البيولوجيا الرقمية أساس صناعة الأدوية المستقبلية وعمالقة التقنية يسعون لحصتهم من الكعكة

أمازون وغوغل ومايكروسوفت تستقطب حاليا علماء البيولوجيا والمعلومات الحيوية من أفضل المؤسسات الأكاديمية في العالم (غيتي)

تهتم البيولوجيا الجزيئية أو علم الأحياء الجزيئي بشكل أساسي بدراسة التفاعلات والعلاقات بين الحمض النووي منزوع الأكسجين (DNA) والحمض النووي غير منزوع الأكسجين (RNA)، والبروتينات التي تُبنى باستخدام تعليمات وراثية مرمزة والتي تتشكل منها هذه الأحماض. وأول من استخدم هذا المصطلح هو العالم الأميركي وارين ويفر عام 1938.

وعلى مدى تاريخها أولت شركات الصيدلة الكبرى في العالم مثل "فايزر" (Pfizer) و"جونسون آند جونسون" (Johnson & Johnson) اهتماما بالغا بإجراء أبحاث معمقة في البيولوجيا الجزيئية لأهميتها البالغة لهذه الشركات، حيث يدخل هذا العلم في صناعة عدد كبير من الأدوية والعلاجات التي تنتجها أو تسعى لإنتاجها في المستقبل.

لكن عمالقة التكنولوجيا في العالم بدؤوا في السنوات الأخيرة يدخلون بقوة في هذا الميدان بسبب الأرباح الكبيرة الكامنة فيه، حيث وصل حجم سوق الأدوية العالمي في العام الماضي 2020 إلى تريليون و228 مليارا و45 مليون دولار، ومن المتوقع أن يصل إلى 1250.24 تريليون و250 مليارا و24 مليونا في نهاية عام 2021، وذلك كما ذكر تقرير السوق العالمية للأدوية للعام الجاري 2021.

وتستقطب أمازون (Amazon) وغوغل (Google) ومايكروسوفت (Microsoft) حاليا علماء البيولوجيا والمعلومات الحيوية من أفضل المؤسسات الأكاديمية في العالم، وتدفع لهم مبالغ خيالية لإجراء الدراسات والأبحاث المتخصصة، حيث تسعى هذه الشركات لاستخدام قدراتها الهائلة على جمع وتحليل البيانات لإجراء الأبحاث العلمية والتطبيقية المتعلقة بصناعة الأدوية التي تعتمد بشكل أساسي على البيولوجيا الجزيئية، مستخدمة في ذلك الحوسبة السحابية والتعلم الآلي والذكاء الاصطناعي للتأثير على قطاع الرعاية الصحية في العالم كله، وذلك كما ذكرت منصة "أناليتكس إنديا ماغ" (AnalyticsIndiaMag) في تقرير لها مؤخرا.

قوة شركات التكنولوجيا

وقال التقرير إنه نظرا للأموال الهائلة والموارد غير المحدودة والتقنيات المتقدمة التي يملكها عمالقة التكنولوجيا، فإنهم مهيؤون تماما للسيطرة على ميدان البيولوجيا الجزيئية، ومؤخرا أطلقت شركة ألفابت (Alphabet) برنامجا خاصا اسمته "ألفا فولد 2" (AlphaFold 2.0) يتكون من خوارزميات قائمة على الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بشكل البروتينات، وقد انطلق المشروع عام 2016، ويتوسع منذ ذلك الحين مما يفتح آفاقا جديدة أمام قطاع صناعة الأدوية.

وفي هذا السياق، دعا معهد آلان تورينج (Alan Turing) البريطاني إلى مشاريع تجريبية تستخدم الذكاء الاصطناعي في البيولوجيا الجزيئية لمعالجة الجوانب الأكثر أهمية في علاقة الجينات بالبيولوجيا مثل دراسة بنية ووظيفة الجينات، والتفاعل الجزيئي الذي يحدث داخل الخلايا، وكذلك بحث دور البروتينات وشكلها ووظيفتها، وإمكانية تطوير أدوات التصوير الدقيقة المستعملة في مراقبة هذه التفاعلات داخل الخلايا.

من جانب آخر، وباستثمار بلغ 100 مليون دولار، أطلقت مؤسسة "إنفيديا" (NVIDIA) المتخصصة في أبحاث الذكاء الاصطناعي بالتعاون مع جامعة كامبريدج البريطانية أقوى حاسوب عملاق في تاريخ المملكة المتحدة أسمته "كامبريدج-1" (Cambridge-1)، لتمكين العلماء وخبراء الرعاية الصحية من اكتشاف أدوية وعقاقير جديدة، فضلا عن رقمنة الحامض النووي إلى تسلسلات من مليارات الجزئيات في محاولة جادة لتسريع ثورة البيولوجيا الرقمية.

من جهتها، أطلقت شركة مايكروسوفت، بالتعاون مع جامعتي أكسفورد وبرينستون البريطانيتين محطة خاصة تحت اسم "ستيشن بي" (Station B platform) والتي تم تطويرها في مركز أبحاث مايكروسوفت بجامعة كامبريدج، وهي أول منشأة متخصصة للبيولوجيا الجزيئية لمايكروسوفت، وتعمل على تحسين برمجة الأنظمة البيولوجية المستخدمة حاليا وتطويرها إلى مستويات جديدة.

أما أمازون، فإن استحواذها على شركة "بيل باك" (PillPack) عام 2018، وكذلك إطلاق صيدلية أمازون الرقمية في العام الماضي يشيران إلى الاهتمام الكبير الذي توليه الشركة لقطاع الصناعة الدوائية، وذلك كما ذكر التقرير خلال تتبعه لنشاط عمالقة التكنولوجيا في هذا المجال.

البيولوجيا الجزيئية تدخل في صناعة عدد كبير من الأدوية والعلاجات المستقبلية (غيتي)

الكعكة الشهية

من المتوقع أن يصل حجم سوق صناعة الأدوية العالمي إلى تريليون و700 مليار و97 مليون دولار في عام 2025 بمعدل نمو سنوي مركب قدره 8%، وذلك كما ذكر تقرير السوق العالمية للأدوية الآنف الذكر، ويريد عمالقة التكنولوجيا في العالم حصتهم منها، بل يضعون أعينهم على اقتطاع جزء كبير من الكعكة الشهية.

إضافة إلى ذلك فإن القطاع الدوائي يوفر ثروة ضخمة من البيانات الحقيقية التي تحتاجها هذه الشركات بشدة في أبحاثها عن التعلم الآلي، واسترجاع المعلومات الذكية، وتصميم الخوارزميات، وغيرها من مجالات الذكاء الاصطناعي المتعطش للبيانات.

وفي الحقيقة، فإن شركات صناعة الأدوية الكبرى في العالم تحتاج للتقنيات المتطورة جدا التي يملكها عمالقة التكنولوجيا لدفع الأبحاث في مجال البيولوجيا الجزيئية بهدف اكتشاف وتطوير أدوية وعلاجات جديدة للأمراض المستعصية أو المستجدة، والتعاون بين القطاعين مهم جدا في هذا الإطار، ولنأخذ على سبيل المثال الشراكة التي تمت مؤخرا بين عملاق الصناعة الدوائية بوهرنجر إنغلهيم (Boehringer Ingelheim) مع غوغل لاستخدام خبرات عملاق التكنولوجيا في ميدان الحوسبة الكمومية لتسريع البحث والتطوير الصيدلاني.

في الوقت الحالي، تمتلك شركات التكنولوجيا القدرة على التعامل مع كميات ضخمة من بيانات الرعاية الصحية التي تجمعها من مستخدمي منصاتها المختلفة بشكل يومي، ولكن هذه البيانات تفتقر للدقة والمصداقية التي يحتاجها ميدان تطوير الأدوية والعقاقير.

ثورة جديدة تعتمد على البيانات

وفي هذا السياق، أعلن باحثون من جامعة زيورخ السويسرية في بحث نشرته منصة الجامعة مؤخرا عن قفزة نوعية غير مسبوقة في ميدان البيولوجيا الرقمية، حيث مكّنت خوارزميات الذكاء الاصطناعي الباحثين من تقديم تنبؤات دقيقة للغاية للبنية ثلاثية الأبعاد للبروتينات، وكما هو معروف فإن الأحماض الأمينية المختلفة هي المكونات الرئيسية التي تتكون منها البروتينات حيث تشكل الأحماض الأمينية جزءا مميزا من جسم الإنسان والنظام الغذائي، وهي حيوية للغاية لكي يعمل جسد الإنسان بشكل صحيح.

وقال الباحثون إنه لكي يقوم الذكاء الاصطناعي بعمل تنبؤات دقيقة، فإنه يحتاج إلى استخدام كمية ضخمة من البيانات الموثوقة وذات الجودة الاستثنائية، وهنا يأتي دور شركات الأدوية الكبرى التي تمتلك كمًّا هائلا من المعلومات الدقيقة والموثوقة، وذلك بفضل سنوات طويلة من التجارب السريرية، والأبحاث العلمية التي أجرتها على مدى الأيام، كما تمتلك شركات الأدوية أيضا الخبرة اللازمة التي تضمن سلامة وجودة وفعالية المنتجات الطبية التي تطرحها في الأسواق.

فإذا دمجنا قدرات شركات التكنولوجيا على تحليل البيانات وقدرات شركات الأدوية على جمع البيانات الموثوقة فإن النتيجة ستكون ثورة حقيقية في مجال صناعة الأدوية وعلاج الأمراض، ويمكن للشراكة بين الطرفين أن تكون ذات فائدة منقطعة النظير لمستقبل البشرية.

المصدر : الجزيرة