الهروب الكبير.. دراما "بائع الدجاج" في ظلمات سجن العقرب

سجين مصري هرب من سجن العقرب واختفى في منطقة مقابر قبل أن يقبض عليه مجددا
القصة التالية ليست سيناريو لفيلم مأساوي، لكنها بالتأكيد ستذكرك بأحد تلك الأفلام المأساوية المليئة بالمفارقات، كاتبها لم يحصل على جائزة ولم يبعها لمخرج كبير أو ممثل شهير لكنه يقبع في هذه اللحظة تحديدا في غرفة مظلمة بسجن العقرب سيئ السمعة.

هنا محطات مدهشة في حياة عبد الوهاب مصطفى بائع دجاج مكافح وجد نفسه بالمصادفة سجينا، وبالمصادفة متورطا في هروب من السجن، وبمصادفة ثالثة واحدا من سكان القبور قبل أن يعود أدراجه من جديد نزيلا في سجن العقرب الذي يصفه بـ "مقبرة الأحياء" تحت حراسة مشددة.

فبين القبض عليه في سبتمبر/أيلول 2014 وفراره من سيارة الترحيلات في أغسطس/آب 2017، تعرض الشاب لصنوف من التعذيب والإهانة، وبعد فراره لاذ بمقابر الأموات وعاش فيها أسابيع صعبة، وفي بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2017 قبض عليه مجددا ليعود إلى "مقبرة الأحياء".

تفاصيل الرواية يحكيها الشاب بنفسه وعلى مسؤوليته، بعد أن نجح في إيصالها إلينا، ولن نتدخل فيها إلا ببعض الاختصار.

جئت إلى الدنيا عام 1980 بمحافظة بني سويف في مصر لأب في السبعين، كافح من أجلنا حتى وافته المنية، ثم حملت أمي لواء المسؤولية في ظروف بالغة الصعوبة، فقد كان والدي يعمل خياطا وينفق كل دخله على الأسرة، ولذلك لم يترك لنا أي مدخرات، واضطرت والدتي لخوض رحلة كفاح ومعاناة كي توفر لنا الحد الأدنى من متطلبات الحياة.

كنت بالصف الخامس الابتدائي عندما توفيت والدتي، وأتذكر دائما تأكيد أمي لي "المهم أن تستمر في دراستك، وأنا مستعدة أبيع هدومي (ملابسي) من أجلك". ولذلك واصلت دراستي حتى المرحلة الثانوية ومع تأزم الحياة اضطررت لترك الدراسة والبحث عن عمل، وما زلت أذكر أول مرة عدت فيها بمال من كسب يدي حيث احتضنتني أمي وأعدت طعاما لإخوتي قائلة (كلوا يا أولادي من خير أخيكم).

بعد سنوات، انتقلت إلى القاهرة واستقر بي المقام في ضاحية حلوان حيث تزوجت ورزقت بأربعة أطفال، واستأجرت محلا لبيع الطيور أقتات منه ما يسد رمق أطفالي، وذات يوم خرجت مظاهرة في منطقة حلوان واقتربت من محلي ثم بدأت الشرطة في مواجهة المتظاهرين بقنابل الغاز فأسرعت كما اعتدت أن أفعل أنا وغيري، إلى إغلاق دكاني خوفا على نفسي وعلى الدجاج الذي أبيعه من الغاز المنتشر.

بداية المأساة
وأنا أغلق المحل، جاءت فجأة سيارة "ميكروباص" ونزل منها أحدهم وسألني "هل  تخبّئ أحدا بالداخل؟" كل ما فعلته هو أن استفسرت عن قصده قائلا "حد مين حضرتك؟" فما كان منه إلا أن انهال ضربا وسبا ثم جاء آخرون وحملوني إلى داخل السيارة حيث قيدوني ووضعوا عصابة على عيني، وعندها أدركت أنهم من الشرطة، قلت لهم "لم أكن أعرف أن حضراتكم شرطة" لكن هذا الاعتذار لم يجلب لي إلا مزيدا من العنف، حتى وصلنا إلى قسم الشرطة لتبدأ هناك مرحلة أخرى.

وجدت في مقر الشرطة أشياء كنت أراها فقط في أفلام الرعب، حيث جردوني من ملابسي وعلقوني وعذبوني بالكهرباء ولم يتركوا حتى الأماكن الحساسة حتى أغشي علي أكثر من مرة.

ظللت على هذه الحال عشرة أيام كاملة ثم أخذوني إلى مكان آخر نلت فيه تعذيبا أشد، حتى إنهم جردوني من ثيابي على مدى 27 يوما وقد أوثقوا يدي بالقيد الحديدي الذي أدمى يدي، وبعد ذلك أخبرني أحد الأشخاص في ذلك المكان بينما كان يمر بجواري "ستذهب إلى النيابة، لا تفتح فمك، وإلا سنأتي بك إلى هنا مرة أخرى".

للمرة الأولى قضيت ثلاثة أيام بلا تعذيب وفي الرابع أخذوني إلى نيابة أمن الدولة العليا، كنت مثخنا بالجراح التي طالت عيني وأنفي، وبدلا من أن يظهر وكيل النيابة تعاطفا معي نظر لي باشمئزاز "ما هذا القرف" امنع هذه الدماء التي تنزف، فقد اتسخت الأرض بدمك القذر.

كانوا يتفنون في التعذيب، وذات مرة ركلني أحدهم بقدمه وطلب مني أن أجري وأنا معصوب العينين، وعندما سألته كيف انهال علي بالسوط حتى شعرت أن جسدي يتقطع فاضطررت للجري لأتفاجأ بأصوات كلاب تلاحقني

أمر وكيل النيابة مساعده بفتح المحضر وسألني ماذا تقول في التالي؟ ثم أخرج ورقة من جيبه وبدأ يقرأ منها اتهامات لا أعرف عنها أي شيء، وقبل أن ينتظر إجابتي طلب مني أن أوقع على محضر التحقيق، فنظرت إليه نظرة استعطاف وأنا أحرك شفتيّ محاولا الحديث، لكنه لم يعطني الفرصة وسارع بتهديدي "هل ستوقع أم أعيدك إلى المكان الذي جئت منه؟".

سلمت أمري إلى الله ووقعت لا أعرف على ماذا ولكن أملا في ألا أعود إلى ما كنت فيه من تعذيب. خرجت من النيابة وأخذوني إلى مكان لم أتبين هويته لكن ما إن وصلت إليه حتى جردوني من الثياب وانهالوا على بالضرب والسبّ وأنا أقول لهم "لم أفتح فمي كما طلبتم، فلماذا الضرب؟" وكانت الإجابة هي التحول من الضرب إلى الصعق بالكهرباء.

أنت الآن في سجن العقرب
كانوا يتفنون في التعذيب، وذات مرة ركلني أحدهم بقدمه وطلب مني أن أجري وأنا معصوب العينين، وعندما سألته كيف انهال علي بالسوط حتى شعرت أن جسدي يتقطع، فاضطررت للجري لأتفاجأ بأصوات كلاب تلاحقني فأصبحت أجري كالمجنون وأصطدم هنا وهناك وأسقط ثم أقوم وهم حولي يتضاحكون.

اصطدمت بأحدهم وتوسلت إليه أن يرحمني فرد بوصلة من السباب وقال لي "هنا مفيش عواطف، هنا مفيش رحمة، أنت في سجن العقرب يا ……..".

إذن فقد كان هذا حفل الاستقبال البشع الذي ينتظر كل قادم إلى هذا السجن سيئ السمعة، وعرفت أنني أصبحت متهما في قضية تحمل اسم "كتائب حلوان"، ومرت علي الشهور في قهر متواصل ووصلات من الضرب والشتم، وطعام لا يصلح حتى للكلاب، في زنزانة هي في الأصل حمام تم وضع باب حديدي ضخم عليه.

بعد ثمانية أشهر قال لي الحارس إن أهلي جاؤوا لزيارتي، بكيت وضحكت في آن وذهبت خلفه كالمجنون، فوجدت حائلا يحول بيني وبين أمي وزوجتي والمتاح لي فقط أن أتحدث معهم عبر الهاتف للحظات مع تهديد من الحارس بأن عليّ أن أنهي المكالمة حالما يأمر بذلك وإلا تعرضت لما لا أحب.

مرت اللحظات في بكاء متبادل خاصة وقد لمحت أمي جسدي وقد بات هزيلا حيث فقدت نحو ثلث وزني، بينما شعرت من وجهها أنها كبرت عشرين عاما خلال هذه الأشهر الثمانية.

هروب على غير تخطيط
استمر الحال أياما وأسابيع وشهورا حتى أكملت ثلاث سنوات دون أي بريق أمل، حتى جاء يوم 27 أغسطس/آب 2017 الذي جرى عرضنا فيه على المحكمة، وأثناء عودتنا مرت سيارة الترحيلات المتهالكة على مطب صناعي وهي تمشى بسرعة فكانت المفاجأة أن بابها قد انفتح على مصراعيه.

في ثوان معدودة حدث كل شيء، نظرنا إلى بعضنا دون أن نتكلم وقفزنا من السيارة التي كانت قد هدأت من سرعتها، وأسرعنا في الطرقات بينما بدأ الحراس في مطاردتنا بالرصاص، وكنت محظوظا أن نجوت وتمكنت بالفعل من الهرب، وكلما شعرت بالتعب تذكرت ما أعانيه من السجن فأعدو أسرع مما كنت أفعل.

‪موقع البوابة المصري نشر صورة عبد الوهاب وزميله محمود بعد هروبهما من سيارة الترحيلات‬ موقع البوابة المصري نشر صورة عبد الوهاب وزميله محمود بعد هروبهما من سيارة الترحيلات
‪موقع البوابة المصري نشر صورة عبد الوهاب وزميله محمود بعد هروبهما من سيارة الترحيلات‬ موقع البوابة المصري نشر صورة عبد الوهاب وزميله محمود بعد هروبهما من سيارة الترحيلات

تهت في الزحام ومشيت خائفا أترقب، وكلما سمعت صوت سيارة شرطة أسرع بالابتعاد، حتى وجدت نفسي أمام منطقة المقابر، شعرت بالانقباض خصوصا أن الليل كان قد دخل، لكن لم يكن أمامي خيار فدخلت إلى المقابر وجلست بينها وأجهشت بالبكاء حتى سمعت أذان الفجر وكانت تلك المرة الأولى منذ ثلاث سنوات.

في النهار بدأت أشعر بالجوع فخرجت من مخبئي وبحثت حتى وجدت قطعة خبز نال منها النمل وربما حشرات أخرى، فنظفتها في ثيابي والتهمتها لكنها لم توقف شعوري بالجوع، فتحركت حتى وجدت أشجار تين شوكي، وكانت ثمارها لم تنضج بعد لكن لم يكن أمامي خيار فتحملت ألم الشوك من أجل قطفها ثم تفاجأت بمرارتها ولم أستطع مضغها فابتلعتها.

الليلة التالية كانت شديدة البرودة، وبعد تردد قررت النزول إلى المقبرة بحثا عن الدفء وقاومت خوفي بالقول إنها أفضل على أي حال من "مقبرة العقرب".

في الأيام التالية اضطرني الجوع لقبول الطعام من بعض القادمين لزيارة القبور، وذات مرة كانت إحدى الزائرات كريمة معي فمنحتني طعاما كثيرا يكفيني لعدة أيام لكن الأمر انتهى بآلام معوية هائلة بسبب التلوث ما اضطرني للمغامرة والخروج من المقبرة إلى أقرب صيدلية ثم العودة بسرعة قبل أن يشتبه بي أحد.

كلاب وفئران ونمل
جاءت ليلة مقمرة، فجلست أفكر في أمي وزوجتي وأولادي وإخوتي، ما حالهم الآن؟ لعلهم علموا أني نجوت من جحيم العقرب لكن لا يعلمون أين أنا الآن، ترى هل قبضت الشرطة على أحد منهم؟ أسئلة كثيرة جالت بخاطري ولم أجد إجابة حتى نمت من التعب واستيقظت فجأة على نباح كلب يقترب مني مهاجما، كان شكله مخيفا كأنه نمر، فاستعنت بأحجار متناثرة حولي وأجبرته على الفرار، لكني لم أستطع النوم بقية تلك الليلة خوفا من هجمات أخرى.

في الصباح، كان أول ما فكرت فيه هو إيجاد أداة للدفاع عن النفس إذا وقعت هجمات مماثلة، وجدت شجرة صعدت إليها وقطعت منها غصنا يصلح كعصا، ثم مررته على سور المقبرة كي يصبح مدببا من إحدى جهاته كأنه حربة، ثم عدت إلى مقبرتي فوجدت عدوا آخر قد هاجمني، وهو النمل الذي انقض بالمئات وربما الآلاف على طعامي حتى التهمه أو أفسده.

قررت البحث عن مكان جديد واهتديت إلى منطقة تفصل بين المقابر ومصنع قديم مهجور، وكانت مليئة بالأشجار الضخمة تبدو مثل غابة، لكنها أيضا كانت عامرة بالكلاب الضالة، وكذلك الفئران التي كانت أكثر جرأة مما اعتدنا عليه في بيوتنا، فالفأر هنا لا يجري منك خوفا وإنما يقترب منك دون خوف إذا وجد أمامك طعاما، وشعرت بأنها تتصرف كأن المكان مكانها وأني أنا الوافد الغريب.

كنت أخرج نهارا إلى منطقة المقابر وأقرأ القرآن، وأعطاني بعض الزوار نقودا فتسللت إلى سوق شعبي قريب واشتريت ملابس جديدة وبطانية وبعض الطعام، كما اشتريت جهاز راديو صغيرا، ولم يفتني أن أشتري مسحوقا لمكافحة النمل للحفاظ على ما يتوفر عندي من طعام.

في مقر الشرطة تعرضت للترحيب المعتاد، تجريد من الثياب، تعليق، كهرباء، ضرب، ستة أيام ذقت فيها كل أنواع التعذيب، بعد ذلك أخذوني في سيارة إلى مكان لا أعرفه، لكنهم قالوا لي إنه "جحيم الدنيا"

إلى العقرب مجددا
بدأت أنظم وقتي، وأستمع إلى الراديو وأحيانا أقرأ كتبا حصلت عليها، وأحيانا أكتب بعض الخواطر سواء عن فترة السجن أو الهروب، لكن إزعاجا من نوع جديد داهمني بسبب تردد لصوص المقابر على المنطقة، وشعرت بأن ذلك سيجلب الشرطة إلى المكان حتما، وهو ما حدث حيث جاءت الشرطة عدة مرات نجحت خلالها في الاختباء لكني لم أنجح في المرة الأخيرة حيث أخذوني من مخبئ في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2017 وهم لا يعرفون من أنا.

في مقر الشرطة تعرضت للترحيب المعتاد، تجريد من الثياب، تعليق، كهرباء، ضرب، ستة أيام ذقت فيها كل أنواع التعذيب، بعد ذلك أخذوني في سيارة إلى مكان لا أعرفه، لكنهم قالوا لي إنه "جحيم الدنيا"، وبالفعل كان كما وصفوا، حيث قضيت فيه 12 يوما أتعرض لكل صنوف التعذيب، وفي اليوم الثالث عشر أخذوني للتحقيق أمام النيابة فلم يكن لي طلب إلا أن أرجوه حمايتي مما يحدث لي لكنه قال لي ساخرا "إنت لسه شفت حاجة؟" وتوسلت إليه ألا يعيدني إلى سجن العقرب فنظر إلي مستهزئا ولم يجب.

انتهى التحقيق الذي كان كما تعلمون، فهو يسأل ثم يكتب ما يريد وبعدها يأمرني بالتوقيع على ما لم أقله وما لا أعرفه، وبعدها أخذوني إلى "مقبرة الأحياء" مجددا، حيث نلت الاستقبال المعتاد رغم توسلي أن يرحموني لأني قادم من أيام أخرى من التعذيب وأشعر أن ظهري تعرض للكسر، لكن هذه التوسلات لم تجد طريقا إلى قلوبهم.

ظللت أياما لا أرى أحدا، باستثناء قادم يأتي يوميا ليلقي إلي برغيف خبز، ثم تحسن الحال فيما يخص المعاملة لكني ما زلت سجينا دون سبب أفهمه سوى أني أغلقت باب دكاني خوفا على دجاجاتي من الغاز، وليتني لم أفعل، لكن ماذا يفيد الندم؟!

المصدر : الجزيرة