التونسية لمياء.. طفلة القمر تبحث عن حكايتها في علم الجينات

بدرالدين الوهيبي - لمياء حكيم تتحدث عن رحلتها مع مرض اطفال القمر - تونس 4
لمياء حكيم تتحدث عن رحلتها مع مرض "أطفال القمر" (الجزيرة)

بدر الدين الوهيبي-تونس

خلف ستار أسود في ركن بآخر الفصل كانت الطفلة ذات الست سنوات لمياء حكيم تجلس وتستمع لصوت معلمتها تلقي الدرس، لم تستوعب الطفلة في تلك السن معنى أن تحجب عنها السبورة والحروف وضوء الشمس، وألا تخرج للفسحة مع أترابها، ولا معنى أن تكون ابنة للقمر.

أطفال القمر
لمياء حكيم 26 سنة، تونسية مصابة بمرض أطفال القمر، حاصلة على شهادة الماجستير في العلوم وتستعد لمناقشة دكتوراه في علم الجينات والوراثة، لا تزال تستحضر ملامح الفتاة الصغيرة ومشاهد معركة لا تعلم أسبابها دفعتها لمواجهة كوكب مثل الشمس في تلك السن.

الاسم العلمي للمرض هو جفاف الجلد المصطبغ، وهو مرض وراثي نادر يصيب قرنية العين والجلد اللذين يصبحان حساسين تجاه الأشعة فوق البنفسجية الموجودة بأشعة الشمس وحتى في مصابيح الإضاءة العادية، وتم اكتشافه لأول مرة سنة 1870.

في عالمين منفصلين
بنبرة ضاحكة تشي بشخصية مرحة تتذكر لمياء مشاهد طبعت بذاكرتها الطفولية، كيف يخرج الأتراب للعب في الفسحة وتمنع هي من الخروج معهم، تقول إنه كان من المستحيل على عقلها فهم الأمر، ولم يكن لها خيار آخر سوى تصديق وعود وتطمينات والديها والإطار التربوي للحضانة التي ترتادها.

تضيف أنها وجدت نفسها ومنذ نعومة أظافرها تعيش في عالمين منفصلين، عالمها المنعزل عن أشعة الشمس لسبب ما، وعالم يصفه ويتحدث عنه الآخرون، لم تكن تملك في مواجهة هذا الكم الهائل من المعلومات عن هذا العالم الخارجي سوى مخيلة تنتج صورا وأحاسيس تقريبية للأمور.

‪ترتدي القناع الواقي من أشعة الشمس داخل غرفتها‬ (الجزيرة)
‪ترتدي القناع الواقي من أشعة الشمس داخل غرفتها‬ (الجزيرة)

تستحضر أوّل تحدياتها للشمس
تستحضر أوّل تحدياتها للشمس، يوم اقتربت من باب الفصل أثناء الاستراحة الصباحية للأطفال وكيف وقفت بمحاذاة ضوء الشمس على الأرضية، وحش منير يتربص بها متوعدا بصمت بشرتها الغضّة، أول حوار وجها لوجه ستكتب لمياء أسئلته وإجاباته بعد عقدين من الزمن.

تلمع عيناها عندما تتحدث عن والديها، هما الجدار المنيع الذي أحاط بها منذ ولادتها، ورغم قلة وعي المجتمع بنوعية هذا المرض وقلة الإمكانيات المتاحة لحماية المصابين به أوائل التسعينات فإنهما كافحا لتوفير مستلزمات تجلب من أوروبا في تلك الفترة تبقي لمياء في مأمن من براثن الشمس.

تتذكر أصعب فترات حياتها، تحديدا المرحلة الفاصلة بين المراهقة والبلوغ، زهرة أجبرت على التفتّح تحت قناع ونظارات شمسية لا تفارقها في حلّها وترحالها بين المعهد والبيت، أزمة وجودية تلقفها والدها نعمان بكل حكمة ليصنع منها شخصية قوية ومرحة مقبلة على الحياة.

يقول بهذا الصدد إنه نقل إلى ابنته إيمانه بالتعليم وعدم الرضوخ للعراقيل التي تقف أمام الإنسان مهما كان حجمها، لم تكن مهمة سهلة لو لم يجد في شخصية لمياء الأرضية المناسبة والخصبة لرفع هذا التحدي الكبير مقارنة بسنها في تلك الفترة والتي حوّلته بدورها إلى تألق دراسي منقطع النظير.

‪من ألبوم لمياء حيث تستعد لمناقشة‬  الدكتوراه بعلم الجينات والوراثة 
‪من ألبوم لمياء حيث تستعد لمناقشة‬  الدكتوراه بعلم الجينات والوراثة 

توجه علمي لفهم المرض
أسئلة عقلانية كثيرة بدأت تتشكل بمجرد تجاوزها ثورة الطفولة والمراهقة، عن أسباب إصابتها بهذا المرض، خصائصه وتأثيراته على جسم الإنسان، الشيء الذي خوّل لها في البداية التألق في المواد ذات الطابع العلمي، ثم انقلب إلى شغف بالبحث والدراسة ترجمته بالحصول على أعلى الدرجات العلمية.

تقول إنها توصلت لفهم مرضها، ونجحت في تفكيك بعض شفراته الغامضة التي أحاطت به منذ اكتشافه مما يساعدها على توخي أنجع السبل والوسائل لردعه، فهمت أيضا أن وراء إصابتها بهذا المرض مشيئة الهية عليا، جعلتها تتجنب نور الشمس وفي المقابل منحتها القوة والعزيمة لتقاوم وتنجح.

هذا الإيمان العميق لم يفقدها الأمل في تطور الأبحاث العلمية لإيجاد دواء لهذا المرض الذي يعاني منه الآلاف في العالم، لا سيما وأنها من مرتادي مختبرات البحث العلمي بالجامعة التونسية بحكم الأبحاث والتجارب التي تجريها استعدادا لمناقشة رسالة دكتوراه في علم الجينات والوراثة.

لم يلجم حبها للفن والحياة
بابتسامة مشرقة تضيف لمياء أن مرضها لم يلجم داخلها حبها للفن والحياة، تقول إنها تمارس الرقص منذ ست سنوات في إطار نادي للرقص بالعاصمة، الأكثر من ذلك أنها شاركت في بطولة فيلم "بنت القمرة" الذي تم إدراجه ضمن الأشرطة الطويلة خارج المسابقة في أيام قرطاج السينمائية 2018.

لا يزال المجتمع ينظر ببعض التحفظ للمصابين بمرض أطفال القمر، تقول لمياء إنها حتى الآن تفاجأ أحيانا بردود أفعال غير مناسبة من بعض الأشخاص الذين يجهلون طبيعة مرضها، خاصة وأنها ترتدي قناعا ونظّارات شمسية خلال تنقلاتها في النهار، تضطر للتفسير أحيانا وتغض الطرف أحيانا أخرى.

جمعية نسائية لذوات الاحتياجات
تطمح لإنشاء جمعية تعتني بالنساء ذوات الاحتياجات الخاصة لمساعدتهن على مواجهة المجتمع ورفح تحديات حياتهن اليومية، وتضيف أن الكثير من المواهب والطاقات الفكرية والإبداعية لهذه الفئة من الناس يقع سحقها وتدميرها من المجتمع لتختار العزلة والذبول في صمت هروبا من نظرة الآخرين.

لمياء، شمس تشرق لتضيء لأمثالها الطريق في تونس والعالم العربي، لتقارب الثقافات والإمكانيات المتاحة للمصابين بهذا المرض، لم تستكن لما أصابها، بل صنعت لنفسها طريقا مضيئا مليئا بالنجاحات العلمية والاجتماعية، إنه طريق تصرّ أن تسلكه كل يوم عندما تغرب الشمس خجلا.

المصدر : الجزيرة