شاهد.. تونسية تكرّس كل حياتها لأشقائها الخمسة ذوي الاحتياجات الخاصة

منيرة حجلاوي_رئيس الجمهورية التونسية كرّم سلوى ومنحها وسام الجمهورية_تونس-صفاقس_خاص الجزيرة نت
رئيس الجمهورية التونسية كرّم سلوى ومنحها وسام الجمهورية في موكب الاحتفال بالعيد الوطني للمرأة مؤخرا (الجزيرة)

تشير الساعة إلى السابعة صباحا، تنهض سلوى الطرابلسي قبل الجميع والهدوء يعمّ الأرجاء، فتتولى بسرعة ترتيب وتنظيف منزلها المتواضع في محافظة صفاقس التونسية (الجنوب الشرقي) لتشرع فيما بعد في إعداد وجبة فطور الصباح.

القهوة جاهزة ورائحتها الشهية تفوح مما يعني أن وقت احتسائها قد حان، فتوقظ سلوى أشقاءها الخمسة ذوي الاحتياجات الخاصة الحاملين إعاقات بدنية وذهنية والذين تتولى رعايتهم بمفردها والاعتناء بهم.

منذ كانوا أطفالا، عوّدت سلوى إخوتها وعلّمتهم كيفية العناية بأنفسهم من غسل وجوههم وتنظيف أسنانهم إلى كيفية ارتداء ملابسهم، غير أنها تقف بجانبهم تراقب عن كثب تصرفاتهم، وإذا احتاج أحدهم للمساعدة تهرع لتقديمها له.

يحين موعد ذهابها إلى العمل، فتودّع سلوى أشقاءها الخمسة وتوصيهم بالتزام الحيطة والحذر، وتوصي شقيقتها الحاملة لإعاقة بدنية بمكالمتها في حال حدوث أي طارئ.

منيرة حجلاوي_ينادي أشقاء سلوى بأمي لفرط تعلقهم بها_تونس-صفاقس_خاص الجزيرة نت
ينادي الأشقاء سلوى بأمي لفرط تعلقهم بها وتظهر بالصورة شقيقتها (يمين) (الجزيرة)

تضحي بأحلامها

كانت سلوى تبلغ من العمر 13 عاما عندما توفيت والدتها تاركة لها أختها التي لم تتجاوز حينها السنة ونصف السنة من العمر، فقررت الانقطاع عن الدراسة والاعتناء بشقيقتها الرضيعة.

تلك كانت أولى خطوات التضحية في حياة سلوى (60 عاما) كما تقول للجزيرة نت. وبعد سنوات قليلة توفي والدها أيضا، فاختارت بمحض إرادتها التكفل برعاية أشقائها الخمسة، وألا تتركهم بحاجة إلى عطف الآخرين وإحسانهم.

وإلى جانب قرارها بمغادرة مقاعد الدراسة مبكّرا، تخلت سلوى عن حلم الزواج وبناء أسرة وإنجاب أطفال، حتى تتفرّغ كليا لإخوتها وتهب كل أوقاتها لهم.

"لستُ نادمة"

تقول سلوى للجزيرة نت "لستُ نادمة بتاتا على قراري ولو عاد بي الزمن إلى الوراء لاتخذته مرة أخرى مغمضة العينين ومرتاحة البال، رغم أن عديد الرجال الذين تقدموا بطلب الزواج مني تعهدوا بالسماح لي بالعناية بأشقائي ولكني رفضت".

تعتبر المرأة أشقاءها أطفالها الذين لم تنجبهم وأصدقاءها وكل دنياها، فالحب الذي تراه في أعينهم ويغمرونها به والطمأنينة والأمان اللذين تشعر بهما عندما تكون محاطة بهم يغنيانها عن كل ما في هذا العالم.

منيرة حجلاوي_سعادتي عندما أكون محاطة بإخوتي (المتحدثة سلوى الطرابلسي)_تونس-صفاقس_خاص الجزيرة نت
سلوى الطرابلس: سعادتي عندما أكون محاطة بإخوتي (الجزيرة)

مهمة نبيلة

لا تلقي بالا لما يتصوره المجتمع بشأنها لأن الأهم بالنسبة لها هو سعادة أشقائها، فتستمد عزيمتها وصبرها من إيمانها ودعواتها الله أن يمنحها القوة حتى تنجح وتستمر في مهمتها النبيلة "فإخوتي هم عيني ويدي وساقي"، وفق قولها للجزيرة نت.

شكّلت سلوى بحنانها المفرط تجاه أشقائها رابطا قويا تجاوز قوة رابط الأخوّة إلى رابط أشد وهو الأمومة، فأصبحوا ينادونها "أمي"، وهي كلمة لها وقعها الخاص والسحري على قلبها، تؤكد للجزيرة نت.

وتسعى جاهدة لتوفر لهم كل ظروف العيش الملائمة والمريحة من خلال علاجهم في مصحات خاصة رغم وضعيتها الاجتماعية المتواضعة. فإلى جانب منحة التغطية الاجتماعية (180 دينارا تونسيا نحو 60 دولارا) التي تقدمها لها الدولة، تعمل سلوى منذ 34 سنة طاهية في جمعية "أولادنا" في صفاقس.

منيرة حجلاوي_تعمل سلوى منذ 34 سنة في جمعية أولادنا للتكفل بأشقائها_تونس-صفاقس_خاص الجزيرة نت
تعمل سلوى منذ 34 سنة في جمعية أولادنا للتكفل بأشقائها (الجزيرة)

أمّ الجمعية

وتأسست الجمعية عام 1985، وهي تعنى بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة والمتمثلة في التخلف الذهني ومتلازمة داون.

يلقب المشرفون على الجمعية وأطفالها سلوى بـ"أمّ الجمعية" نظرا لطيبتها الشديدة والمعاملة الحسنة ومشاعر الأمومة التي تبديها تجاه أطفال الجمعية من ذوي الاحتياجات الخاصة.

يقول أمين مال الجمعية محمد التركي للجزيرة نت إن سلوى هي أم الجميع بقلبها الكبير، فهي التي وقفت بجانب الجمعية في أحلك الفترات الصعبة التي مرّت بها، وهي التي تخلق شيئا من لا شيء، وتعامل أطفال الجمعية كأبنائها وأكثر فهي "امرأة مناضلة بكل معنى الكلمة".

منيرة حجلاوي_تخلت سلوى عن الدراسة والزواج للعناية بأشقائها الخمسة ذوي الاحتياجات الخاصة_تونس-صفاقس_حاص الجزيرة نت
تخلت سلوى عن الدراسة والزواج للعناية بأشقائها ذوي الاحتياجات الخاصة (الجزيرة)

صعوبات وتحديات

توفير مصاريف العلاج اللازم لأشقائها الخمسة إضافة إلى حاجيات المنزل، من أبرز التحديات التي تواجه سلوى رغم أنها كتومة من هذا الجانب ولا تحبّذ الشكوى أو طلب المساعدة.

ولكنها تسترجع مع الجزيرة نت أصعب اللحظات التي مرّت بها عند ملازمتها الفراش لمدة خمسة أشهر جراء جلطة أصيبت بها في ساقيها، قائلة "لقد حزنت كثيرا بسبب عجزي عن الاعتناء بإخوتي، وما زاد من حزني رؤيتي لهم وهم يبكون بسبب مرضي".

منيرة حجلاوي_ سلوى تساعد شقيقها ذي الاحتياجات الخاصة على ارتداء ملابسه_تونس-صفاقس_خاص الجزيرة نت
سلوى تساعد شقيقها ذا الاحتياجات الخاصة على ارتداء ملابسه (الجزيرة)

سرّ النجاح

بابتسامتها التي تغمر كل تفاصيل وجهها وبإيمانها القوي، تتغلّب سلوى الأخت المناضلة -كما يناديها الجميع- على كل هذه العقبات، وهي ترى أن سرّ نجاحها يكمن في محبتها الصادقة وغير المحدودة وعطائها دون مقابل لأشقائها الأيتام.

لا تنتظر سلوى عطاء أحد لأنها لا تعتبر نفسها قدمت معروفا أو إحسانا، وإنما هو رابط الأخوّة والأسرة الذي شجّعها على ذلك، وراحة البال ومحبة أشقائها لها وانتظارهم لها على أحر من الجمر عند عودتها من العمل هو أفضل وسام تتحصل عليه.

يشار إلى أن رئيس الجمهورية قيس سعيّد كرّم سلوى الطرابلسي ومنحها وسام الجمهورية من الدرجة الرابعة تقديرا لتضحياتها، وذلك خلال إشرافه مساء الخميس 13 أغسطس/آب الجاري على موكب الاحتفال بالعيد الوطني للمرأة في تونس.

وتدعو سلوى كل أسرة لديها فرد من ذوي الاحتياجات الخاصة لاحتضانه ومراعاته ومعاملته معاملة حسنة، وكل ما تطلبه أن يمدّها الله بالصحة وطول العمر حتى تبقى بجانب أشقائها تعتني بهم وتلبي حاجياتهم.

المصدر : الجزيرة