ولائم في الظلام.. أفواه جائعة بأعماق المحيط

القشريات تتزاحم على جثة القاطور في أعماق مياه الخليج (الائتلاف البحري لجامعات لويزيانا)
القشريات تتزاحم على جثة التمساح في أعماق مياه خليج المكسيك (الائتلاف البحري لجامعات لويزيانا)

أحمد الديب

الليل مظلم ومليء بالأهوال، كما تكرر الكاهنة مليسندرا في ملحمة لعبة العروش، والوصف نفسه ينطبق بدقة مخيفة على أعماق المحيطات الغارقة في ظلام ليل سرمدي.

ورغم عجز الضوء عن اختراق هذه الظلمة الأبدية، والشح الشديد بمصادر الغذاء في غياب النباتات التي تمارس البناء الضوئي، وبالتالي الغياب المتوقع لآكلاتها وآكلات آكلاتها، فإن العلم صار يكشف لنا كل يوم عن مزيد من أشكال الحياة التي تستوطن تلك الصحاري المائية الباردة المظلمة.

أنواع شتى من الكائنات الحية بملامح عجيبة وسلوكيات أكثر عجبا، لا يجمع بين شتاتها -ربما- إلا بحثها المحموم عن أي شيء يصلح غذاء في هذا الخواء الأسود العظيم، دون التمسك بأي قدر من ترف الاختيار.

موائد من السماء
في تجربة فريدة نشرت نتائجها أخيرا بدورية "بلس ون"، قام باحثون بربط ثلاث جثث لقواطير (تماسيح) بأثقال وإلقائها لتغوص في أعماق خليج المكسيك بعمق كيلومترين تقريبا تحت سطح البحر.

وقد اختيرت القواطير -بجلودها القاسية وحراشفها الصلبة- لاختبار إذا ما كانت كائنات الأعماق ستتمكن من النفاذ إلى لحوم هذه المخلوقات غير المألوفة تحت كل تلك الدروع.

يقول كليفتون ننالي الباحث بالائتلاف البحري لجامعات لويزيانا، المشارك في الدراسة، "أعماق المحيط تشبه صحاري قاحلة تتناثر فيها واحات من الغذاء. قد تكون هذه الواحات الغذائية فوهات في القاع تخرج منها بعض المواد الكيميائية، وقد يهوي الغذاء أحيانا من السطح ليجد طريقه بشكل ما إلى تلك الأعماق السحيقة".

كانت العديد من الأبحاث قد أجريت على جثث الحيتان وغيرها من المخلوقات البحرية الضخمة التي تهوي إلى القيعان لتصير ولائم عامرة للكثير من سكان الأعماق، لكنها المرة الأولى التي يستخدم فيها البحث العلمي جثثا لقواطير المياه العذبة، التي قد يحدث نادرا في الطبيعة أن يحملها إعصار ما إلى المحيط.

وقد غلب على ظن أعضاء فريق البحث أن التهام جثث القواطير سيكون مهمة صعبة على مخلوقات الأعماق، لكن النتائج أثبتت لهم سريعا كم كانوا مخطئين!

ماذا حدث للقواطير؟
بعد يوم واحد فقط من هبوط القاطور الأول إلى قاع خليج المكسيك، أرسل فريق البحث كاميراتهم ليجدوا الجثة مغطاة بالعديد من أفراد نوع ضخم وردي اللون من متماثلات الأرجل "آيسوبودز" (isopods) -نوع من القشريات- كانت قد بدأت بالفعل في اختراق الدروع الجلدية إلى مأدبة اللحم الطازج بالداخل.

ولا عجب من هذا الإقبال السريع، فهذا النوع من القشريات في إمكانه الاكتفاء بوجبة كبيرة واحدة لفترات تصل إلى أشهر بل أعوام!

‪مستعمرات الديدان آكلة العظام تظهر زغبا بني على هيكل القاطور (الائتلاف البحري لجامعات لويزيانا)‬ مستعمرات الديدان آكلة العظام تظهر زغبا بني على هيكل القاطور (الائتلاف البحري لجامعات لويزيانا)
‪مستعمرات الديدان آكلة العظام تظهر زغبا بني على هيكل القاطور (الائتلاف البحري لجامعات لويزيانا)‬ مستعمرات الديدان آكلة العظام تظهر زغبا بني على هيكل القاطور (الائتلاف البحري لجامعات لويزيانا)

وقد سمح الباحثون لجثة القاطور الثاني بقضاء فترة أطول، فتعقبوها بعد مرور 51 يوما، ليجدوها قد صارت عظاما عارية تماما من اللحم يعلوها زغب غامض بني اللون، ولم يكشف عن هويته سوى تحليل الحمض النووي، الذي أخبرنا بأنه مستعمرات لنوع جديد من الديدان آكلة العظام، يكتشف وجوده للمرة الأولى في خليج المكسيك.

أما القاطور الثالث فكنا نتمنى حقا أن نخبركم بما حدث له، لكنه اختفى تماما -ببساطة- من رباطه وأثقاله قبل أن يستطيع فريق البحث رصد ما هاجمه وانتزعه من قيوده المتينة بهذه السرعة والشراسة.

يعتقد الباحثون أن المهاجم كان قرشا أبيض أو مفترسا آخر بضخامة وقوة مماثلتين، لكن أنى لنا أن نعرف مصير هذا القاطور على وجه اليقين، وأعماق البحر مظلمة حقا ومليئة بالأهوال؟

المصدر : الجزيرة