في ريف القيروان.. 250 تونسية أصبحن خلية نحل تنتج الزيوت والعطور

نساء الجبل يصبحن شريكات بدل ان يكن اجيرات (الجزيرة)
نساء الجبل أصبحن شريكات بدل من أن يكن أجيرات (الجزيرة)

ناجح الزغدودي-تونس

وسط غابات الوسلاتية بمحافظة القيروان، تنتشر عشرات النساء والفتيات يقطفن أوراق أشجار الكاليتوس الشاهقة وأغصان الصنوبر والزعتر والإكليل كأنهن سرب نحل باحث عن رحيق الأزهار.

توجه خريجة الجامعة الشابة شريكاتها في العمل نحو أنواع محددة من الأشجار الغابية ذوات الرائحة الزكية، وعندما تمتلئ الأكياس تعود برفقتهن إلى المختبر حيث يجري استخراج زيوت النباتات لتتحول إلى أدوية وعطور.

بقميصها الأبيض الشبيه بلباس أعوان المخابر، تقف الشابة لمياء العامري بفضاء ترشيح (تقطير) أمام جهاز الرشح تراقب تسرب قطرات الزيت الثمينة المنسابة في الأنبوب، كأنها تراقب امرأة في حالة مخاض.

لمياء وشقيقتها و250 امرأة
أسست لمياء وبالشراكة مع 250 امرأة من منطقة الوسلاتية (غرب محافظة القيروان) شركة جواهر وسلات، المتخصصة باستخلاص الزيوت العطرية من أشجار الصنوبر الحلبي والنباتات الغابية وتعليبها وتصديرها.  

أنارت فكرة المشروع نفق سنوات البطالة الحالكة ومتاعب البحث عن عمل بين محافظات تونس. لم تنجح خلالها لمياء ولا شقيقتها خريجتا الجامعة، في إيجاد مورد رزق أمام تضاءل فرص العمل بعد ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011.

أما باقي النساء الشريكات فقد كن سابقا عاملات اشتغلن أجيرات لدى مقاولين موسميين ينشطون في مجال قطف نبات الإكليل وتقطيره ليصبح زيتا باهظ الثمن، مقابل أجرة زهيدة وغياب الحماية وسط الغابة.

اليوم أصبحت النسوة صاحبات أسهم في الشركة، وهن في الوقت نفسه، موظفات يحصلن على مرتبات شهرية مستقرة، ويتمتعن بتغطية صحية، وفق نظام الشركات التعاونية التي تعتمد على الاقتصاد التضامني.

‪المشروع بدا بفكرة ثم كبر الحلم وتحقق.. حوار لمياء مع شقيقتها‬ (الجزيرة)
‪المشروع بدا بفكرة ثم كبر الحلم وتحقق.. حوار لمياء مع شقيقتها‬ (الجزيرة)

نحلات الغابة يقطفن أزهارها
صباحا تتجه أفواج النساء إلى الغابة التي حصلت الشركة على ترخيص مسبق لقطف ما ينبت فيها من نبات الإكليل والزعتر والعرعر وأغصان الكاليتوس والصنوبر فينتشرن في أرجاء الغابة يقطفنها كأنهن خلية نحل.

تستخرج الشركة مستخلصات زيتية ومائية مفصولة بدقة وعناية، ثم تعلبها على حدة داخل مخبر متخصص، وترفض العاملات بيع الزيت سائبا بقيمة أقل عشر مرات من ثمنه معلبا رغم ضغط المنافسين.  

تضمن اليد العاملة المتنوعة التخصصات ضمن فريق العمل النسائي، جودة عملية الاستخلاص والتعليب وفق مقاييس علمية وشروط صحية. وهذه الشروط مكنت الشركة من الحصول على علامتها التجارية المميزة.

‪لمياء ترشح النباتات الغابية وتستخرج الزيوت والعطور‬ (الجزيرة)
‪لمياء ترشح النباتات الغابية وتستخرج الزيوت والعطور‬ (الجزيرة)

صديقات الغابة ونباتاتها
لا تبعد الغابة كثيرا عن مركز الشركة الحالي، ولا تبعد عن مساكن العاملات. فهن سكان المناطق الغابية وصديقات الغابة ونباتاتها، فيحرصن في عملهن على حماية الثروة النباتية لتكون مورد رزق مستداما.

من خلال التجارب العلمية التي قامت بها لمياء أصبحت تعرف الموسم الذي تدر فيه كل نبتة كمية أكبر من الزيوت وتشارك زميلاتها هذه المعلومات مع مراعاة الجوانب البيئية للغابة وتفادي استنزافها.

حصول الشركة على ترخيص استغلال وفق شروط مسبقة جعل النساء يعملن بأريحية أكبر في ظل قوانين تمنع عادة استغلال الغابة، حفاظا على بعض الفصائل الغابية النادرة، مثل شجرة الكاليتوس الروسية ذات الجذع الطويل الأبيض.

تمر عملية الاستخلاص بمراحل تتقنها النساء وفق أدوار منسجمة ومتكاملة. ينقل الزيت المتحصل عليها إلى المختبر ثم يعلب في قوارير صغيرة الحجم. ويقدر سعر اللتر المعلب بـ300 دولار.

‪تحول النساء أزهار الغابة إلى زيوت وعطور‬ (الجزيرة)
‪تحول النساء أزهار الغابة إلى زيوت وعطور‬ (الجزيرة)

50 شهادة بمجال النباتات والتجميل
إضافة إلى لمياء وشقيقتها، تضم الشركة 50 صاحبة شهادة عليا من اختصاصات متعددة ذات علاقة بمجال النباتات والتجميل. وتعمل كل متخصصة على تجارب لاستخراج مواد التجميل والعطور من النباتات الغابية العطرية.

مع تطور العمل واستقرار الشركة، أصبحت المؤسسة النسائية الملاذ الآمن للنساء ربات البيوت من العائلات الفقيرة. إذ التحقت عشرات النساء ساكنات الجبال وأصبحن قادرات على توفير موارد رزق لهن بأجر محترم.

فقد كن يشتغلن أجيرات لدى مستغلين للغابات في مجال استخراج زيت نبات الإكليل (يباع سائبا). وكان عملهن عشوائيا ويحصلن على أجر ضعيف مقابل العمل من الفجر إلى غروب الشمس رغم ما يدره العمل من أموال للمستثمرين.

‪شابات فلاحيات تحولن من أجيرات إلى شريكات في مؤسستهن‬ (الجزيرة)
‪شابات فلاحيات تحولن من أجيرات إلى شريكات في مؤسستهن‬ (الجزيرة)

الشابات العنصر الأبرز
الفتيات الشابات هن العنصر الأبرز في المؤسسة التضامنية. احتضنتهن الشركة بعد رحلات بحث عن شغل في المدن الساحلية بعيدا عن أهلهن بمرتبات ضئيلة لا تكفي للكراء والتنقل. ووجدن أخيرا المستقر المهني والكرامة.

صمد المشروع أمام عديد العراقيل، منها القانونية، قبل أن تضع الدولة أطرا قانونية للنمط الاقتصادي التعاوني وإجراءات حكومية تشجع على تثمين المقدرات الغابية ضمن مشروع "المشاهد" الممول من البنك الدولي بقيمة 110 ملايين دولار.

استطاع المشروع ذو النمط الاجتماعي أن يوفر العمل المستقر للنساء، في ظروف اقتصادية صعبة تعيشها البلاد، منها تنامي نسب البطالة والفقر. وهو ما دفع شبانا آخرين إلى النسج على منوالهن في بعث مشاريع شبيهة بالمنطقة.

ووصفت وزارة الفلاحة هذا المشروع بأنه "نموذجي في تثمين الثروات الطبيعية المجانية لتوفر عملة صعبة من خلال تصديرها". وخصصت منحا ومرافقة في مختلف مراحل المشروع عبر وكالة الاستثمار الفلاحي.

 64% من اليد العاملة نساء
وفق إحصائيات رسمية تسجل محافظة القيروان نسبة بطالة تقدر بـ15.8%. ويقدر عدد طالبي الشغل بـ27 ألفا معظمهم من أصحاب الشهادات العليا، بينهم 11.735 ألف امرأة.

وتمثل المرأة العاملة في القطاع الفلاحي 64% من اليد العاملة. غير أن منظمات حقوقية واجتماعية تشير إلى أن 98% من النساء العاملات بالقطاع الفلاحي دون تغطية اجتماعية وصحية.

مؤخرا تبنت وزارتا المرأة والشؤون الاجتماعية مشروعا بعنوان "احميني" هدفه توفير تأمين صحي، ومنظومة تقاعد تسمح لكل امرأة بسداد قيمة الاشتراك عبر تطبيق الهاتف الجوال بشكل مجزأ.

المصدر : الجزيرة