هذا أنا.. أسماك تتعرف على أشكالها في المرآة

A fish of the species Labroides dimidiatus, called the bluestreak cleaner wrasse swims in a tank at the University of Konstanz in Konstanz, Germany February 14, 2019. Picture taken February 14, 2019. REUTERS/Arnd WIegmann
أسماك الرأس مشهورة بزيها المخطط (رويترز)

أحمد الديب

نسمع كثيرا مصطلح "ذاكرة الأسماك" الذي يساق للإشارة المتعالية إلى ذاكرة قصيرة وذكاء متواضع وقدرة محدودة على التعلم من التجارب. لكن ثمة دراسة نشرت هذا الشهر في دورية بلوس بيولوجي PLOS Biology تدعونا إلى التمهل قليلا قبل استعمال هذا المصطلح مرة أخرى.

أجريت الدراسة على نوع صغير من الأسماك المعروفة بأسماك الرأس (أو اللبروسية) المنظفة Cleaner Wrasse المشهورة بزيها المخطط الذي أهلها لتكون ضمن أسماك الزينة الشائعة ووظيفتها المتواضعة بتنظيف أجساد أنواع السمك الأخرى الأكبر من الطفيليات الخارجية، التي تعتبرها أسماك اللبروسية المنظفة رزقها وقوت يومها.

لكن هذه الأسماك لا تتغذى حصريا على الطفيليات، فأحيانا ستبدو لها جلود "عملائها" من السمك أشهى وأغنى، فلا تقاوم أحيانا أن تقضم منها قضمات صغيرة تجريبية وتراقب رد فعل "الزبون"، فإن غفل عنها تمادت، وإن انتبه انتهت.

هذه لمحة فقط من ذكائها المثير للعجب، أما عن "ذاكرة الأسماك" المزعومة، فعملاء سمكة لبروسية منظفة واحدة قد يتجاوزون المئة في اليوم الواحد، وقد ثبت أن ذاكرتها تسجل إن كانت تجاربها مع هذه السمكة أو تلك إيجابية أو سلبية.

بل سجلت حالات اعتذار عملي للزبائن الساخطين بتقديم جلسات تدليك بالزعانف. هذا المخ الاستثنائي الذي لا تتجاوز كتلته عشر غرامات، رشح هذه السمكة الصغيرة البسيطة لبطولة الدراسة التي كشفت في النهاية أنها تستطيع أيضا تمييز صورتها في المرآة.

‪تنظف أسماك الرأس أجساد الأسماك الأخرى الأكبر حجما‬ (رويترز)
‪تنظف أسماك الرأس أجساد الأسماك الأخرى الأكبر حجما‬ (رويترز)


ما تخبر به المرايا
ربما لا يبدو -لنا نحن البشر- تمييز انعكاس الشكل في المرآة أمرا يتطلب ذكاء خاصا. لكن التقارير البحثية تقول إن القليل جدا من أنواع الحيوانات (كالقردة العليا والدلافين والحيتان القاتلة وطيور العقعق وفيل آسيوي بعينه) استطاع اجتياز اختبار المرآة، وهو اختبار ترسم فيه بقعة ملونة فوق جسم الحيوان لمراقبة سلوكه عند ملاحظتها في المرآة، ومعرفة ما إذا كان سيحاول تفحص الموضع الموسوم. لهذا يعد تمييز النفس في المرآة علامة فارقة على تطور الإدراك والوعي بالذات.

يقول الدكتور ماسانوري كودا -الباحث في علم اجتماع الحيوان بجامعة أوساكا اليابانية- في تصريح خاص للجزيرة نت "في اليوم الأول لوضع المرآة الكبيرة في الحوض أمام الأسماك هاجمت الأسماك انعكاساتها التي بدت لها كأسماك أخرى، واستمر هذا حتى اليوم الثالث، وفي مرحلة تالية امتدت من اليوم الثالث إلى الخامس بدأت الأسماك تتخلى عن هجومها واختبار المرآة عن طريق الإتيان بحركات غريبة مقصودة كالسباحة بسرعة كبيرة وبنمط متكرر أمام المرآة، أو حتى السباحة مع تدوير الجسد ليصبح أسفله أعلاه. كل هذا أثناء مراقبة الانعكاس ودراسته. أما بعد اليوم الخامس فقد صارت الأسماك على وعي واضح بمفهوم المرآة، وبأن ما تراه ليس سوى انعكاسات لأشكالها".

بعد ذلك كانت الأسماك تحك مواضع بقع الألوان التي وضعها العلماء على أجسادها في الأسطح الخشنة سعيا للتخلص منها، تماما مثلما يفعل أحدنا إن أبصر في المرآة بقعة حبر على وجهه. وللتأكد من هذا السلوك أعاد العلماء التجربة مع تغييرين، مرة بوضع علامات شفافة بدلا من الملونة، ومرة بوضع علامات ملونة لكن مع إزالة المرآة. وقد كان اللافت للنظر أن الأسماك لم تحاول قط في المرتين إزالة البقع من فوق أجسادها.

ماذا بعد التمييز؟
لكن بأية طريقة تميز تلك الأسماك انعكاساتها؟ يجيب الدكتور ماسانوري كودا عن ذلك قائلا "نعرف بالفعل أن بعض أنواع الأسماك الاجتماعية تفرق بين أفراد أسرابها كما نفعل نحن تماما بقراءة ملامح الوجوه. ونعرف أيضا أن الأنماط اللونية على وجوه أسماك اللبروسية المنظفة (وهي من الأسماك الاجتماعية) تختلف من فرد إلى آخر ولا تتكرر أبدا. ولهذا ففرضيتنا الحالية هي أنها تعتمد في تمييز صورتها على الطريقة نفسها التي تميز بها صور الآخرين من أبناء نوعها، قراءة الملامح اللونية. لكن كيف يحدث هذا بالضبط؟ سيكون ذلك موضوع بحثنا الجديد الذي سيشغلنا هذا العام".

ويعقب الدكتور أليكس جوردان الباحث بمعهد ماكس بلانك والمشارك في الدراسة قائلا "الآن وقد صار اجتياز السمكة لاختبار المرآة حقيقة مؤكدة، فهل يدل هذا بالضرورة على وعيها بذاتها؟ يبقى استنتاج مزلزل كهذا محاطا بالكثير من الغموض، مفتقرا إلى الكثير من الجهود البحثية التي قد تكشف لنا يوما آفاق ذكاء وإدراك ووعي تلك الكائنات المدهشة".

المصدر : الجزيرة