معارك العشائر بالبصرة بين ضعف الدولة وغياب القانون

مجلس يضم عددا من شيوخ العشائر في البصرة
مجلس يضم عددا من شيوخ العشائر في البصرة (الجزيرة نت)

الجزيرة نتالبصرة

لم يكن من اليسير على عائلة الشاب وسام الشويلي أن تتقبل فكرة أن حياة ابنهم قد انتهت برصاصة طائشة أثناء خروجه إلى العمل في قضاء المدينة شمالي البصرة، أثناء تراشق بالنيران بين عشيرتين اعتادتا على حل نزاعاتهما بالسلاح الخفيف والمتوسط.

يقول والده إن ابنه الذي قتل قبل نحو سنة لم يعرف عنه أنه اشترك يوما في نزاع أو مشكلة، ولا كانت لديه خصومات مع أحد، لكنه دفع ثمن غياب الدولة وعجزها عن إيقاف هذه "المهازل"، كما يصفها.

وسقط وسام أثناء توجهه لعمله كبائع بسيط في أحد الأسواق، ورغم أن الجهة التي أصابته برصاصها دفعت الدية لأسرته، فإنهم أفقدوهم مصدر رزقهم الوحيد، فوالده شيخ طاعن في السن، وبقية أسرته من البنات اللاتي لا يستطعن الإنفاق على العائلة وتلبية متطلباتها.

ولا تختلف قصة وسام عن حال العشرات غيره، ممن يسقطون سنويا ضحية نزاعات العشائر في البصرة بين قتيل أو جريح، في حين تعجز الحكومة حتى الآن عن وضع حد لها.

وتكون غالبا أسباب هذه المعارك صغيرة أو غير مهمة، إلا أنها تتفاقم وتتحول إلى صدامات مسلحة تحرق الأخضر واليابس، وتعطل الحياة في مدن محافظة البصرة، خاصة في أقضيتها ونواحيها الشمالية ذات الطابع العشائري.

ودفعت هذه الصدامات المسلحة مئات العائلات للرحيل من مناطقهم باتجاه مركز المدينة الآمن نسبيا، لكن مصير مئات الآلاف الذين بقوا ما زالت المخاطر تكتنفه.

أحد التجمعات التي تعقد للمصالحة بين العشائر في البصرة (الجزيرة نت)
أحد التجمعات التي تعقد للمصالحة بين العشائر في البصرة (الجزيرة نت)

غياب الدولة
وقال عضو لجنة العشائر النيابية محمد الصيهود إن النزاعات بين العشائر كثرت في الوقت الحاضر، وباتت تهدد أمن المواطنين واستقرارهم بسبب غياب القانون وسلطة الدولة.

وأضاف للجزيرة نت أن العشائر أخذت مكان الدولة ومارست العديد من أدوارها، بل إن بعضها تمتلك اليوم من الأسلحة ما يفوق أسلحة الجيش والشرطة.

ويطالب الصيهود الدولة بالتحرك لسحب هذا السلاح، حتى لا يكون مصدرا للفوضى وإسالة الدماء، خاصة أن القضاء يصدر باستمرار أوامر بإلقاء القبض على قتلة وخارجين عن القانون، لكن عشائرهم تحميهم.

ويرجع سبب ذلك إلى أن الحكومات التي تعاقبت على العراق في السنوات الأخيرة كانت ضعيفة وغير قادرة على التعامل مع هذه الظاهرة، نتيجة المحاصصة الطائفية والحزبية.

ويعتقد الصيهود بأن القضاء على المحاصصة يمكن أن يحقق فرض القانون وهيبة الدولة، مستبعدا أن يحدث ذلك في ما تبقى من عمر هذه الحكومة "الضعيفة".

رايات عشائرية كانت حاضرة في تظاهرات البصرة الأخيرة (الجزيرة نت)
رايات عشائرية كانت حاضرة في تظاهرات البصرة الأخيرة (الجزيرة نت)

المشاركة بالتظاهرات
وتعاظم نفوذ هذه العشائر خلال السنوات الأخيرة، لدرجة أنها باتت تهاجم بعض الشركات الأجنبية، وتطرد موظفيها إذا لم تحقق الدولة مطالبها، وهو ما أثر بشكل واضح على الاستثمار في المحافظة.

ويقول علي الشبيبي -وهو رجل أعمال من مدينة النجف– إنه اضطر لمغادرة البصرة بعد أن قدم قبل بضع سنوات وبدأ تنفيذ مشاريع تجارية، لكن الوضع الأمني القلق دفعه للمغادرة.

ويؤكد أن الأجهزة الأمنية تعجز في كثير من الأحيان عن ضبط هذه النزاعات أو التدخل فيها، مخافة أن تصبح طرفا فيها، كما أن بعض الجنود يخافون أن يحسبوا على طرف معين، مما سيورطهم في مشاكل هم في غنى عنها.

وقد كان واضحا منذ البداية حجم الحضور العشائري في التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة، خاصة أثناء مهاجمة بعض الحقول النفطية والشركات الأجنبية، والمطالبة بتعيين أبنائها فيها بدل العمالة الوافدة.

وقال نائب -طلب عدم ذكر اسمه- إن مشاركة العشائر في الاحتجاجات يمكن أن تخفف حدة الصدامات المسلحة بينها، لكنها يمكن أن تؤجلها مؤقتا إلى حين معرفة مصير التظاهرات الحالية.

ونزحت معظم هذه العشائر من مناطق شمال البصرة ومحافظتي ميسان وذي قار باتجاه مركز المدينة منذ ستينيات القرن الماضي، مكونة بمرور الوقت أحزمة من المناطق السكنية التي يغلب عليها الفقر وغياب الخدمات وتردي التعليم والصحة.

‪
‪"المعهد مطلوب عشائريا" عبارة كتبت على إحدى المؤسسات الاجتماعية‬ (الجزيرة نت)

حل المشكلات
ويبرر أبو سجاد المالكي -وهو أحد شيوخ عشيرة بني مالك في منطقة الحيانية- تعاظم نفوذ العشائر في السنوات الأخيرة بعدم قدرة الدولة على حل مشاكل المواطنين وفصل نزاعاتهم، مما يضطر الأهالي للجوء إلى جهة مؤثرة لمساعدتهم.

ويشير إلى أن كثيرا من الأحزاب باتت تتحكم في المؤسسة القضائية، مما يدفع الأهالي لاختيار القانون العشائري والمعروف بـ"السناين"، كونه الأقدر على الدفاع عن حقوقهم، حسب قوله.

وكثيرا ما تتقاطع هذه السناين مع قوانين الدولة وتناقضها، لا سيما في القضايا المتعلقة بالديات والقصاص وحقوق المرأة، لكن المالكي يعتبرها ضمانا "للسلم الأهلي في ظل ضعف الحكومة وهيمنة الأحزاب عليها".

ووفقا للشيخ، فإن المعارك التي تدور رحاها بين العشائر باستمرار لا تمثل البصريين، ومن يقوم بها عناصر "منفلتة"، ينضم إليهم بعض أبناء عمومتهم من باب الحميّة والشعور بالخطر المشترك، وربما يسبب تخلفهم عنها ما يشبه "وصمة العار" داخل مناطقهم.

ويقترح المالكي على الحكومة أن تتحلى "بالصبر والتأني" لمعالجة هذه المشاكل، بدل الزج بقواتها الأمنية، كما بدأ يحدث مؤخرا، لأن وجودها بهذا الشكل يمكن أن يسبب استفزازا للسكان، ويؤدي إلى نتائج عكسية، بحسب قوله.

وبدأت الحكومة المركزية نشر مزيد من القوات مؤخرا في مناطق الصدامات بين هذه العشائر، في محاولة لإيقافها والحيلولة دون توسعها، إلا أن الكثيرين يعتبرون ذلك حلولا "ترقيعية"، ولن تقضي على المشكلة، التي تتعاظم يوما بعد آخر.

المصدر : الجزيرة