تركيا وأميركا.. عناوين التأزم بين الحليفتين

كومبو يجمع بين الرئيسين التركي والأميركي أردوغان وترمب

أمين محمد حبلا

مساء أمس دخلت العلاقات التركية الأميركية مرحلة غير مسبوقة من التوتر والتصعيد، وذلك بعد قرار واشنطن فرض عقوبات على وزيري العدل والداخلية التركيين رغم عمق الروابط التاريخية وانتمائهما معا لحلف شمال الأطلسي، لكن لا أحد يتكهن بما يمكن أن تقدم عليه واشنطن في عهد ترامب.
 

لم يكن مجرد التفكير في احتمال من هذا القبيل واردا قبل سنوات بل حتى قبل شهور، ولكن الرئيس دونالد ترامب الذي تعود على مفاجأة العالم بمواقف وقرارات لم تكن متوقعة ذهب في طريق لم يسلك من قبل.

وكانت وزارة الخزانة الأميركية أعلنت الأربعاء فرض عقوبات على وزيري العدل عبد الحميد غل، والداخلية سليمان صويلو "بسبب إدارتهما لمؤسستين لعبتا دورا في حبس برانسون"، وتشمل العقوبات المفروضة على الوزيرين الحجز على أي ممتلكات لهما في الولايات المتحدة، ومنع التواصل والتعامل معهما من قبل أي مسؤول أميركي.

وسارعت أنقرة إلى التنديد بخطوة واشنطن ومطالبتها بالتراجع عن القرار الذي وصفته بالخاطئ، وبالموقف العدائي الذي لا يخدم أي هدف، وتعهدت بالرد عليه بالمثل دون تأخير.

تهدئة قبل العاصفة
تمكنت الولايات وتركيا من نسج إحدى أوثق العلاقات وأقواها عبر العقود الماضية، وشملت هذه العلاقات مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية حتى أصبحت تلك العلاقة الوثيقة أحد أهم محددات وموجهات وأدوات السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.

ورغم التوترات الذي تصيب هذه العلاقات بشكل مستمر فقد حافظ البلدان على خط رجعة مكنهما خلال السنوات الماضية من الحفاظ على مستوى كبير من التعاون رغم هواجس الطرفين وحالة عدم الثقة المتبادلة التي ظللت سماء العلاقة بينهما في السنوات الأخيرة.

وحتى قبيل فرض العقوبات الجديدة على الوزيرين تبادل الطرفان إشارات إيجابية بعثت أجواء من التفاؤل بحدوث انفراج أكبر في الأزمات التي توشك أن تعصف بعلاقاتهما وتحيلها إلى توتر دائم.

أزمة القس
ومن المفارقة أن قضية القس الأميركي آندرو بانسون التي اختارتها واشنطن ذريعة لفرض عقوبات على المسؤولين التركيين مثلت قبل أيام أحد مؤشرات الانفراج في العلاقة المتوترة بينهما، فقد تم إخراجه من السجن وأحيل إلى الإقامة الجبرية بالمنزل قبل نحو أسبوع بعد أن ظل معتقلا منذ أكتوبر/تشرين الأول 2016 بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها تركيا في العام نفسه.

ولم تكن خطوة الإفراج عن القس ونقله إلى الإقامة المنزلية خطوة معزولة ضمن خطوات التقارب التي تتالت في الآونة الأخيرة قبل أن تنقلب الأمور رأسا على عقب وتدخل أسوأ مراحلها ومحطاتها طوال العقود الماضية.

فقبل أسابيع عينت واشنطن سفيرا لها في أنقرة بعد شهور من فراغ المنصب، وعقدت اتفاقا معها بشأن منبج أبعدت بموجبه قوات سوريا الديمقراطية عن المدينة وما حولها، كما سلمتها أولى طائرات "إف 35" ضمن اتفاق سابق بين البلدين رغم معارضة الكونغرس تلك الخطوة، وبين هذا وذاك تتالت الاتصالات بين وزيري خارجيتي البلدين لاحتواء التوترات المتزايدة في العلاقة بينهما.

بوابات الأزمة
وسواء كانت أزمة القس سببا للعقوبات كما تدعي واشنطن أم ذريعة لها فقط كما يعتقد بعض المحللين فإن الواضح أن الشقة بين الطرفين اتسعت بشكل غير مسبوق، وأن نهرا من الأزمات والتباين السياسي بات يفصل بين شواطئ البلدين، وأن الخلاف بين الطرفين وصل مرحلة يصعب معها أن تعود الأمور كما كانت بحكم غياب الثقة وتعدد ملفات الخلاف وتنوعها.

ومن أبرز بوابات الخلاف التي ساهمت في تأزيم العلاقة وإثارة الخلافات بين الطرفين خلال السنوات الأخيرة ما يلي:

– المحاولة الانقلابية وملف غولن: ترفض واشنطن الحديث عن أي دور لها في المحاولة الانقلابية الفاشلة بتركيا (2016)، ولم توجه أنقرة اتهاما رسميا لها بذلك، ولكن مقربين من الحكومة التركية ومحللين تحدثوا عن شكوك ساورت الجانب التركي بشأن دور ما لواشنطن في ما حدث تبعا للدور الذي قامت به قاعدة إنجرليك في المحاولة، ورفض الولايات المتحدة حتى الآن تسليم فتح الله غولن المتهم الأول بالمسؤولية عن تلك المحاولة.

ويبقى ملف غولن أحد أهم الملفات الخلافية في ظل إصرار أنقرة على جلبه من بنسلفانيا، وتلكؤ واشنطن في الاستجابة لطلبات تركيا رغم تأكيد الأخيرة أنها قدمت كل المستندات التي تثبت ضلوع الرجل ومسؤوليته عن المحاولة الفاشلة.

– دعم واشنطن لأكراد سوريا: يمكن القول إن اندلاع الثورة السورية وما تبع ذلك من أحداث شكل المنعطف الأهم في العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة، ولكن اعتماد الأخيرة على المقاتلين الأكراد حليفا رئيسيا في سوريا أثار غضب الأتراك الذين يصنفون المقاتلين الأكراد الخطر الأكبر على أمنهم القومي.

بالمقابل، ينظر الأميركيون إلى الدور التركي في سوريا بكثير من الريبة، وربما كان الموقف أصلا من الثورة وبعض فصائلها إحدى أهم المعضلات التي أدت لاحقا إلى تراجع ثم تأزم العلاقة.

– العلاقة التركية مع روسيا وصفقة إس 400: بعد التدخل الروسي في سوريا وتراجع قوى المعارضة وتعقد الملف السوري عسكريا وسياسيا وإنسانيا، وبالتوازي مع التأزم في العلاقة مع واشنطن ولى الأتراك وجوههم شطر موسكو بحثا عن تحقيق توازن في علاقاتهم الخارجية، وتعزز ذلك التوجه بعد المحاولة الانقلابية التي تساءل كثيرون بعدها عن أي دور محتمل لواشنطن فيها.

ولكن الضيق الأميركي بلغ ذروته مع اتفاق الطرفين على صفقة توريد منظمة إس 400 الروسية إلى تركيا، ودخل الكونغرس الأميركي على خط هذه الأزمة برفضه توريد طائرات إف35 إلى أنقرة رغم أنها عضوة في ائتلاف تصنيع المقاتلة الأميركية، مما يعني أنها أنفقت مليار دولار على الأقل على رحلة تطوير الطائرة ورغم أن هناك عشر شركات تركية تشارك في مراحل مختلفة لإنتاج وتجميع وتشغيل الطائرة.

– العقوبات على إيران: تحاول واشنطن إقناع تركيا بالكف عن التعاون التجاري والاقتصادي مع إيران استجابة للضغوط التي ستفرضها واشنطن عليها، ولكن أنقرة أكدت أكثر من مرة أنها غير معنية بتلك العقوبات بالنظر إلى أنها لم تصدر من هيئة أممية.

طريق الأزمات
يشدد الأتراك على أن انتهاج واشنطن طريق الضغوط والعقوبات يمثل خطأ فادحا في التعاطي مع تركيا، ولن تتمكن عبره واشنطن من تحقيق أهدافها، ويرى البعض أن الخطوات الأميركية الأخيرة ربما تؤلب عليها القوى التركية حتى تلك القريبة منها في بعض المواقف والتوجهات.

وقد سارعت الكتل النيابية لأربعة أحزاب سياسية في البرلمان التركي (العدالة والتنمية، والشعب الجمهوري، والحركة القومية، و"إيي") إلى إعلان رفضها الشديد لقرار العقوبات، وجاء في بيان لهذه الكتل النيابية رفضها التام "لكل هذه الطرق والأساليب بما نملكه من شرف ووقار يتمتع به الشعب التركي، وأن الرد على هذه القرارات في إطار مبدأ المعاملة بالمثل هو حق أصيل".

وقال الخبير في الشأن التركي سعيد الحاج في تغريدة له "الذي لا تدركه -وربما تدركه- واشنطن أن هذه الطريقة في التعامل مع تركيا ستؤدي الى نتائج عكسية:
– لن ترضخ #أنقرة للضغوط، ولكن ستسعى لصفقة معقولة ومقبولة
-تصعيد في التصريحات
-عقوبات عكسية محتملة
-التشنج في قضية القس وغيرها
-تقارب أكثر مع #روسيا وربما #إيران.

ورغم لجوء الأميركيين إلى طريق غير معهود في التحالف بين الحلفاء فلا يتوقع أن يشكل الأمر قطيعة بين الطرفين بحكم قوة الروابط وكثرة المصالح المشتركة بين البلدين.

ويرى الحاج في مقال له أن تلك العلاقات التي تعززت عبر عشرات السنين وبنيت عليها مصالح ومؤسسات وأدوار وتأثيرات ومسارات لا يمكن النكوص عنها بجرة قلم.

ويضيف أن تركيا ما زالت عضوة في الناتو وقاعدته المتقدمة والبلد العازل لأوروبا عن الشرق الأوسط الملتهب بالأزمات، ولا يمكن تخيل إستراتيجية أميركية أو غربية أو أطلسية في سوريا أو المنطقة عموما أو حتى بخصوص ملف اللجوء والهجرة دون تعاون وثيق من أنقرة.

وفي المقابل، ما زالت أنقرة غير قادرة على ولا راغبة في الانفكاك تماما عن حلفائها الغربيين والاتجاه شرقا بالمعنى الدقيق للكلمة نظرا لاحتياجاتها العسكرية والأمنية والاقتصادية وغيرها.

المصدر : الجزيرة + وكالات