أن تزول، مما يقود في النهاية إلى تسطيح العقل وإشاعة اللاعقلانية في التفكير، وإلى قتل روح التجديد والمبادرة عند الناس، ومباركة الخنوع والتسليم والرضا وتالياً إلى السخرية من جدوى أي فعل إيجابي في محاولة لبناء مجتمع سلبي لا مبالٍ مفعم بالغرائز وأسير روح الاستهلاك والاستمتاع الرخيص أشبه ما يكون بقطيع صاغر من الماشية لا حول له ولا دور.


تكاملت ثقافة الوصاية على مر العصور وتطورت لتتخذ صوراً وأشكالاً شتى من أبرز تجلياتها تلك النظرة القديمة التي رأت في الاستعمار مهمة "نبيلة " لقيادة مجتمعات الغير وتحديثها

تكاملت ثقافة الوصاية على مر العصور وتطورت لتتخذ صوراً وأشكالاً شتى، من أبرز تجلياتها تلك النظرة القديمة التي رأت في الاستعمار مهمة "نبيلة" لقيادة مجتمعات الغير ومساعدتها على تمثل قيم الحضارة والعلوم الحديثة. وهي تشهد اليوم انتعاشاً لم تعرفه من قبل بعد أن غدت هذه المهمة مهمات وأصبح الوصي أوصياء تبعاً لتعدد محتوى الفكرة أو الهدف المجتمعي العام (الوطن، القومية، الدين، الديمقراطية) الذي تدعي أنظمة أو قوى خارجية أو جماعات محلية حقها في ملكيته وتعلن احتكارها له والوصاية عليه وتعيد رسمه على قياس مصالحها بما يمكّنها من تأكيد سلطانها وتعطيل عقول الآخرين وأدوارهم.

تندرج هنا الدعوات الأميركية التي يتواتر إعلانها من أجل نشر الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي تحت ذريعة حماية الشعوب من اضطهاد حكامها في محاولة لوضع يد الوصاية على واحدة من أهم القيم والأهداف الإنسانية وتوظيف احتكارها لتقرر مصائر هذه الشعوب بما يخدم مآربها وبرامجها في الهيمنة، ولا يخرج عن هذا السياق مفهوم صراع الحضارات كواحد من الأشكال التي تضع الحضارة العربية والإسلامية في موقع التخلف والقصور أو نعتها بالبربرية والهمجية أمام حضارة غربية مهذبة هي الأرقى التي تملك تفوقاً مادياً خيالياً وقدرة ثقافة عالية ومتعالية تسوغ للنخب الحاكمة في الغرب التدخل بصفات متعددة، منها المباشر ومنها الاستشاري، في إدارة أمور الشرق المتخلف.

يضاف إلى ذلك سعي واشنطن للوصاية على الأمن والسلم العالميين وملاحقة أسلحة الدمار الشامل أنى كانت، دون أن يعتريها أدنى خجل وهي تعصي علانية عشرات القرارات والاتفاقيات الدولية للحد من أخطار التسلح أو الاحتباس الحراري أو الدفاع عن سلامة البيئة والعدالة الدولية!!

يظهر جلياً أن الوصاية الأميركية تخطت اليوم جميع الحدود التقليدية المألوفة لإرواء نزعة السيادة والغطرسة وهي تكتسح في طريقها حرباً أو ضغوطاً اقتصادية وسياسية أو ترويجاً إعلامياً كل تفاصيل حياة الشعوب، متوغلة في قرارة الفرد والجماعات البشرية على اختلافها، ومزدرية كل الاعتبارات السياسية والقانونية التي أنجبتها الثقافة العالمية ضد منطق التسلط على حقوق الغير في إصرار لافت لتأسيس مفهوم جديد في العلاقات الدولية يبيح لها حق التدخل دون اعتبار للخصوصيات الإنسانية والحضارية.

ثمة دور ثان يساهم في نشر ثقافة الوصاية من داخل وضعنا العربي والإسلامي تلعبه بعض الجماعات المحلية في احتكارها لقيم الإيمان والهوية والمعتقدات الدينية وما ترتب على ذلك من آثار سلبية كبيرة على الدين والناس في آن معاً خصوصاً عندما وصل الأمر إلى إغلاق الباب قتلاً وتكفيراً أمام أي تفسير أو اجتهاد يخالف ما تعتقده، حيث استسهلت تحت العباءة الدينية مصادرة كل شيء في محاولة لقسر الدين في حركة سياسية تخوض الصراع ضد الآخر انطلاقاً من الفروق الدينية وليس من منطق ماهية هذا الآخر ووظيفته, مما أساء إلى الدين وأظهره بعكس حقيقته، قاحلاً، يخلو من كل ما هو أفضل وأوفر وأعدل وإنساني.

لعل أبرز معالم الاختلال في هذه الظاهرة أنها لم تكتف فقط باحتكار الوصاية على الحقائق المطلقة بل تدخلت في تحديد كيفية الإيمان بها وتعطيل أولويات الواقع وسننه وعلاقاته الموضوعية، محفوفة بممارسة سياسة استبدادية تعتمد "العنف المقدس" في رسم "الطريق القويم" وتصحيح المعوجين عنه بقوة السيف والاستئصال دون أن تشفع لها مشروعية بعض أسباب نشوئها، أكان سخطا على فجوة اجتماعية تتسع، أم رداً على ظلم وقهر سلطويين، أم نزعة انتقامية ضد عدو خارجي ينكل بالأبرياء دون رحمة.

وتبقى شكلاً من أشكال العبثية المدمرة دعوة هذه الملة أو تلك لفصم العالم إلى قسمين لا ثالث بينهما سواء تحت شعار "دار الإسلام ودار الكفر" أو "دار الخير ودار الشر" مسوغة لنفسها تقرير شؤون الدين وفق أهوائها واجتهاداتها الخاصة. إذ عندما يقرن الموقف من الإنسان بهوية أحادية تخيره بين حدين، مسلم أو كافر، وبضوابط صارمة في حدود المحرّم والمحلل، تنزلق المجتمعات بسهولة نحو بؤرة الخلاف والتصادم، وتغدو الحياة أشبه بوظيفة أحادية غرضها إعادة توزيع القصاص والتباري في التذنيب والتأديب.


إن الأنظمة العربية التي نصبّت من نفسها وصياً على مصالح الوطن ووكيلاً على حاضره ومستقبله تمكنت من سحق وتفتيت بذور الحرية بدعوى أنها تهدد أمن المجتمع وتضعفه في مواجهة الإمبريالية الصهيونية

لا شك في أنه بات ضرورياً في مجتمعاتنا العربية المبادرة إلى رسم مسافة واضحة بين الدين وقيمه السامية وبين محاولات تسخيره لأغراض ومصالح سياسية, وتالياً تمييز العقائد الدينية عن الاجتماعي المتغير حسب الحال والأحوال، إذ من الخطأ والخطر الخلط بين هذه وتلك وأن نصبغ على الاجتماعي إطلاقية العقائد فيغدو السلوك مغالياً ومتطرفاً يشدنا إلى الوراء ويبطل نعمة العقل فينا، دون أن يعني ذلك إضعاف موقع الدين ودوره الأصيل في الوجدان الجمعي العربي بل على العكس السمو به روحياً بعيداً عن دنس الحياة وشؤون الدنيا وخطايا السياسة وآثامها التي لا تعرف إلا التقلب والتغير والمجال فيها خصب للصراعات وحضور المصالح والمواقف المتباينة.

أما السلطات والأنظمة العربية فهي خير من أتقن الوصاية وتفنن في إبداع صورها، فتوسلت القضية الفلسطينية وذريعة الحفاظ على السيادة والاستقلال ودرء الأخطار الخارجية لتنّصب من نفسها مسؤولاً وحيداً عن إدارة شؤون الوطن واحتكار الحق في التصرف باسمه معتبرة أي مبادرة بخلاف ذلك خروجا عن الطاعة أو طعنا بالمقدس الوطني تستحق أشد عقاب!!

ولا تستقيم هذه الوصاية إلا بوصاية من نوع آخر، غرضها الاستيلاء على الاقتصاد والناس والتصرف بثروات المجتمع، فيجد القابعون في مواقع المسؤولية أنهم الأعرف بما يفيد الناس وما يضرهم وهم الأدرى بالطرق الكفيلة بتوفير حاجاتهم الأساسية من غذاء وكساء وسكن وعمل وتعليم، الأمر الذي يسوغ لهم مصادرة الحقوق وشل هيئات المجتمع وتثبيت الاستيلاء على المرافق العامة وموارد الدولة، مانحين أنفسهم كامل الحق في إدارة مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يصاغ كل ذلك عبر خطط مركزية تقسر تطور المجتمع وفق مصالحهم، فتعطل الحقوق المدنية والسياسية للبشر وتحولهم إلى ما يشبه كتلة من الواجبات لا غرض لها سوى إنجاز هذه الخطط.

يبرر أولو الأمر هذا السلوك بعدم النضج السياسي في الأوساط الشعبية وبأنه تعطيل ضروري لخدمة المصلحة الوطنية العليا وضرورات البناء والتصدي للعدو الخارجي، ويرون بالتالي أن ممارسة الحرية في ميادين الرأي والتعبير والنشاط السياسي تشتت الكلمة وتصدع الصف الداخلي، وينسحب هذا على حق الإضراب عن العمل وحق الاجتماع والنقد والاحتجاج، وتصل الأمور إلى إحصاء أنفاس الناس والتحكم بكل شاردة وواردة في سلوكهم وحتى تلقينهم ما ينبغي أن يقال وما يجب أن لا يقال، مما يعمق شعورهم بالعجز والدونية ويعزز عوامل خنوعهم للقواعد القائمة على الأمر والنهي والطاعة.

إن الأنظمة العربية التي نصبّت من نفسها وصياً على مصالح الوطن ووكيلاً حصرياً على حاضره ومستقبله تمكنت من سحق وتفتيت بذور الحرية والتعددية السياسية بدعوى أنها تهدد أمن المجتمع وتضعفه في مواجهة الهجمة الإمبريالية الصهيونية، لكن يعرف الجميع أن تمظهر هذه الأنظمة بالمظهر الوطني الحريص والمتشدد، وما رفعته من شعارات مثل "الوطن فوق الجميع" شكّلت سلاحاً ناجعاً لضبط الأوضاع الداخلية أكثر مما استخدمت في الخنادق وساحات القتال، وكانت بمثابة حصان رابح امتطته السلطات لتصل إلى مآربها وتعزز أسباب سلطانها وتصون ما جنته من مكاسب ومغانم.

والنتيجة نبذ أشكال الحياة الديمقراطية كافة وتشديد القبضة القمعية على الشعوب، وشن حملات مستمرة من الإقصاء والتصفية طالت معظم القوى المعارضة دون أن يشفع لهذه الأخيرة الدم الغزير الذي سفكته دفاعاً عن حرية أوطانها أو التضحيات الجسام التي قدمتها على مذبح الصراع مع العدو الصهيوني، وبالمقابل، عندما تطلبت مصلحة الوطن بعد تكرر هزائمه، إعادة النظر في طابع وكفاءة القوى التي تستأثر بالقرار السياسي، لم تجد الأنظمة "الوطنية" نفسها معنية بهذا الأمر واستبسلت لحماية مواقعها وامتيازاتها!!


نحتاج اليوم إلى عملية سياسية ثقافية كبيرة تطلق آفاقاً جديدة لصالح الحياة الإنسانية في مواجهة غطرسة المصالح الضيقة وحماقة القوة وتستدعي التعاون لإضاءة مقومات هذه العملية

يلاحظ أخيراً أن ثقافة الوصاية تعاني اليوم حالة انكشاف واضطراب ربما من جراء احتدام تنافس الأوصياء على السيادة والسيطرة، أو لعل السبب يعود إلى ارتقاء وعي البشر وقد صاروا يتحسسون جيداً وزنهم ويستشعرون الدوافع الحقيقية وحسابات المصالح الضيقة التي تقف وراء دعوات احتكار القيم والوصاية عليها، الأمر الذي يحث الغيارى على أوطانهم ومستقبل مجتمعاتهم على إعلان حملة مقاومة جدية لثقافة الوصاية وآليات الخضوع أياً كانت أشكالها نحو تعميم ثقافة تحررية يكون الإنسان مركزها وغايتها، تبدأ بأوجاعه وهمومه وتسعى إلى حقوقه ومصالحه بعيداً عن التسلط والهيمنة، محطمة الجدار المصطنع بينه وبين السياسة وممتدة في منظورها المجتمعي نحو الحريات وحقوق الإنسان وتطوير المؤسسات المدنية واحترام الكفاءات أو كل ما من شأنه بناء شخصية متماسكة وفاعلة، بما في ذلك تعرية وكشف ما يعيقه أو يكبله من قيود، لتصل إلى إرساء مناخ صحي يثق بالناس ويمنحهم فسحة من الأمان والحرية كي يأخذوا دورهم الحقيقي في المجتمع، كذات حرة واعية لمثلها وقيمها وأهدافها، قادرة على تحمل مسؤولياتها بحرية وطواعية بعيداً عن القسر والإكراه.

وخير ما يخلخل بنيان ثقافة الوصاية وينصر ثقافة الحريات واحترام التنوع والتعددية والرأي الآخر، تقديم ظواهر دالة على الرشد الاجتماعي مثل العقلانية والاعتدال وتحاشي الغلو والتعصب والتطرف. فكم يتضرر الوصي عندما يرى في ممارسات من يزعم أنهم قصر ما يدلل على النضج والاتزان وروح المسؤولية، وكم يفيد من الاندفاعات الرعناء والسلوك الطائش في تغذية ذرائعه وادعاءاته بحقه في التدخل وفرض رعايته على المجتمع.

نعم إننا نحتاج اليوم إلى عملية سياسية ثقافية كبيرة، تطلق آفاقاً جديدة لصالح الحياة والحقوق الإنسانية في مواجهة غطرسة المصالح الضيقة وحماقة القوة وتستدعي بداية تعاون الجميع لإضاءة مقومات إنضاج هذه العملية على صعيد خطابها ومبادراتها وآلياتها، على أمل أن نخرج بمشروع نهضوي جديد يساعد على انتشال مجتمعاتنا من حالها البائسة.
ــــــــــــــــــ
* كاتب سوري

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.