في دور الأم والأب.. نازحات سوريات يكافحن من أجل لقمة العيش

أصبح العديد من النساء السوريات الآن هن المعيل الوحيد أو الأساسي لأسرهن، ويتحملن العبء الكامل لإعالة أسرهن مع فرص معيشية محدودة، حيث إن حوالي 22% من الأسر السورية تعيلها النساء الآن بحسب تقرير للأمم المتحدة.

تتجمع النساء النازحات في انتظار أعمال المياومة في دمشق (الجزيرة)

دمشق- نزحت عشرات الآلاف من العائلات السورية خلال الأعوام العشرة الماضية من مناطقها المدمرة إلى مناطق النظام في الداخل السوري جراء الصراع الدموي الذي دار بين أطراف النزاع، وشكلت النساء الشريحة الكبرى من مجمل النازحين نتيجة لغياب أرباب الأسر لأسباب أمنية أو طبيعية.

وهذا ما جعل النساء النازحات مضطرات للعب دور الأب والأم معاً في بيئة تسودها البطالة والفقر وانعدام فرص العمل، وتعوزها كل مقومات الحياة الأساسية من كهرباء وماء وغيرها من الخدمات.

وفي هذا التحقيق نسلط الضوء على معاناة هؤلاء الأمهات وسبل تكيفهن مع تلك الأوضاع التي تزداد سوءا يوماً بعد آخر في مناطق النظام بالداخل السوري.

راتب بثمن كيلوين

تعيش أم نايف (43 عاماً)، نازحة سورية من حمص إلى ريف دمشق، وأولادها الثلاثة في شقة سكنية لا تتجاوز مساحتها 40 متراً مربعاً منذ نزوحها قبل 8 أعوام، وينام جميع أفراد العائلة في غرفةٍ صغيرة تخلو إلا من 4 فرشات إسفنجية وبعض الأمتعة التي لا تزال ترتبها أم نايف في حقائب السفر التي حزمتْ بها تلك الأمتعة ساعة نزوحها من حمص.

تمضي المرأة الأربعينية 8 ساعات يومياً بمعمل منظفات في ريف دمشق، تقوم بتعبئة غالونات سائل الجلي والاستحمام براتب أسبوعي قدره 20 ألف ليرة سورية (6 دولارات). وبقوة شرائية بالكاد تغطي ثمن 5 لترات زيت قلي (23 ألف ليرة سورية).

امرأة وطفلة تعملان في جمع البلاستيك من القمامة في دمشق (الجزيرة)

العمل بالسُخرة

تضطر أم نايف لإرسال ابنها الأكبر نايف (12 عاماً) وابنتيها سمرا (7 أعوام) ونهاد (6 أعوام) للعمل مع جارهم في مستودعٍ للحبوب والمكسرات؛ حيث يكون الأطفال مجبرين على نقل شوالات الحبوب (أكياس كبيرة)، التي يصل وزن الواحد منها إلى 35 كيلوغراما، من سيارات الشحن إلى أقبية المستودع لـ7 ساعات يومياً مقابل 10 آلاف ليرة سورية (3.2 دولارات).

تقول أم نايف للجزيرة نت "لولا أني أرسل الأولاد إلى العمل كل صباح لكنا متنا من الجوع، فبعد دفعي لإيجار المنزل لا يبقى شيء من راتبي، وأسعار البضائع في ارتفاع مستمر ونحن نعاني الأمرين حتى نتمكن من النجاة في هذه الظروف".

وبحسرة أم على أطفالها تقول "مضت 6 سنوات على خروج الأطفال من المدرسة، لقد تمكنت في أول سنتين لنا هنا من جعلهم يتابعون تعليمهم دون أن ينقصهم شيء، ولكن مع حلول السنة الثالثة كنت قد بِعْتُ كل ما أملك من صيغتي (ذهبي) ولم أعد قادرة على إعالة المنزل لوحدي، خاصة مع كل هذا الغلاء في الأسعار وارتفاع إيجار الشقة بنحو الضعف".

فرص معيشية محدودة

يؤكد تقرير للأمم المتحدة أنه نتيجة لفقدان العديد من العائلات السورية لأرباب أسرها، هناك حوالي 22% من الأسر السورية تعيلها النساء الآن.

في حين لم تتمكن شيرين (31 عاماً، اسم مستعار)، أم لطفلٍ ونازحة سورية من الرقة إلى ريف دمشق، من إيجاد عملٍ يكفي لاستئجار شقة والاستقلال وطفلها عن منزل شقيق زوجها وعائلته التي تشاركهم منزلهم منذ 6 أعوام، وتشعر اليوم كما لو أنها عبء على الجميع.

قضى زوج شيرين بعد إصابتهِ بطلقٍ ناري أثناء وقوع اشتباكٍ على طريق عودته إلى المنزل من عمله عام 2014، فاضطرت وعائلة شقيق زوجها للنزوح إلى ريف دمشق.

وفي ريف دمشق لم تتمكن السيدة الثلاثينية من إيجاد فرصة عمل مناسبة، تقول "لا يوجد عمل هنا إلا للذين هم من أبناء المنطقة أو للمنحدرين من مناطق قريبة، أما حين يتعلق الأمر بنا (تقصد النازحات) فإن أرباب العمل يخفضون الأجر للنصف ويفرضون زيادةً في ساعات العمل، فيصبح العمل بذلك من دون جدوى كما لو أنه عمل بالسُخرة".

ويشير تقرير لمكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية إلى أن ​أسعار المواد الغذائية في سوريا ارتفعت بنسبة 236% منذ منتصف عام 2020.

رجل وامرأة يبحثان عن البلاستيك في القمامة في دمشق (الجزيرة)

أحلام كبيرة لطفولة ضائعة

تجيب شيرين على أسئلة ابنها الدائمة عن والدهِ بكثير من الحِكمة، ولكن كما تقول "غالباً ما يشعر حمزة بالغيرة من أبناء عمه الذين يتراكضون نحو والدهم عند عودتهِ من العمل ويحتضنونه، أو عندما يمسك بيد أحدهم ويأخذه في نزهة، كلها مشاهد تؤثر في حمزة وتدعوه ليسأل مجدداً لماذا ليس لديه أب كأولاد عمه؟".

يحاول أطفال أم نايف التأقلم يوماً بعد آخر، ويحكي الطفل نايف عن حلمه "أريد أن أكبر وأصبح غنياً لأصرف على المنزل وعلى أمي وإخوتي". أما سمرا فتقول "أريد أن أصبح طبيبة لأعالج المصابين من جروحهم".

وفي سياق متصل يشير تقرير لمنظمة اليونيسف إلى حوالي 2.45 مليون طفل في سوريا خارج المدرسة.

أطفال انتهوا لتوهم من العمل في استخراج البلاستيك من القمامة في دمشق (الجزيرة)

تحديات الصحة والحياة اليومية

يُضاف إلى معاناة النساء النازحات إلى مناطق النظام صعوبات وتحديات كبيرة مثل صعوبة توفير المواد الرئيسية الغذائية والخدمية والعلاج. حيث تضطر آمنة (36 عاماً، اسم مستعار)، أم لـ5 أطفال ونازحة من ريف حلب إلى ريف دمشق، للوقوف يومياً قرابة الساعتين أمام فرن الكهرباء الآلي في مدينة بيت سحم حتى تتمكن من شراء ربطة خبز أو ربطتين.

تقول للجزيرة نت "أستيقظ الساعة السادسة لأجهز مؤونة الأطفال وأوصلهم للمدرسة ثم أتجه للفرن فأقف من ساعة ونصف إلى ساعتين لأحصل على ربطة خبز، ثم أذهب إلى عملي في معمل لتقشير البطاطا فأعمل حتى الثالثة عصراً حيث استراحة الغذاء، ثم أخرج من المعمل وأشتري أغراض الغداء وأتوجه للمنزل لأطبخ للأطفال؛ فنتغدى ثم أعود للمعمل حتى الساعة 8 ليلاً، لأعود للمنزل وقد أُنهكت تماماً فنتعشى وننام".

وعن معاناتها في توفير أسطوانات الغاز تقول آمنة "منذُ أن اخترعوا البطاقة الذكية ونحن بالكاد نحصل على الغاز، فكلما دخلتُ إلى التطبيق كتبوا لي يوجد 1200 بطاقة على وصول دورك، وإذا أردت شراء واحدة من السوق ثمنها من 100 إلى 150 ألف ليرة (29-44 دولاراً) وهذا ليس بمقدورنا".

أما الحاجة أم أنس (62 عاماً)، معلمة صف سابقة ونازحة من إدلب إلى دمشق، والتي تعاني من مرضي السكري والضغط، تحدثنا عن معاناة الاستطباب في دمشق بالقول "لم أتمكن من زيارة طبيب إثر وعكة صحية الشهر الماضي، فكشفية أي طبيب هنا بدمشق، لا سيما أطباء القلبية، تتراوح بين 15 إلى 20 ألفاً (4-6 دولارات) وهو ما لا أتمكن من دفعه".

في حين تعاني أم نايف (43 عاماً) من حساسية جلدية وتنفسية مفرطة نتيجة عملها في معمل لتصنيع المنظفات لمدة 8 ساعات يومياً، وهذا انعكس بشكل مباشر على صحتها فاضطرت منذ أسابيع للتوقف عن العمل ليومين، وفي الثالث ارتدت كمامة و"توكلتُ على الله" بحسب تعبيرها.

طابور من الناس أمام الفرن الآلي للخبز بمنطقة باب توما في دمشق (الجزيرة)

تحديات السكن.. حياة في العراء

لا تقتصر معاناة النازحات السوريات في مناطق النظام على صعوبات المعيشة وتحديات العمل والإعالة فحسب، وإنما تشتمل على أوجه أخرى عديدة أبرزها اضطرارهن للعيش في شقق غير مؤثثة أو مجهزة بالخدمات.

وفاطمة (27 عاماً، اسم مستعار)، أم لطفلين ونازحة سورية من ريف حلب إلى ريف دمشق، واحدة من النسوة اللواتي اضطررن للانتقال من شقة مجهزة إلى أخرى غير مجهزة تحت ضغط غلاء الإيجارات وصعوبة الموازنة بين المصروف وإيجار الشقة.

تفتقر شقة فاطمة الجديدة إلى أدنى مقومات العيش، إضافة لغياب الخدمات الرئيسية من ماء وكهرباء إلا ما ندر، فتقع الشقة في عشوائيات عقربا بريف دمشق، وهي مدينة مهمشة ببنية تحتية كثيرة الأعطال، تقول فاطمة "لا نرى نور الكهرباء إلا ساعتين أو 3 يومياً والمياه لا تأتي إلا كل أسبوع مرة وبالكاد نستطيع أن نملأ برميلين".

ورغم عدم توفر إحصائيات دقيقة حول عدد العائلات النازحة التي تعيش في شقق غير مجهزة، غير أنه يمكن ملاحظة تزايد أعدادها بشكل كبير تزامناً مع موجة الغلاء غير المسبوقة التي شهدتها سوريا منتصف العام 2020.

المصدر : الجزيرة