أسنان تتساقط وأجساد تتآكل.. قصة فتيات الراديوم ذوات العظام المشعة

كانت مصانع الراديوم تستخدم العنصر المضيء لطلاء عقارب الساعات حتى تتألق في الظلام (مواقع التواصل)

في زمن الحرب العالمية الأولى، كانت مصانع الراديوم تستخدم العنصر المضيء لطلاء عقارب الساعات حتى تتألق في الظلام. لم تكن الآثار الجانبية الخطيرة للعنصر المشع قد اكتشفت بعد، لكنها ظهرت سريعا على مئات الفتيات العاملات في طلاء العقارب، وتركت تأثيرا على حياتنا حتى الآن.

قوة الوهج

في عام 1898، اكتشفت العالمة الحائزة على جائزتي نوبل في الفيزياء والكيمياء ماري كوري وزوجها بيير كوري، عنصر الراديوم المشع، وظلا لسنوات عديدة يدرسان نشاطه الإشعاعي.

وبعد أقل من 20 عاما، أي في بدايات القرن العشرين، دخل الراديوم في مختلف الصناعات الحيوية، رغم أن خصائصه لم تكن مفهومة بالكامل بعد.

افتتن الناس حينها بتوهجه وقوته، فاستخدم سريعا في علاج السرطان، وأضيف إلى عدد من المنتجات اليومية، كمعجون الأسنان ومستحضرات التجميل وحتى الأطعمة والمشروبات.

حتى أن أحد هذه المستحضرات -واسمه "راديثور" (Radithor)- كان عبارة عن ماء مقطر بكميات ضئيلة من الراديوم الذائب فيه، وتم الإعلان بجرأة عنه تحت شعار "علاج للأموات الأحياء" و"الشمس المشرقة الدائمة"، ووعد التجار بأنه يعالج مختلف الأمراض كالنقرس.

5 سنتات مقابل ابتلاع الراديوم

في ذلك الوقت، كانت ساعة اليد أحدث صيحات الموضة، ولإضفاء المزيد من الإبهار عليها سعت المصانع لاستخدام الراديوم المشع في طلاء أرقام وعقارب الساعة، لجعلها أكثر توهجا وجاذبية ومبيعا.

افتتح أحد أوائل المصانع التي أنتجت هذه الساعات في ولاية نيوجيرسي الأميركية عام 1916، وبدأ بتوظيف حوالي 70 امرأة، وضمّت باقي المصانع التي تمركزت في ولايتي إلينوي كونيتيكت المئات من الفتيات.

كان لمعان الراديوم جزءا من جاذبيته الوظيفية، حيث كانت الفتيات يتوهجن من بريق الراديوم المتناثر على ملابسهن وشعورهن، إضافة إلى السمعة التي نشرها المستثمرون باعتباره العنصر السحري للطاقة والشباب الدائم.

اتسعت أرضية العاملات في المصانع حتى أن مجموعات كاملة من الشقيقات عملن جنبا إلى جنب (مواقع التواصل)

ومن خلال شبكات الأصدقاء والعائلة، اتسعت أرضية العاملات في تلك المصانع، حتى أن مجموعات كاملة من الشقيقات عملن جنبا إلى جنب.

لم تقتصر مهمة العاملات على وضع الطلاء المشع على القطع الدقيقة، لكنهن -بحسب "الإذاعة الوطنية الأمريكية" (NPR)- أجبرن على لعق فرش الطلاء قبل تلوين كل رقم أو عقرب، حتى تظل الفرشاة رطبة لتمتص الراديوم ويسهل توجيهها على العقارب وأجزاء الساعة، ووقتها لم يكن لدى الفتيات سبب للقلق من الراديوم خاصة مع تأكيد أصحاب العمل أنه مادة آمنة، حتى أنهن كن يتزينَّ به من خلال تلوين أظافرهن وشفاههن ليضئن في الظلام.

عملت الفتيات على طلاء ما يزيد على 200 ساعة يوما، وطلاء 12 رقما لكل ساعة، ومع كل نوبة حصلن على 5 سنتات، ومع كل رقم ابتلعن القليل من الراديوم.

الضوء المؤلم

"مولي ماجيا".. فتاة شابة في بداية العشرينيات، هي الرابعة بين 7 شقيقات لعائلة بريطانية مهاجرة إلى الولايات المتحدة.

عملت مع 4 من شقيقاتها في شركة "راديوم الأميركية" بولاية نيوجيرسي. وفي عام 1922، شعرت بآلام في أحد أسنانها.

خلع الطبيب السن، ولكن بعد ذلك بدأت السن التالية تؤلمها وكان لا بد أيضا من خلعها. ومكان الأسنان المفقودة، ظهرت تقرحات مؤلمة على شكل أزهار داكنة، تتفتح باللونين الأحمر والأصفر وتنزّ دما وقيحا ورائحة كريهة.

لم تشف آلام "مولي"، واعتقد طبيبها أن "خرّاجا" واحدا كبيرا يمتد من فكها السفلي إلى سقف فمها حتى بعض العظام في أذنيها، لكن هذا عرف فيما بعد بـ"فك الراديوم"، بحسب "هورو بوكس" (Horobox).

أصيب الطبيب بصدمة كبيرة عندما أمسك ذقن "مولي" فانكسر عظم الفك في يده، وبعد أيام قليلة، أزال فكها السفلي بالكامل بنفس الحركة.

بالتزامن مع معاناة مولي، شعرت زميلاتها بآلام بدأت هينة ومع الوقت ازدادت قسوة، إذ بدأت أسنانهن تتعفن وهياكلهن العظمية تنهار.

استقرَّ الراديوم المبتلع في أجساد النساء، وظل ينبعث منه إشعاع مستمر، أحدث ثقوبا في العظام وتساقطا للأسنان وتآكلا في الفك، وهم على قيد الحياة.

وخلال أشهر قليلة، تخللت العدوى جسد مولي كاملا حتى أنها كانت تنزف دما من حلقها، وكانت أول فتاة في المصنع تموت عن 25 عاما جراء تعرضها للإشعاع.

كيف يقتل الراديوم

على الرغم من أن الراديوم مادة مشعة موجودة في الطبيعة، فإن لها آثارا صحية ضارة في ظل ظروف بعينها.

وتعتمد احتمالية حدوث آثار صحية على كمية الإشعاع التي يتعرض لها الشخص، إذ إنه كلما زادت الكمية الإجمالية للتعرض للإشعاع من الراديوم، زادت احتمالية الإصابة. ووفقا لمنشور لمكتب الصحة البيئية بولاية ماساشوستس، فقد يؤدي التعرض للراديوم على مدى سنوات عديدة إلى زيادة خطر الإصابة ببعض أنواع السرطان، وخاصة سرطان الرئة والعظام، كما تبين أن الجرعات العالية منه تسبب فقر الدم، وإعتام عدسة العين، وكسر الأسنان وانخفاض نمو العظام.

انتصار ثمنه الموت

ماتت مولي في أواخر عام 1922، وكتب الطبيب في شهادة وفاتها أن السبب هو إصابتها بمرض الزهري.

وبعد وفاتها بـ3 أعوام، ماتت العشرات من العاملات، وقررت زميلتها غريس فراير -وهي إحدى العاملات في مصنع نيوجيرسي- رفع دعوى قضائية، لكنها قضت عامين في البحث عن محام على استعداد لمساعدتها.

ووفقا للإذاعة الوطنية الأميركية، فإنه بحلول عام 1927، توفيت أكثر من 50 امرأة كنتيجة مباشرة للتسمم بطلاء الراديوم. وفي نفس العام، وجدت غريس محاميا ورفعت القضية مع 4 من زميلاتها المصابات.

في عام 1928، حسمت القضية لصالح "فتيات الراديوم"، وبفضلهن تغيرت ظروف وقوانين العمل، إذ أصبح من حق العامل رفع قضية على الشركة المستأجرة لخدماته في حال تعريض حياته للخطر، وتم تزويد العمال بمعدات واقية.

وبحسب "سي إن إن" (CNN) تلقت الناجيات تعويضات مالية، وذكرت شهادات الوفاة السبب الحقيقي للموت، كما حظرت إدارة الغذاء والدواء المنتجات القائمة على الراديوم، وتم التخلص التدريجي من طلاء الراديوم نفسه في النهاية، ولم يستخدم في طلاء الساعات منذ عام 1968.

المصدر : مواقع إلكترونية