هل انتهى زمن الخصوصية؟

سكرين شوت من موقع باوندلس إنفورمانت Boundless Informant مع وضع خلفية لها
undefined

د. محمد أنس طويله

عندما سأل أحد الصحفيين الرئيس الأميركي باراك أوباما عن برنامج وكالة الأمن القومي للتجسس على الاتصالات واستخدام شبكة الإنترنت والمسمى "بريزم"، أجابه حرفياً "بأنك لن تتمكن من الحصول على 100% من الأمن وعلى 100% من الخصوصية في آن واحد ودون أية إزعاجات".

تمثل هذه الإجابة اعترافاً صريحاً بأن الحكومة الأميركية تتجسس فعلا على أنشطة مواطنيها ومواطني الدول الأخرى عبر شبكات الهاتف والإنترنت، وتشكل أيضاً محاولة لتبرير برنامج التجسس الذي بدأ العمل به عام 2007.

وتظهر التسريبات المتعلقة بهذا البرنامج أنه يغطي سبع شركات على الأقل، منها مايكروسوفت وياهو وغوغل وفيسبوك وسكايب ويوتيوب وأبل، وأنه جمع خلال شهر واحد فقط (مارس/آذار 2013) أكثر من 97 مليار معلومة من شبكات الحواسيب المنتشرة حول العالم (وتأتي إيران في طليعة الدول التي يتجسس عليها البرنامج، إذ بلغ عدد المعلومات المجموعة منها في الشهر المذكور 14 ملياراً، تليها باكستان 13.5 مليارا، ثم الأردن 12.7 مليارا، ومصر 7.6 مليارات).

لا شك في أن هذه الحقائق والأرقام مثيرة للقلق، ومدعاة لأن يتمعن المرء في مفهوم الخصوصية وما آل إليه في عصر تقنيات المعلومات والاتصالات، فإذا كانت هذه الأرقام المرعبة هي ما تم تسريبه من وكالة واحدة في دولة واحدة، فتأكد أن ما خفي كان أعظم!

يعود اهتمام بني البشر بالخصوصية إلى غابر الأزمان، فقد حمت شريعة حمورابي خصوصية المنازل وضمنها أيضاً قانون روما القديمة. ويكاد لا يخلو دستور أو قانون أي دولة في العالم من ضمانات توفر لمواطني هذه الدولة حماية خصوصيتهم، وضوابط تحدد الحالات الخاصة التي يمكن للسلطات فيها انتهاك هذه الخصوصية.

ما الذي تغيّر ليستهين المواطن وحكومته بجانب من الحياة الشخصية لطالما عكفا على تأكيد أهميته وضرورة حمايته؟ لعل التطور الأساسي يعود إلى القدرة الهائلة لتقنيات المعلومات والاتصالات المعاصرة -بما فيها شبكة الإنترنت- على استيعاب كميات ضخمة من المعلومات ونقلها ونشرها وإتاحتها. وتشكل هذه المستودعات الرقمية الهائلة مورد معلومات فائق الجاذبية لجهات عدة، كالمؤسسات الحكومية ووكالات الاستخبارات والشركات التجارية وشبكات الإجرام والخارجين عن القانون.

لكن هذه المستودعات الرقمية لن تمتلئ بكنوز المعلومات الشخصية والحساسة ما لم يقم أصحاب هذه المعلومات بنشرها بأنفسهم أو بالسماح للآخرين بنشرها نيابة عنهم. فهل يعقل أن يعطي ذات الشخص الذي لن يترك باب داره مفتوحاً للغرباء ممن هب ودب، والذي سيعتريه غضب شديد إذا ما استرق أحد المارة النظر من نافذة غرفته، معلوماته الشخصية الحساسة مجاناً لبعض الشركات أو المؤسسات مع إذن مسبق باستغلالها بأي شكل كان، حتى وإن تسبب هذا الاستغلال في انتهاك خصوصيته التي طالما دافع عنها وطالب بحمايتها؟

قد يقبل البعض على مضض حقيقة انحسار هامش الخصوصية في عصر الإنترنت انطلاقاً من اعتقادهم بأن وكالة الأمن القومي الأميركية مثلاً ستتجسس عليهم في جميع الأحوال

السهولة والضبابية
للمشكلة هنا وجهان، أولهما أن السهولة الفائقة في استخدام أنظمة المعلومات المعاصرة (كميزات التشارك في مواقع التواصل الاجتماعي أو تطبيقات تحديد الموقع في الهواتف الذكية) تغري المستخدم بالإفصاح عن معلوماته دون التفكير بما قد يؤول إليه مصير هذه المعلومة. أما الوجه الثاني فيتجلى في الضبابية المتعمدة التي تضفيها بعض شركات الإنترنت على شروط استخدام خدماتها والتي تصمم خصيصاً لكي تمنح هذه الشركات حق التصرف المطلق بالمعلومات الشخصية التي ستجمعها عن مستخدمي خدماتها. وهذه المعلومات لا تقتصر على تلك التي يُدخلها المستخدمون أنفسهم، بل تشمل أيضاً المعلومات التي ستجمعها أنظمة الشركة دون علم المستخدم كالمواقع التي زارها أو الكلمات التي يبحث عنها.

قد يقبل البعض على مضض حقيقة انحسار هامش الخصوصية في عصر الإنترنت انطلاقاً من اعتقادهم بأن وكالة الأمن القومي الأميركية مثلاً ستتجسس عليهم في جميع الأحوال. لكن المسألة لا تقتصر على تجسس الحكومات وحسب (وإن كانت كمية المعلومات التي يمكن لهذه الحكومات جمعها من خلال شبكة الإنترنت تفوق بمعدلات فلكية تلك التي يمكنها الحصول عليها في العالم الورقي)، بل هناك أيضاً تجسس الشركات التجارية والجهات غير الشرعية، ومؤخراً هناك الأشخاص الآخرون الذين أصبح بمقدورهم أيضاً استحضار كم هائل من معلوماتنا الشخصية بسهولة وبتكاليف بسيطة.

وخير مثالٍ على ذلك، الجدل الذي أحدثته تقنية نظارة غوغل الذكية في الولايات المتحدة وفي أنحاء العالم حول إمكانية استغلال هذه التقنية في انتهاك خصوصية الآخرين، إذ إن هذه النظارة قادرة على التقاط الصور ومقاطع الفيديو ومشاركتها عبر شبكة الإنترنت دون علم الآخرين وربما دون استئذانهم. هناك أيضاً الطائرات اللاسلكية الصغيرة التي يمكنها التقاط الصور ومقاطع الفيديو من فوق الأسوار والجدران.

لا بد إذاً من إعادة النظر في مفهوم الخصوصية وما يعنيه اعتمادنا المتزايد على تقنيات المعلومات والاتصالات من تقلص المساحة الشخصية الخاصة لكل منا. فإما أن نفكر ملياً في ابتكار حلول جديدة تضمن حماية خصوصيتنا في العالم الرقمي، أو أن نستسلم لواقع جديد انتهى معه زمن الخصوصية كما عهدناها.
________________________
باحث أكاديمي وخبير في مجال أمن ونظم المعلومات

المصدر : الجزيرة