كائن وحيد الخلية يتعلم ويتذكر دون جهاز عصبي

Said سعيد - "فساروم بوليسيفيوم"، عفن غروي أصفر اللون، أحادي الخلية متعدد الأنوية، مرشح قوي لدراسة الذكاء في الكائنات الأولية – ويكيميديا - كائن وحيد الخلية يتعلم ويتذكر بدون جهاز عصبي
"فساروم بوليسيفيوم".. عفن غروي أصفر اللون، أحادي الخلية متعدد الأنوية (ويكيميديا كومونز)

طارق قابيل

قد يشكل العفن الغروي أحد أغرب أشكال الحياة على كوكبنا، فهو ليس نباتا أو حيوانا أو فطرا، ولكنه نوع أحادي الخلية من مملكة الطلائعيات، ويشكل مستعمرات قادرة على النمو، ولكن أكثر ما يميزه أنه يحمل نوعا غريبا من الذكاء الفطري.

وعلى الرغم من أن هذا الكائن العجيب لا يملك جهازا عصبيا، فإن العلماء الفرنسيين قد أثبتوا أنه قادر على التعلم ومعرفة طبيعة المواد التي يصادفها، وقادر على الاحتفاظ بتلك المعرفة، وحتى نقلها إلى العفونات الغروية الأخرى، مما يسلط الضوء على أصول عملية التعلم التي لا تزال تشكل لغزا كبيرا.

وفي ورقتهم البحثية التي نشرت في دورية المعاملات الفلسفية للجمعية الملكية يوم الاثنين 22 أبريل/ نيسان الجاري، أوضح العلماء كيف تمكن العفن الغروي من التعلم عبر عملية تسمى التعوّد (التأقلم) على الرغم من أنه لا يملك جهازا عصبيا.

وكتب الباحثون "لقد قدمنا أول دليل على التعود على المدى الطويل فى كائنات حية غير عصبية، وقدمنا أول لمحة عن الآلية الأساسية". وأضافوا "نحن مقتنعون بأن التعود هو مجرد مثال واحد على القدرات المعرفية التي قد يتقاسمها معظم الكائنات الحية.

ماهية العفن الغروي
العفن الغروي مصطلح شائع يشير إلى جزء من دورة الحياة التي تمر بها هذه الكائنات الحية، حيث إنها تبدو مادة غروية لزجة. وهناك أكثر من تسعمئة نوع من العفونات الغروية التي توجد في جميع أنحاء العالم.

وتسهم تلك الكائنات الحية في عملية تحلل النباتات الميتة، وتتغذى على البكتيريا والخمائر والفطريات، ومعظم العفونات الغروية حجمها أصغر من بضعة سنتيمترات، غير أن بعض الأنواع قد تصل أحجامها إلى عدة أمتار مكعبة.

معظم العفونات الغروية حجمها أصغر من بضعة سنتيمترات، غير أن بعض الأنواع قد تصل أحجامها إلى عدة أمتار مكعبة.

وعندما تكون هناك وفرة من الغذاء، يوجد العفن الغروي في صورة كائن حي وحيد الخلية، أما عندما يكون هناك عجز في الغذاء، فتتجمع العفونات الغروية وتبدأ في التحرك جسما واحدا. وفي هذه الحال تكون سريعة التأثر بالمواد الكيميائية المنقولة عبر الجو.

ذكاء العفن الغروي
اكتشف فريق من العلماء في مركز البحوث المتعلقة بالإدراك الحيواني التابع للمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS) كيفية امتصاص العفن الغروي المواد الغذائية.

وأجرى الباحثون تجاربهم على كائن صغير رائع يسمى "فساروم بوليسيفيوم" (Physarum polycephalum)، وهو عفن غروي أصفر اللون، أحادي الخلية متعدد الأنوية، يوجد في الطبيعة بالغابات، وهو أقوى مرشح من هذه الكائنات البدائية لدراسة الذكاء.

ويُعرف هذا الكائن بقدرته على حل المتاهات وتجنب الأفخاخ، وحتى تنظيم تغذيته من أجل البقاء على قيد الحياة، وكان لدى الفريق البحثي الدليل على أن هذا الفطر ينقل معلومات حول المواد التي يلتقطها إلى العفونات الغروية الأخرى عندما تتواصل معا.

وكما اكتشف سابقا، فعندما يمر العفن الغروي على الملح، يبدو أنه يتعلم أنه لن يضره، ولا يهتم كثيرا بتجاوزه، ويأخذ وقتا أطول للزحف فوقه مقارنةً بمسار خال من الملح.

عندما يمر العفن الغروي على الملح، يبدو أنه يتعلم أنه لن يضره، ولا يهتم كثيرا بتجاوزه، ويأخذ وقتا أطول للزحف فوقه مقارنةً بمسار خال من الملح.

وفي هذا البحث الجديد، أذهل هذا الكائن العجيب الباحثين مرة أخرى بعد أن تم إعداد تجربة وضعت فيها فقاعات (نقط) من العفن الغروي بالقرب من الغذاء، مفصولة بملح الطعام، وكان يتعين عليها الزحف للوصول إليه.

في البداية، أخذ الفريق عشرين من فقاعات العفن الغروي وقاموا بتقطيعها إلى نصفين، مع فصلهم إلى نظامين من أنظمة التدريب.

في المجموعة التجريبية، تم تغذية الفقاعات بهلام الشوفان المغذي الذي تم خلطه بالملح لمدة ستة أيام. وتم تغذية المجموعة الضابطة بهلام الشوفان المغذي الخالي من الملح.

بعد ستة أيام، أجرى الفريق قياسات لمحتوى الملح في الفقاعات. وكما هو متوقع، كانت مجموعة الملح تحتوي على عشرة أضعاف أكثر من الملح من المجموعة الضابطة.

في التجربة الثانية، اضطرت مجموعة مختلفة من الفقاعات إلى عبور جسر الهلام (الأجار) للوصول إلى الغذاء. وكان جسر المجموعة التجريبية مالحا، بينما كان للمجموعة الضابطة مسار واضح.

بعد ستة أيام من التدريب على هذه الجسور، قدم لكلتا المجموعتين جسر ملحي. عبرت المجموعة التجريبية الجسر بشكل أسرع من المجموعة الضابطة، التي أظهرت أنها اعتادت على الملح وعرفت أنه لن يضرها.

أخيرا، أخذ الفريق عشرين عينة سائلة من الفقاعات، وحقنوا نصفها بالماء، ونصفها بمحلول ملحي. بعد ساعتين فقط، كانت الفقاعات التي تم حقنها بالملح تتصرف تماما مثل الفقاعات التي كانت على نظام التدريب على الملح لمدة ستة أيام.

وبحث الفريق أيضا في المدة التي يستغرقها العفن الغروي للتخلص من الملح بمجرد أن يتم تحويل نظامه الغذائي إلى جل الشوفان، ووجد أن الفقاعات تفرز الملح في غضون يومين تقريبا.

وتبين هذه الدراسة أن العفن تعلم عدم الخوف من العقبة، كونها غير مؤذية، وأن التعوّد يحدث في الكائنات وحيدة الخلية، ويمكن أن توفر هذه الأدلة فكرة عن كيفية تطور القدرة على التعلم في جميع الكائنات الحية، وكما يقول الأستاذ بقسم الفلسفة بجامعة ستانفورد غودفري سميث "هناك كثير من الطرق لمعالجة المعلومات والتحكم في السلوك، فالجهاز العصبي المركزي هو أحد الطرق، ولكنه ليس الطريقة الوحيدة".

المصدر : مواقع إلكترونية