انتهت اللعبة أم بدأت؟

بقلم/ خيري منصور*

عندما وصف ممثل العراق الدائم لدى الأمم المتحدة الحرب بأنها لعبة قد بلغت نهايتها، أعاد إلى ذاكرة الناس ما سماه كوبلاند لعبة الأمم رغم أن هذه الحرب/اللعبة كانت من دون شبكة ولم يجد اللاعب الأميركي ما يعوق أهدافه عندما وجد العاصمة العراقية دون حرّاس.

لكن اللعبة تصبح مضجرة للطرف الذي لا يجد أي مصدات بحيث لا يشعر بأن انتصاره قد اكتمل، لهذا فهو يسعى إلى تفريخ ألعاب أخرى جديدة يتبدل فيها الخصوم، لكن الكرة هي ذاتها، وقد يستثمر المنتصر حالة الدهشة التي أعقبها كل هذا الصمت المشحون بالترقب بحيث يعيد إنتاج أهدافه المعلنة، فلا تصبح أسلحة التدمير الشامل التي جاء يبحث عنها, ولا حتى الرئيس العراقي السابق بمصيره الغامض هما الهدفان النهائيان للعبة، إذ سرعان ما تحولت بغداد من هدف إلى رافعة أو مرتكز للتمدد الأميركي باتجاه عواصم أخرى، خصوصا بعد أن استبعد البنتاغون وبإصرار تكرار التجربة الإيرانية في عراق ما بعد صدام حسين، ولوح لدمشق بالعصا ولو على سبيل التدجين السياسي، وتحويل الأمثولة العراقية إلى ما يشبه القول "إياك أعني واسمعي يا جارة".


ما ينبغي التذكير به هو أن أميركا وصلت إلى سرة بغداد وسيكون مكوثها هناك منوطا بأمر واحد فقط هو قبول أو رفض العراقيين للاحتلال. أما هي فلن تعود حتى لو عادت بجيوشها وأسلحتها وأعادت حتى جنرالها المتقاعد غارنر إلى بيته

ولعلّ أكثر ما يثير اهتمام المراقب الآن، وبعد أن تلاشى الدخان من سماء بغداد، هو هذا التأقلم العربي السّريع مع الأمر الواقع، فالمظاهرات التي وصفت بالملايينية أعادها الأمر الواقع -وربما الترويع الذي تجاوز حدود العراق ليشمل الخريطة العربية كلها- إلى الصمت. وثمة عدة قرائن توحي بأن هذا الصمت قد يسبق العاصفة قدر تعلقه بالعراق المحتل، لكنه ليس كذلك على صعيد قومي شامل!

وما تمارسه الولايات المتحدة في العراق عن طريق الحاكم الجديد جاي غارنر أو المندوب السامي الذي غيّر خوذته وتنكر في صورة مدنية، لا يخلو من ساديّة سياسية لها بعد ثأري، فقد اتخذ غارنر من أحد قصور صدام حسين مقرا له، وأقام في حديقته الخلفية حفلة شواء على الطريقة الأميركية، وكأن البيرغر هذه المرة هو شارة رمزية تضاف إلى مجمل الشارات الرمزية الأخرى التي تحاول تكريس الانتصار الأميركي بدءا من الانتهاك الصريح لما يسمى السيادة حتى الفولكلور.

وما يمكن رصده بشكل أولي لا يخلو من تعميم تفرضه الفوضى السياسية في العراق، فمن الواضح أن المعارضات العراقية -وهي ليست واحدة- لم تعثر بعد على حقها من هذه الحرب، وكان تهميشها قد بدأ منذ الصاروخ الأول، بل التهديد الأول بشن هذه الحرب، حتى بدا للبعض أن الحملة العسكرية الأميركية أطاحت بالاثنين معا النظام ومعارضته.

وحين قالت مستشارة الأمن القومي في الإدارة الأميركية كوندوليزا رايس إن من يدفع المال والرجال في أي حرب هو الأجدر بغنائمها، ظن الناس للوهلة الأولى أن هذه البرقية العاجلة موجهة إلى فرنسا وألمانيا وغيرها من دول أوروبا التي قلبت ظهر المجن لبغداد في اللحظة الحاسمة بحثا ولو عن قلامة ظفر كما يقال من الفريسة، لكن هذه البرقية تتجاوز المرسل إليهم في أوروبا إلى آسيا أيضا والى العراق ذاته، فالمعارضة لم تكن شريكا فاعلا في تغيير النظام العراقي، لهذا فإن عليها أن تقبل بالحصة التي تقررها واشنطن، وهي في مجمل الأحوال لن تتجاوز دور المنفذ، أو المترجم الفوري لما تريده الولايات المتحدة.


ما تمارسه الولايات المتحدة في العراق عبر الحاكم الجديد جاي غارنر أو المندوب السامي الذي غيّر خوذته وتنكر في صورة مدنية، لا يخلو من ساديّة سياسية لها بعد ثأري، فقد اتخذ غارنر من أحد قصور صدام حسين مقرا له، وأقام في حديقته الخلفية حفلة شواء على الطريقة الأميركية

وكانت واشنطن قد تحدثت مطولا وبشكل يثير الريبة لفرط الحماس عن وحدة العراق والعمل على مأسسته وتمدينه، لكن إستراتيجيتها الفعلية لم تكن بعيدة عن استثمار تضاريس العراق الطائفية والعرقية، فهي تعرف أكثر من سواها هذا "الموزاييك" المعقد منذ لعبت بالورقة الكردية في أواسط السبعينيات عبر ما سمي بالعزف الكسنجري على الأكورديون، أي اعتصار النظام العراقي والأكراد معا.

أحد الأميركيين يقول إن العراق مقسم بالفطرة، أي أن حزوز البرتقالة تستدرج السكين إلى تلك التضاريس، لكن ما يطلقه باحثون أميركيون معظمهم من الجنرالات المتقاعدين أو السفراء السابقين في الشرق الأوسط ليس دخانا من دون نار، وقد يكون أحيانا أشبه بالبارومتر الذي يقيس الحرارة السياسية في بلد ما وفي أعقاب حرب ما!

وإذا كانت المفاجأة التي نقلت الترويع من مقدمة الحرب إلى خاتمتها قد أثارت عدة أسئلة عن مستقبل العراق المنظور، فإن الائتلاف شبه العفوي بين السنة والشيعة، وصلاتهم معا في مسجد واحد، وهتافهم ضد الاحتلال، يؤشر إلى انعطافة سريعة في المزاج السياسي العراقي الذي رأى البعض أنه قد أصيب بالشلل لهول ما جرى.

والعراق كنموذج لدولة تتعايش تحت سقفها عدة طوائف وقوميات، يعاني مما يسمى صراع التوائم، فالأب واحد والأمهات عديدات، وثمة أشواق مكظومة لدى إثنيات تستمد ممانعتها للذوبان من مزاج عالمي ساد بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وما نسمعه من مسؤولين أكراد ومواطنين عاديين يقدم لنا عيّنات من تلك الأشواق.

وليس أمام عراق محتل يراد له أن يكون محررا عبر مفارقة يصعب على العقل هضمها، إلا أن يلم ما تشظى منه سواء أكان من زجاج نوافذه أم من مقتنيات متاحفه وأشلاء أهله، لكنه إذا انصرف إلى تصفية الحسابات والتفرغ لتنمية الهويات الصغرى أو الفرعية فإن مستقبله كله يصبح في خطر.

وهو البلد الوحيد الذي تضافر فيه الماء والنفط والطين ليكون من أغنى دول العالم، لكنه بفضل سياسات وديناميات بالغة الاضطراب والسلبية تحول إلى الأفقر والأشقى بين الشعوب.


سرعان ما تحولت بغداد من هدف إلى رافعة أو مرتكز للتمدد الأميركي باتجاه عواصم أخرى، خصوصا بعد أن استبعد البنتاغون وبإصرار تكرار التجربة الإيرانية في عراق ما بعد صدام حسين، ولوح لدمشق بالعصا ولو على سبيل التدجين السياسي

وما ينبغي التذكير به هو أن أميركا وصلت إلى سرة بغداد وسيكون مكوثها هناك منوطا بأمر واحد فقط هو قبول أو رفض العراقيين للاحتلال. أما هي فلن تعود حتى لو عادت بجيوشها وأسلحتها وأعادت حتى جنرالها المتقاعد غارنر إلى بيته، فالمكوث والرحيل ليسا الآن ثنائية إمبريالية تقليدية تتحدد بالحضور المادي للجيوش والأسلحة، وأحيانا تحكم بلدان عن بعد بالريموت كونترول، وتتحول ثرواتها وخصوصا نفطها إلى جلوكوز يسيل في شرايين قارة نائية ما وراء البحار.

إن تداعيات وذبذبات حرب كهذه لهي أشبه بما يقال عن ترددات الزلازل. فالمجتمعات البشرية لها جيولوجياها أيضا وصفائحها المتحركة، وبقدر تعلق هذا بالعراق فإن ما سيأتي قد يكون الأعظم، لأنه سيشهد انفجار المسكوت عنه طيلة عقود، وعلينا أن نتوقع أيضا بأن هذه الصدمة الهائلة قد تخلخل النسيج العربي برمته بحيث لا تعود البدهيات القومية كما كانت، وقد تثير الأناشيد الوطنية المتورمة والمفعمة بالنرجسيات الجريحة سخرية الناس الذين صحوا من النوم فلم يجدوا العراق.

حروب من هذا الطراز وسقوط بهذا التسارع الكارثي يفتضح هشاشة النظام والعظام معا، ويقدم لعرب الألفية الثالثة أمثولة قلما توقعوا ما يشبهها، فهم إذ يرددون الآن أن الشعوب المحكومة بنظم شمولية أو باترياركية لا تقاوم، عليهم أن يقدموا لشعوبهم ما يبرهن على صدقية هذا الوعي، وبالتالي القدرة على استدراك ما يمكن استدراكه.

أما المضي قدما نحو الهاوية وبالتسارع ذاته، فإنه قد يحول العراق من أمثولة بالغة الفرادة والاستهجان إلى مثال متكرر، وبأقل تكاليف الاحتلال؟

_______________
*كاتب أردني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.