منذ أربعين عاما.. جزائرية تركت فرنسا وحاربت السرطان في الكويت

محمود الكفراوي-الكويت

كانت قد انتهت للتو من دراستها الابتدائية حينما قرر والدها القاضي الجزائري هجرة بلده الأم كي لا يضطر لمساعدة الاستعمار من خلال الحكم في قضايا النضال التي ترد إليه، بعدما تعمد في كثير من الأحيان تغيير أقوال المتهمين التي يدلون بها باللغة العربية وترجمتها لمعان مختلفة بالفرنسية.
 
توجه الأب إلى فرنسا، أسهل وجهة يمكن أن يقصدها بحكم تمتعه كغيره من الجزائريين بجنسيتها، نتيجة الاحتلال الذي اعتبر الجزائر وقتها المقاطعة الـ53 في باريس.
 
بدأت الطفلة لبيبة تميم ذات الأصول الأمازيغية دراستها في المرحلة الإعدادية التي أنهتها متفوقة، لتلتحق بالمرحلة الثانوية مستمرة في تفوقها بفضل حث والديها على أن تكون نموذجا للفتاة الناجحة، وعقب ذلك كان عليها تلبية حلم الأب بدراسة أحد أبنائه للطب وهو أمر رفضه شقيقها الأكبر فتصدت هي له.

في جامعة "رينيه ديكارت باريس 5" أنهت لبيبة أواخر سبعينيات القرن الماضي دراستها للطب بتقدير امتياز، وحين ذهبت لتسلم وظيفتها في المستشفى طلب منها التوجه إلى المطبخ إذ كان المكان المعتاد لعمل الفتيات القادمات من المستعمرات.

أكملت الطبيبة الشابة دراستها متخصصة في أمراض السرطان وعينت معيدة بالجامعة قبل أن تبتعث للدراسة في الولايات المتحدة لمدة عامين لإجراء بعض الأبحاث عن السرطان، وهو ما مكنها من دراسة اللغة الإنجليزية وإجادتها، وحين عادت لتعمل في أكبر مركز للسرطان بأوروبا، وقتها كانت الكويت قد خاطبت الجمهورية الفرنسية لمساعدتها في إنشاء مستشفى متخصص لأمراض السرطان، وهنا عرض عليها أستاذها الذهاب إلى الكويت في بعثة لمدة عام واحد.

بداية المخاطبات
تحكي لبيبة للجزيرة نت عن بداية مخاطباتها أواخر 1981 حين لم تكن تعرف أي معلومة عن الكويت أو موقعها الجغرافي، لكنها قبلت العرض بعد مناقشات عدة باعتباره فرصة للترقي عقب عودتها وبدأت تعد العدة للسفر.

وصلت إلى الكويت أواخر أغسطس/آب 1982، وقتها لم تكن قادرة على نطق كلمة عربية واحدة، لكن أولى صدماتها كانت مع الأجواء الحارة التي جعلتها حريصة على السفر إلى باريس مرة كل شهرين.

تذكر لبيبة أنها ومعها نحو أربعين طبيبا هم من بدؤوا العمل في مستشفى الكويت لأمراض السرطان المعروف بمركز مكي جمعة، أحد أكبر المراكز المتخصصة على مستوى الخليج، بل كانت هي من وضعت المفتاح في باب المركز يوم افتتاحه، إذ كانت وقتها الطبيبة الوحيدة بين العاملين قبل أن تزاملها لاحقا طبيبة أخرى.

تعود بذاكرتها للبدايات فتتذكر ذات يوم حين كان كبير الجراحين في المركز الدكتور الراحل نائل النقيب يجري إحدى العمليات، وكان يشغل كذلك منصب وكيل وزارة الصحة الكويتية، وأثناء العملية سأل النقيب جميع العاملين معه عما إذا كان قد وقع في خطأ ما فلم يرد أحد سواها على صغر سنها، وهو ما دفعه للإشادة بها وتوثقت العلاقة بينهما منذ ذلك الوقت. 

في نهاية العام الأول ذهبت تودعه قبل سفرها فرفض وأصر على أن تبقى عاما آخر، وهو ما وافقت عليه المستشفى التي تعمل به في فرنسا، وتكرر الأمر بعد ذلك لسنوات عديدة وكان لأجواء العمل في المركز الذي عُد وقتها أحد أهم المراكز المتخصصة في المنطقة ولاحتضان أهل الكويت لها، الدور الأكبر في بقائها وحرصها على تعلم اللغة العربية.

الغزو العراقي
تتوقف لبيبة كثيرا أمام ذكرى الغزو العراقي للكويت، وقتها وبعد شهرين تحديدا من الأحداث أرسلت فرنسا آخر طائراتها العسكرية لإخراج من تبقى من رعاياها، لكنها رفضت وفضلت البقاء على مسؤوليتها بعد أن استخرجت هوية جزائرية لتتحمل هي وأربعة أطباء فقط عبء إدارة المركز.

في العام 2005 تقاعدت لبيبة من عملها الحكومي ورحلت إلى فرنسا لتلتحق بعائلتها مرة أخرى، لكنها كانت تحرص على قضاء شهر رمضان في الكويت، وفي زيارتها للكويت في 2007 عرضت عليها مجموعة من السيدات تولي مسؤولية لجنة حياة الخيرية لمساعدة مرضى السرطان ممن لا يستطيعون تدبير نفقات العلاج الكبيرة.

مرة أخرى عادت الطبيبة لتستقر في الكويت وبدأت رحلة جديدة في مساعدة مختلف مرضى السرطان، لكنهم قصروا الأمر في 2012 على مساعدة مريضات سرطان الثدي، الذي تصل تكاليف علاج الحالة الواحدة منه سنويا نحو 25 ألف دينار كويتي (82 ألف دولار)، وخلال تلك السنوات بلغ عدد من تلقين المساعدة نحو ألفي مريضة قدم لهن علاج بنحو خمسة ملايين دينار (17 مليون دولار).

وفي مايو/أيار 2019 قلدها رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي جيرار لارشيه وسام جوقة الشرف برتبة فارس نيابة عن رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون، وهو أرفع وسام فرنسي تقديرا لجهودها في محاربة السرطان بالكويت.

وخلال كلمته قال لارشيه إن لبيبة أسست أول مختبر للكيمياء النسيجية المناعية الذي سمح بالكشف عن مولدات الضد انطلاقا من وجود الأجسام المضادة، الذي أصبح بعد اعتماد منظمة الصحة العالمية له مرجعا للبحث والتحكيم في مجال أمراض السرطان على مستوى الشرق الأوسط.

المصدر : الجزيرة