سمية العمراني.. أحلام زرقاء من أجل أطفال التوحد

سمية العمراني في إحدى جولاتها مع ابنتها اية.
سمية العمراني في إحدى جولاتها مع ابنتها اية (الجزيرة)
مريم التايدي-الرباط

عندما التقيناها، مدت نحونا يديها ببراءة الأطفال، كي نرى طلاء أظافرها، ولسان حالها يقول "ربما أكون مختلفة، لكنني فتاة مثل الفتيات، ويمكنني التمتع مثلهن بكل الأشياء الجميلة".

إنها آية عمرها 25 عاما، لا تستطيع التواصل بالكلام نتيجة التوحد، لكنها تستعمل طريقة "بيكس" (نظام تواصل مرئي عبر مجموعة من الصور يعبر من خلالها مستعمله على رغباته) لتبلغ المحيطين ما تريد قوله.

تحمل آية كتاب "بيكس" للتواصل معها، واصطفت فيه الصور بعناية، كأنها تحمل حقيبة يد نسائية. تجلس بين مربيها وأمها بالمقهى، ووُضعت أمامها علبة بها فواكه جافة وأشياء تحبها آية، يستعملها المربي كمحفزات في إطار برنامج لتعزيز مهاراتها التعليمية.

‪آية‬ (الجزيرة)
‪آية‬ (الجزيرة)

هكذا أنقذت آية
"كمن نقلته من الجحيم إلى الجنة". بهذه العبارة التي قد تبدو فيها مبالغة، عبرت سمية العمراني عن انتقال آية ابنتها من حالة الانطواء الشديدة التي كانت تعانيها، والتي كانت مصحوبة بممارسة العنف والتكسير، إلى وضعها الحالي بعد اعتماد المقاربة السلوكية وطرقها التطبيقية في تعليمها والتعامل معها.

تروي سمية العمراني للجزيرة نت كيف كانت آية تمزق ملابسها وتضرب نفسها وتعنف أختها، وتتذكر سمية اليوم -بالكثير من الحسرة- كيف كانت تعجز عن حماية أخت آية منها لتقول متنهدة -كمن أزاح ثقلا عن أكتافه- "المدرسة السلوكية أنقذت الأسرة كلها، أما التحليل النفسي فأخذ من آية حياتها وسرق مني جزءا من حياتي".

معركة من نوع خاص
عادت معنا العمراني ربع قرن إلى الوراء، حين واجهت خليطا من مشاعر الضعف والتهميش والوحدة، وخاضت معركة من نوع خاص بعد أن عانت ابنتها من نوبة صرع وهي رضيعة في سنتها الثانية، لتجد نفسها هدفا للوم الأطباء والمحيطين بها الذين حمّلوها مسؤولية ما تعانيه ابنتها.

خاضت العمراني رحلة البحث عن العلاج، ورغم كونها تُنعت في الأوساط المهتمة بالإعاقة "بالمرأة الحديدية"، فإن دموع سمية غلبتها مرات عدة وهي تحكي عن معاناتها وعن تشتتها بين وضع ابنتها وبين محاولة الفهم، وبين إحساس الذنب الذي يحمّلونها إياه. وقالت متنهدة "في مرحلة ما اعتقدت أنني أنا السبب فعلا".

‪إحدى صور سمية بمقر‬ (الجزيرة)
‪إحدى صور سمية بمقر‬ (الجزيرة)

فيلم أنار الطريق
لم يكن هناك تشخيص لوضع آية، وأنهكتها الأدوية والمسكنات، وزادت ضعف مناعتها الجسمانية. في حين كرست العمراني حياتها لابنتها والتصقت بها، تنام وتستيقظ على أنفاسها، إلى أن شاهدت في أحد الأيام فيلما يعالج ظاهرة التوحد، ولاحظت التشابه الكبير بين سلوك بطل الفيلم التوحدي وابنتها، لتبدأ رحلة التعرف على التوحد.

تحولت العمراني بعد نضال مستميت وكفاح ضد "مجهول" إلى مرجع في المرافعة الحقوقية من أجل الأطفال ذوي إعاقة التوحد وأسرهم. أسست جمعية لآباء يعانون من الإعاقة نفسها، وترأست ائتلافا من 25 جمعية عاملة في مجال إعاقة التوحد بالمغرب، ثم أصبحت عضوا في المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وعضوا للهيئة الاستشارية لجمعية الوسيط من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان بعدة جمعيات تختص بالدفاع عن حقوق المعاقين.

من أجل غد أفضل
استطاعت العمراني بصبرها وكفاحها أن تنقل النضال لصالح الأطفال التوحديين، والأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة من دائرة التضامن إلى دائرة الحق، عبر مرافعاتها الحقوقية، مطالبة بحقهم في التعليم وحقهم في الاندماج وحقهم في العيش الكريم.

انخرطت العمراني بقوة في قضية الإعاقة بالمغرب، وعملت مع فاعلين في المجال على إدخال تقنيات حديثة للتواصل مع الأطفال التوحديين، ونظمت العديد من التظاهرات والدورات التكوينية لصالح الأمهات والمربين والمدربين.

لم تتوان سمية عن الانخراط والمشاركة في كل حين، تجري باللون الأزرق من أجل أطفال التوحد، وربما تحلم بالأزرق، وتقول وهي على الطريق "من أجل أبنائنا، من أجل غد أفضل، من أجل مستقبل كريم، من أجل مغرب المساواة والكرامة والعدل، نجري بالأزرق، نجري لكي يعود سعد ويعود ريان ويعود عبد الرحمن إلى صفوف الدراسة، نجري لكي ينعم أبناؤنا بفرص متكافئة".

‪سمية العمراني تجري بالأزرق لأجل أطفال التوحد‬ (الجزيرة)
‪سمية العمراني تجري بالأزرق لأجل أطفال التوحد‬ (الجزيرة)

مؤسسة التوحد
مع تطور البحث والدراسات عالميا، والتحول إلى الاشتغال بالطرق السلوكية التي بدأت تعطي نتائج؛ آمنت العمراني بأن الموضوع أكبر من الأسر ومن الجمعيات وتلزمه مؤسسات، حينها بدأت الاشتغال على الاتفاقيات الدولية، وبدأت الترافع من أجل الحق في التربية الدامجة (التعليم بالمدارس العمومية).

تشعر سمية اليوم بالفخر، محققة انتصارات حقوقية في مجال الإعاقة، بعد أن تضمنت موازنة الدولة في 2019 برنامجا متكاملا عن التوحد، وأصبحت جزءا من برامج الدولة وبرامج قطاعية في الرياضة والصحة تتكلم عن التوحد. وصار التوحد قضية من قضايا حقوق الإنسان، بعد أن كان قضية طبية ومسألة إحسان، وأصبح للمعاقين الحق في اجتياز الاختبارات المكيفة.

حلم جديد
تواصل آية تحقيق انتصارات في التعلم والتواصل، تذهب مع أختها لصالة التجميل وقاعة الرياضة، ورغم أنها أخلفت موعدها مع التعليم نتيجة غياب التشخيص المبكر والمواكبة حينها، أو "ضيعت مراحل" حسب تعبير أمها، فإنها اليوم فتاة في مقتبل العمر مسموح لها ما هو مسموح لمثيلاتها.

وتؤكد العمراني أنها تؤمن بالحق في التعليم وتعتبره أساس الأهلية القانونية، وتساند أطفال التوحد في التربية الدامجة، وتحلم اليوم "بنموذج جديد يحقق الحماية لمن هم أكثر ضعفا وأقل مهارات".

المصدر : الجزيرة